إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فأنى تؤفكون فالق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير [ ص: 1151 ] قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها وما أنا عليكم بحفيظ وكذلك نصرف الآيات وليقولوا درست ولنبينه لقوم يعلمون اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين ولو شاء الله ما أشركوا وما جعلناك عليهم حفيظا وما أنت .عليهم بوكيل ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ولكن أكثرهم يجهلون
نحن في حاجة إلى أن نستحضر هنا كل ما قلناه من وصف هذه السورة عند التعريف بها . . في حاجة لأن نستحضر ما قلناه عن تدافع الموجات المتلاحقة في المجرى المتدفق ; وعن الروعة الباهرة ، التي يصل إليها التعبير والتصوير والإيقاع من سياقها :
"وهذه السورة تعالج موضوعها الأساسي بصورة فريدة . . إنها في كل لمحة منها ، وفي كل موقف ، وفي كل مشهد ، تمثل "الروعة الباهرة " . . الروعة التي تبده النفس ، وتشده الحس ، وتبهر النفس أيضا ، وهو يلاحق مشاهدها وإيقاعها وموحياتها مبهورا ! "
. . . وهي تشبه في سياقها المتدافع بهذه المشاهد والمواقف والموحيات والإيقاعات والصور والظلال ، مجرى النهر المتدافع بالأمواج المتلاحقة . لا تكاد الموجة تصل إلى قرارها ، حتى تجد الموجة التالية ملاحقة لها ، ومتشابكة معها ، في المجرى المتصل المتدفق .
وهي في كل موجة من هذه الموجات المتدافعة المتلاحقة المتشابكة ، تبلغ حد الروعة الباهرة التي وصفنا . . مع تناسق منهج العرض في شتى المشاهد . . وتأخذ على النفس أقطارها بالروعة الباهرة ، وبالحيوية الدافقة ، وبالإيقاع التصويري والتعبيري والموسيقي ، وبالتجمع والاحتشاد ، ومواجهة النفس من كل درب ومن كل نافذة . .
. . . إلخ . . . إلخ . . .
[ ص: 1152 ] إن هذه السمات كلها تتجلى في هذا الدرس ، على أتمها وأوفاها . . إن القارئ يحس كأنما المشاهد تنبثق انبثاقا هي ومدلولاتها في التماع ولألاء . وهي تتدافع في انبثاقها أمام الحس ، كما تتدافع إيقاعات التعبير اللفظي عنها لتتناسق معها . والمشاهد والتعبير يتوافيان كذلك مع المدلولات التي يعبران عنها ، ويهدفان إليها !
إن كل مشهد من هذه المشاهد كأنما هو انبثاقة لامعة رائعة تجيء من المجهول ! وتتجلى للحواس والقلب والعقل في بهاء أخاذ . .
والعبارة ذاتها كأنما هي انبثاقة كذلك ! وإيقاع العبارة يتناسق في بهاء مع المشهد ومع المدلول . يتناسق معه في قوة الانبثاق ، وفي شدة اللألاء .
وتتدفق المدلولات والمشاهد والعبارات في موجات متلاحقة ، يتابعها الحس في بهر ! وما يكاد يصل مع الموجة إلى قرارها حتى يجد نفسه مندفعا مرة أخرى مع موجة جديدة . . كالذي حاولنا أن نصف به السورة في مطالعها من قبل !
وصفحة الوجود بجملتها مفتوحة . والمشاهد تتوالى - وكدت أقول : تتواثب - من هنا ومن هناك في الصفحة الفسيحة الأرجاء . .
والجمال هو السمة البارزة هنا . . الجمال الذي يبلغ حد الروعة الباهرة . . المشاهد منتقاة وملتقطة من الزاوية الجمالية . والعبارات كذلك في بنائها اللفظي الإيقاعي ، وفي دلالتها . والمدلولات أيضا - على كل ما تزخر به الحقيقة الأصيلة في هذه العقيدة - تتناول هذه الحقيقة من الزاوية الجمالية . . فتبدو الحقيقة ذاتها وكأنما تتلألأ في بهاء !
ومما يوحي بالسمت الجمالي السابغ ذلك التوجيه الرباني إلى تملي الجمال في ازدهار الحياة وازدهائها :
انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه . . فهو التوجيه المباشر إلى الجمال الباهر . . للنظر والتملي والاستمتاع الواعي .
ثم ينتهي هذا الجمال إلى ذروته التي تروع وتبهر في ختام الاستعراض الكوني الحي ، حين يصل إلى ما وراء هذا الكون الجميل البهيج الرائع . . إلى بديع السماوات والأرض الذي أودع الوجود كل هذه البدائع . .
