وفي هذا المشهد - مشهد الحشر والمواجهة - يواجه المشركين - كل أنواع المشركين بكل ألوان الشرك - بسؤالهم عن الشركاء - كل أصناف الشركاء - أين هم ؟ فإنه لا يبدو لهم أثر ولا يكفون عن أتباعهم الهول والعذاب :
ويوم نحشرهم جميعا، ثم نقول للذين أشركوا: أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون؟ . .
والمشهد شاخص ، والحشر واقع ، والمشركون مسؤولون ذلك السؤال العظيم . . الأليم :
أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون؟ . .
وهنا يفعل الهول فعله . . هنا تتعرى الفطرة من الركام الذي ران عليها في الدنيا . . هنا ينعدم من الفطرة ومن الذاكرة - كما هو منعدم في الواقع والحقيقة - وجود الشركاء ; فيشعرون أنه لم يكن شرك ، ولم يكن شركاء . . لم يكن لهذا كله من وجود لا في حقيقة ولا واقع . . هنا "يفتنون " فيذهب الخبث ، ويسقط الركام - من فتنة الذهب بالنار ليخلص من الخبث والزبد - :
ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا: والله ربنا ما كنا مشركين . .
إن الحقيقة التي تجلت عنها الفتنة ، أو التي تبلورت فيها الفتنة ، هي تخليهم عن ماضيهم كله وإقرارهم بربوبية الله وحده ; وتعريهم من الشرك الذي زاولوه في حياتهم الدنيا . . ولكن حيث لا ينفع الإقرار بالحق والتعري من الباطل . . فهو إذن بلاء هذا الذي تمثله قولتهم وليس بالنجاة . . لقد فات الأوان . . فاليوم للجزاء لا للعمل . . واليوم لتقرير ما كان لا لاسترجاع ما كان . .
لذلك يقرر الله سبحانه ، معجبا رسوله - صلى الله عليه وسلم - من أمر القوم ، أنهم كذبوا على أنفسهم يوم اتخذوا هؤلاء الشركاء شركاء ، حيث لا وجود لشركتهم مع الله في الحقيقة . وأنهم اليوم غاب عنهم ما كانوا يفترونه ، فاعترفوا بالحق بعدما غاب عنهم الافتراء :
انظر كيف كذبوا على أنفسهم، وضل عنهم ما كانوا يفترون . .
فالكذب منهم كان على أنفسهم ; فهم كذبوها وخدعوها يوم اتخذوا مع الله شريكا ، وافتروا على الله هذا الافتراء . وقد ضل عنهم ما كانوا يفترون وغاب ، في يوم الحشر والحساب !
هذا هو التأويل الذي أستريح إليه في حلفهم بالله يوم القيامة وهم في حضرته : أنهم ما كانوا مشركين . وفي تأويل كذبهم على أنفسهم كذلك . فهم لا يجرؤون يوم القيامة أن يكذبوا على الله ، وأن يحلفوا أنهم ما كانوا مشركين عامدين بالكذب على الله - كما تقول بعض التفاسير - فهم يوم القيامة لا يكتمون الله حديثا . . إنما هو تعري الفطرة عن الشرك أمام الهول الرعيب ; وانمحاء هذا الباطل الكاذب حتى لا أثر له في حسهم يومذاك . ثم تعجيب الله - سبحانه - من كذبهم الذي كذبوه على أنفسهم في الدنيا ; والذي لا ظل له في حسهم ولا في الواقع يوم القيامة ! . .
والله أعلم بمراده على كل حال . . إنما هو احتمال . .
ويمضي السياق يصور حال فريق من المشركين ; ويقرر مصيرهم في مشهد من مشاهد القيامة . . يصور حالهم
[ ص: 1065 ] وهم يستمعون القرآن معطلي الإدراك ، مطموسي الفطرة ، معاندين مكابرين ، يجادلون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم على هذا النحو من الاستغلاق والعناد ، ويدعون على هذا القرآن الكريم أنه أساطير الأولين ; وينأون عن سماعه وينهون غيرهم عنه أيضا . . يصور حالهم هكذا في الدنيا في صفحة ، وفي الصفحة الأخرى يرسم لهم مشهدا كئيبا مكروبا ; وهم موقوفون على النار محبوسون عليها ، وهي تواجههم بهول المصير الرعيب ; وهم يتهافتون متخاذلين ; ويتهاوون متحسرين ; يتمنون لو يردون إلى الدنيا فيكون لهم موقف غير ذلك الموقف ، الذي انتهى بهم إلى هذا المصير . فيردون عن هذا التمني بالتصغير والتحقير :
ومنهم من يستمع إليك، وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا، وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها، حتى إذا جاءوك يجادلونك، يقول الذين كفروا: إن هذا إلا أساطير الأولين وهم ينهون عنه وينأون عنه، وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا: يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل، ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه، وإنهم لكاذبون . .
