وهكذا يمضي سياق السورة موجة في إثر موجة على هذا النسق الذي عرضنا منه نماذج ، لعلها تصور طبيعة السورة ، كما تصور موضوعها . . وهي تبلغ في بعض موجاتها ذروة أعلى من ذرى هذه الموجات التي استعرضناها ; كما أن تدفقها في بعض المسالك أشد جيشانا وأعلى إيقاعا . . ولكننا لا نملك أن نستعرض السورة كلها في هذا التعريف المجمل ، وسيأتي شيء من ذلك في الفقرة التالية . .
ولقد سبق القول بأن هذه السورة تعالج موضوعها الأساسي بصورة فريدة ، إذ إنها في كل لمحة منها وفي كل موقف وفي كل مشهد ، تبلغ حد "الروعة الباهرة " التي تبده النفس وتشده الحس ، وتبهر النفس وهو يلاحق مشاهدها وإيقاعاتها وموحياتها . .
فالآن ندع نصوصا من السورة ذاتها تصور هذه الحقيقة بأسلوبها القرآني . ذلك أن الوصف مهما بلغ ، لا يبلغ شيئا في نقل هذه الحقيقة إلى القلب البشري !
وفي موقف التهديد ، حيث يتجلى سلطان الله محيطا بالعباد ; وتتعرى أمامه الفطرة ويسقط عنها الركام ، وتتجه إلى ربها الحق وحده وتنسى الآلهة الزائفة ، أمام الهول ، وأمام مصارع المكذبين :
وفي موقف شهادة الفطرة ، واهتدائها الذاتي إلى ربها الحق ، بمجرد تفتحها لاستقبال دلائل الهدى وموحياته في صفحات الكون ، التي تخاطب الفطرة بلسان مفهوم الإيقاع في أعماقها المكنونة :
وأخيرا في موقف الابتهال والإنابة إلى الله الواحد بلا شريك ، والتجرد له صلاة ونسكا ، ومحيا ومماتا ، واستنكار ابتغاء غيره ربا وهو رب كل شيء ، ورد الأمر إليه كله في الدنيا في أمر الاستخلاف والابتلاء ، وفي الآخرة في أمر الحساب والجزاء ، حيث تختم السورة بهذا الابتهال الخاشع المنيب :
وليست هذه النماذج الستة التي اخترناها إلا نماذج تصور حد "الروعة الباهرة " الذي يبلغه سياق السورة ، في كل موقف ، وفي كل مشهد ، وفي كل إيقاع ، وفي كل إيحاء . .
كذلك سبق القول : إن سياق السورة يبلغ حد الروعة الباهرة في كل مشهد وفي كل موقف ; مع تناسق في منهج العرض للمشاهد والمواقف ; ووعدنا أن نبين ما نعنيه بهذا التناسق .
ولن نعرض هنا إلا بعض النماذج في انتظار العرض التفصيلي للنصوص بعد التعريف المجمل . ونكتفي من هذا التناسق بثلاثة ألوان منه بارزة في سياق السورة :
إن السياق يعرض المشاهد والمواقف منوعة ; ولكنها تلتقي في ظاهرة واحدة . . إنه في كل مشهد أو موقف ، كأنما يأخذ بالسامع ليقفه أمام المشهد يتملاه ، وأمام الموقف يتدبره . . يقفه أمامه بحركة تكاد الألفاظ تجسمها ! كما أن المشاهد والمواقف ذاتها فيها ناس موقوفون ، يراهم السامع في وقفتهم ، والسياق يقفه هو الآخر ليشاهدهم ويتملاهم !
ففي مشاهد القيامة ومشاهد الاحتضار ترد هذه الوقفات :
وفي تمثيل حالة الضلال بعد الهدى ، والرجوع عن الحق بعد الاهتداء إليه ، يرسم مشهدا شاخصا يقف السامع أمامه يتملاه ، ولو لم يكن في اللفظ أمر بالنظر أو إشارة إلى الوقوف :
وهكذا كل مشاهد السورة ومواقفها يتجلى فيها هذا التناسق ويكون طابعها العام .
لون آخر من ألوان التناسق ، يمت إلى هذا اللون بصلة كذلك . . مواقف الإشهاد . .
إن مشاهد القيامة في السورة تعرض كأنما هي مواقف إشهاد على ما كان من المشركين والمكذبين ; ومواقف تشهير بهم ; وتوجيه للأنظار إلى هذه المواقف . . وقد سبق عرض نماذج منها . . وفي كل منها : ولو ترى ...
وتلتقي بها مواقف الإشهاد على العقيدة ، ومواقف الإشهاد على الشريعة . . كلتاهما سواء .
في أول السورة عند الحديث عن العقيدة في محيطها الشامل يجيء هذا الموقف :
حتى إذا جاء السياق إلى المناسبة الخاصة في السورة ، المتعلقة بالعقيدة في قضية التحريم والتحليل أقام مشهدا آخر ، ودعا إلى إشهاد على هذه القضية الخاصة ، كالإشهاد على تلك القضية العامة ، للدلالة على أنها هي هي من ناحية الموضوع ; ولضمان التناسق الذي هو طابع التعبير القرآني العام :
لون ثالث من ألوان التناسق ; هو التناسق التعبيري الذي يقتضيه التقرير الموضوعي . والذي يتمثل في تكرار عبارات بعينها للدلالة على أنها تعبير عن حقيقة واحدة في صور متعددة .
ففي الآية الأولى هم يعدلون بربهم لأنهم يشركون به . . وفي الثانية هم يعدلون بربهم لأنهم يشركون به كذلك . ممثلا هذا الشرك في ادعاء حق الألوهية في التشريع . . .
ولهذا دلالته الموضوعية ، وجماله التعبيري أيضا . . [ ص: 1029 ] كذلك يكرر كلمة الصراط ، وهو يعبر عن الإسلام جملة ; وهو يعبر عن قضية التشريع على هذا النحو :
فيدل على أن هذه القضية هي قضية العقيدة . وأن الالتزام فيها هو المضي على صراط الله ، وأن الانحراف فيها هو الخروج عن هذا الصراط . . وأنها قضية إيمان أو كفر ، وجاهلية أو إسلام . . كما فصلنا ذلك في مطلع الكلام !
وإلى هنا يحسن أن نكتفي في التعريف المجمل ، لنواجه نصوص السورة في سياقها القرآني بعون الله . . ووفق طبيعة السورة سنعرضها موجة موجة - لا درسا درسا كما تعودنا ذلك في السور المدنية - فهذه الطريقة في العرض أدنى إلى طبيعة السورة ; وإلى تحقيق التناسق بينها وبين ظلالها كذلك . .