فيتحدث عنه - سبحانه - حديثا لا تنقل روعته إلا العبارة القرآنية بذاتها :
لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار، وهو اللطيف الخبير . .
وبعد ، فنحن - في هذا الدرس - أمام كتاب الكون المفتوح ، الذي يمر به الغافلون في كل لحظة . فلا يقفون أمام خوارقه وآياته ، ويمر به المطموسون فلا تتفتح عيونهم على عجائبه وبدائعه . . وها هو ذا النسق القرآني العجيب يرتاد بنا هذا الوجود ، كأنما نهبط إليه اللحظة ، فيقفنا أمام معالمه العجيبة ، ويفتح أعيننا على مشاهده الباهرة ، ويثير تطلعنا إلى بدائعه التي يمر عليها الغافلون غافلين !
ها هو ذا يقفنا أمام الخارقة المعجزة التي تقع في كل لحظة من الليل والنهار . . خارقة انبثاق الحياة النابضة من هذا الموات الهامد . . لا ندري كيف انبثقت ، ولا ندري من أين جاءت إلا أنها جاءت من عند الله وانبثقت بقدر من الله . لا يقدر بشر على إدراك كنهها بله ابتداعها !
وها هو ذا يقف بنا أمام دورة الفلك العجيبة . . الدورة الهائلة الدائبة الدقيقة . . وهي خارقة لا يعدلها شيء
[ ص: 1153 ] مما يطلبه الناس من الخوارق . . وهي تتم في كل يوم وليلة . بل تتم في كل ثانية ولحظة . .
وها هو ذا يقف بنا أمام نشأة الحياة البشرية . . من نفس واحدة . . وأمام تكاثرها بتلك الطريقة .
وها هو ذا يقف بنا أمام نشأة الحياة في النبات . . وأمام مشاهد الأمطار الهاطلة ، والزروع النامية ، والثمار اليانعة . وهي حشد من الحيوات والمشاهد ، ومجال للتأمل والريادة . لو نشاهدها بالحس المتوفز والقلب المتفتح .
وها هو ذا الوجود كله ، جديدا كأنما نراه أول مرة . حيا يعاطفنا ونعاطفه ، متحركا تدب الحركة في أوصاله ، عجيبا يشده الحواس والمشاعر . ناطقا بذاته عن خالقه . دالا بآياته على تفرده وقدرته . .
وعندئذ يبدو الشرك بالله - والسياق يواجه الشرك والمشركين بهذا الاستعراض - غريبا غريبا على فطرة هذا الوجود وطبيعته . وشائها شائها في ضمير من يشاهد هذا الوجود الحافل بدلائل الهدى ويتأمله . وتسقط حجة الشرك والمشركين ، في مواجهة هذا الإيمان الغامر في مجالي الوجود العجيب . .
والمنهج القرآني - في خطاب الكينونة البشرية بحقيقة الألوهية وفي بيانه لموقف العبودية منها - يجعل حقيقة الخلق والإنشاء للكون ، وحقيقة الخلق والإنشاء للحياة ، وحقيقة كفالة الحياة بالرزق الذي ييسره لها الله في ملكه ، وحقيقة السلطان الذي يخلق ويرزق ويتصرف في عالم الأسباب بلا شريك . . يجعل من هذه الحقائق مؤثرا موحيا . وبرهانا قويا على ضرورة ما يدعو إليه البشر : من العبودية لله وحده ، وإخلاص الاعتقاد والعبادة والطاعة والخضوع له وحده . . وكذلك يجيء في السياق - بعد استعراض صفحة الوجود ; وانكشاف حقيقة الخلق والإنشاء والرزق والكفالة والسلطان - الدعوة إلى عبادة الله وحده ، أي إلى إفراده سبحانه بالألوهية وخصائصها ، في حياة العباد كلها ; وجعل الحاكمية والتحاكم إليه وحده في شؤون الحياة كافة ، واستنكار ادعاء الألوهية أو إحدى خصائصها .
وكذلك نجد في هذا الدرس قوله تعالى :
ذلكم الله ربكم، لا إله إلا هو، خالق كل شيء فاعبدوه، وهو على كل شيء وكيل . . نموذجا للمنهج القرآني في ربط العبادة الخالصة ، بإفراد الألوهية لله وحده ، مع تقرير أنه - سبحانه -
خالق كل شيء ..
وهو على كل شيء وكيل . .
وفي نهاية الدرس - وبعد عرض هذه الآيات في صفحة الوجود كله - يكشف عن تفاهة طلب الخوارق ، كما يكشف عن طبيعة المكذبين المعاندة ، التي لا تتخلف عن الإيمان لنقص في الآيات والدلائل ; ولكن لطبع فيها مطموس ! وإلا فهذه الآيات تزحم الوجود .