إنهما صفحتان متقابلتان : صفحة في الدنيا يرتسم فيها العناد والإعراض ; وصفحة في الآخرة يرتسم فيها الندم والحسرة . . يرسمهما السياق القرآني ، ويعرضهما هذا العرض المؤثر الموحي ; ويخاطب بهما الفطر الجاسية ; ويهز بها هذه الفطر هزا ، لعل الركام الذي ران عليها يتساقط ، ولعل مغاليقها الصلدة تتفتح ، ولعلها تفيء إلى تدبر هذا القرآن قبل فوات الأوان .
ومنهم من يستمع إليك، وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا، وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها . .
والأكنة : الأغلفة التي تحول دون أن تتفتح هذه القلوب فتفقه ; والوقر : الصمم الذي يحول دون هذه الآذان أن تؤدي وظيفتها فتسمع . .
وهذه النماذج البشرية التي تستمع ; ولكنها لا تفقه ، كأن ليس لها قلوب تدرك ; وكأن ليس لها آذان تسمع . . نماذج مكرورة في البشرية في كل جيل وفي كل قبيل ، في كل زمان وفي كل مكان . . إنهم أناسي من بني
آدم . . ولكنهم يسمعون القول وكأنهم لا يسمعونه . كأن آذانهم صماء لا تؤدي وظيفتها . وكأن إدراكهم في غلاف لا تنفذ إليه مدلولات ما سمعته الآذان !
وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها. حتى إذا جاءوك يجادلونك. يقول الذين كفروا: إن هذا إلا أساطير الأولين . .
فأعينهم ترى كذلك . ولكن كأنها لا تبصر . أو كأن ما تبصره لا يصل إلى قلوبهم وعقولهم !
فما الذي أصاب القوم يا ترى ؟ ما الذي يحول بينهم وبين التلقي والاستجابة . بينما لهم آذان ولهم عيون ولهم عقول ؟ يقول الله - سبحانه - :
وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا. وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها . .
وهذا يعبر عن قضاء الله فيهم بألا يتلقى إدراكهم هذا الحق ولا يفقهه ; وبألا تؤدي أسماعهم وظيفتها فتنقل إلى إدراكهم ما تسمع من هذا الحق فتستجيب له ، مهما يروا من دلائل الهدى وموحيات الإيمان .
غير أنه يبقى أن نلتمس سنة الله في هذا القضاء . . إنه سبحانه يقول :
والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا . .
[ ص: 1066 ] ويقول :
ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها . .
فشأن الله - سبحانه - أن يهدي من يجاهد ليبلغ الهدى ; وأن يفلح من يزكي نفسه ويطهرها . . فأما هؤلاء فلم يتجهوا إلى الهدى ليهديهم الله ; ولم يحاولوا أن يستخدموا أجهزة الاستقبال الفطرية في كيانهم ، فييسر الله لهم الاستجابة . . هؤلاء عطلوا أجهزتهم الفطرية ابتداء ; فجعل الله بينهم وبين الهدى حجابا ; وجرى قضاؤه فيهم بهذا الذي جرى جزاء على فعلهم الأول ونيتهم الأولى . . وكل شيء إنما يكون بأمر الله . ومن أمر الله أن يهدي من يجاهد ، وأن يفلح من يتزكى . ومن أمر الله أن يجعل على قلوب المعرضين أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا ، وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها . . والذين يحيلون ضلالهم وشركهم وخطاياهم على إرادة الله بهم ، وعلى قضائه فيهم ، إنما يغالطون في هذه الإحالة . والله سبحانه يجبههم بالحق ، وهو يحكي أقوالهم في هذا الشأن ويسفهها :
وقال الذين أشركوا: لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا، ولا حرمنا من دونه من شيء. كذلك فعل الذين من قبلهم. فهل على الرسل إلا البلاغ المبين ولقد بعثنا في كل أمة رسولا: أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت، فمنهم من هدى الله، ومنهم من حقت عليه الضلالة، فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين . . فدل هذا على إنكار الله عليهم قولهم ; وعلى أن الضلالة إنما حقت عليهم - بعد النذارة - بفعلهم . .
والذين أثاروا قضايا القضاء والقدر ، والجبر والاختيار ، وإرادة العبد وكسبه . . ليجعلوا منها مباحث لاهوتية ، تخضع لما تتصوره عقولهم من فروض وتقديرات ، إنما يجانبون منهج القرآن في عرض هذه القضية في صورتها الواقعية التقريرية البسيطة ; التي تقرر أن كل شيء إنما يكون بقدر من الله ; وأن اتجاه الإنسان على هذا النحو أو ذاك داخل في حدود فطرته التي خلقه الله عليها ، والتي جرى بها قدر الله فكانت على ما كانت عليه ; وأن اتجاهه على هذا النحو أو ذاك تترتب عليه نتائج وآثار في الدنيا والآخرة يجري بها قدر الله أيضا ، فتكون . . وبهذا يكون مرجع الأمر كله إلى قدر الله . . ولكن على النحو الذي يرتب على إرادة الإنسان الموهوبة له ما يوقعه قدر الله به . . وليس وراء هذا التقرير إلا الجدل الذي ينتهي إلى المراء !
والمشركون كانت معروضة عليهم أمارات الهدى ودلائل الحق وموحيات الإيمان ، في هذا القرآن ، الذي يلفتهم إلى آيات الله في الأنفس والآفاق ; وهي وحدها كانت كفيلة - لو اتجهت إليها قلوبهم - أن توقع على أوتار هذه القلوب ، وأن تهز فيها المدارك الغافية فتوقظها وتحييها ، لتتلقى وتستجيب . . إلا أنهم هم لم يجاهدوا ليهتدوا ; بل عطلوا فطرتهم وحوافزها ; فجعل الله بينهم وبين موحيات الهدى حجابا ; وصاروا حين يجيئون إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يجيئون مفتوحي الأعين والآذان والقلوب ; ليتدبروا ما يقوله لهم تدبر الباحث عن الحق ; ولكن ليجادلوا ويتلمسوا أسباب الرد والتكذيب :
حتى إذا جاءوك يجادلونك يقول الذين كفروا: إن هذا إلا أساطير الأولين . .
والأساطير جمع أسطورة . وكانوا يطلقونها على الحكايات التي تتضمن الخوارق المتعلقة بالآلهة والأبطال في قصص الوثنيات . وأقربها إليهم كانت الوثنية الفارسية وأساطيرها .
وهم كانوا يعلمون جيدا أن هذا القرآن ليس بأساطير الأولين . ولكنهم إنما كانوا يجادلون ; ويبحثون عن أسباب الرد والتكذيب ; ويتلمسون أوجه الشبهات البعيدة . . وكانوا يجدون فيما يتلى عليهم من القرآن قصصا عن الرسل وأقوامهم ; وعن مصارع الغابرين من المكذبين . فمن باب التمحل والتماس أوهى الأسباب ، قالوا عن هذا القصص وعن القرآن كله :
إن هذا إلا أساطير الأولين !
[ ص: 1067 ] وإمعانا في صرف الناس عن الاستماع لهذا القرآن ، وتثبيت هذه الفرية . . فرية أن هذا القرآن إن هو إلا أساطير الأولين . .كان
مالك بن النضر ، وهو يحفظ أساطير فارسية عن
رستم واسفنديار من أبطال
الفرس الأسطوريين ، يجلس مجلسا قريبا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يتلو القرآن . فيقول للناس : إن كان
محمد يقص عليكم أساطير الأولين ، فعندي أحسن منها ! ثم يروح يقص عليهم مما عنده من الأساطير ، ليصرفهم عن الاستماع إلى القرآن الكريم !
ولقد كانوا كذلك ينهون الناس عن الاستماع إليه - وهم كبراؤهم - وينأون هم عن الاستماع خشية التأثر والاستجابة :
وهم ينهون عنه، وينأون عنه، وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون . .
لقد كانوا على يقين من أنه ليس أساطير الأولين . وأن مواجهته بأساطير الأولين لا تجدي لو ترك الناس يسمعون ! وكان كبراء
قريش يخافون على أنفسهم من تأثير هذا القرآن فيها كما يخافون على أتباعهم . فلم يكن يكفي إذن في المعركة بين الحق النفاذ بسلطانه القوي ، والباطل الواهن المتداعي ، أن يجلس
النضر بن الحارث يروي للناس أساطير الأولين ! ومن ثم كانوا ينهون أتباعهم أن يستمعوا لهذا القرآن ; كما كانوا هم أنفسهم ينأون بأنفسهم - خوفا عليها أن تتأثر وتستجيب - وحكاية
الأخنس بن شريق ،
nindex.php?page=showalam&ids=12026وأبي سفيان بن حرب ،
وعمرو بن هشام وهم يقاومون جاذبية القرآن التي تشدهم شدا إلى التسمع في خفية لهذا القرآن حكاية مشهورة في السيرة .
وهذا الجهد كله الذي كانوا يبذلونه ليمنعوا أنفسهم ويمنعوا غيرهم من الاستماع لهذا القرآن ; ومن التأثر به والاستجابة له . . هذا الجهد كله إنما كانوا يبذلونه في الحقيقة لإهلاك أنفسهم - كما يقرر الله - سبحانه :
وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون ! وهل يهلك إلا نفسه من يجاهد نفسه ويجاهد غيره دون الهدى والصلاح والنجاة ، في الدنيا والآخرة ؟
إنهم مساكين أولئك الذين يجعلون همهم كله في الحيلولة بين أنفسهم والناس معهم وبين هدى الله ! مساكين ! ولو تبدوا في ثياب الجبابرة وزي الطواغيت ! مساكين فهم لا يهلكون إلا أنفسهم في الدنيا والآخرة . وإن بدا لهم حينا من الدهر وبدا للمخدوعين بالزبد أنهم رابحون مفلحون .