وعلى ختام المشهد يلتفت السياق بالخطاب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن وراءه من المؤمنين ; وإلى الناس أجمعين ; ليعقب على هذا الحكم الصادر بجزاء الشياطين من الإنس والجن ; وبإحالة هذا الحشد الحاشد إلى النار ; وعلى إقرارهم بأن الرسل قد جاءت إليهم، تقص عليهم آيات الله، وتنذرهم لقاء يومهم هذا.. ليعقب على هذا المشهد وما كان فيه، بأن
عذاب الله لا ينال أحدا إلا بعد الإنذار ; وأن
الله لا يأخذ العباد بظلمهم (أي بشركهم) إلا بعد أن ينبهوا من غفلتهم ; وتقص عليهم الآيات، وينذرهم المنذرون:
ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى - بظلم - وأهلها غافلون ..
لقد اقتضت
رحمة الله بالناس ألا يؤاخذهم على الشرك والكفر حتى يرسل إليهم الرسل، على الرغم مما أودعه فطرتهم من الاتجاه إلى ربها - فقد تضل هذه الفطر - وعلى الرغم مما أعطاهم من
قوة العقل والإدراك -
[ ص: 1210 ] فالعقل قد يضل تحت ضغط الشهوات - وعلى الرغم مما في كتاب الكون المفتوح من آيات - فقد تتعطل أجهزة الاستقبال كلها في الكيان البشري.
لقد ناط بالرسل والرسالات مهمة استنقاذ الفطرة من الركام، واستنقاذ العقل من الانحراف، واستنقاذ البصائر والحواس من الانطماس. وجعل
العذاب مرهونا بالتكذيب والكفر بعد البلاغ والإنذار.
وهذه الحقيقة كما أنها تصور رحمة الله بهذا الإنسان وفضله، كذلك تصور قيمة المدارك البشرية من فطرة وعقل وتقرر أنها - وحدها - لا تعصم من الضلال، ولا تهدي إلى يقين، ولا تصبر على ضغط الشهوات.. ما لم تساندها العقيدة وما لم يضبطها الدين ..
ثم يقرر السياق حقيقة أخرى في شأن الجزاء.. للمؤمنين وللشياطين سواء:
ولكل درجات مما عملوا. وما ربك بغافل عما يعملون ..
فللمؤمنين درجات: درجة فوق درجة. وللشياطين درجات: درجة تحت درجة! وفق الأعمال. والأعمال مرصودة لا يغيب منها شيء:
وما ربك بغافل عما يعملون .
على أن الله - سبحانه - إنما يرسل رسله رحمة بالعباد; فهو غني عنهم; وعن إيمانهم به وعبادتهم له. وإذا أحسنوا فإنما يحسنون لأنفسهم في الدنيا والآخرة. كذلك تتجلى رحمته في الإبقاء على الجيل العاصي الظالم المشرك، وهو القادر على أن يهلكه، وينشئ جيلا آخر يستخلفه:
وربك الغني ذو الرحمة. إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء. كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين .
فلا ينس الناس أنهم باقون برحمة الله ; وأن بقاءهم معلق بمشيئة الله ; وأن ما في أيديهم من سلطان إنما خولهم الله إياه. فليس هو سلطانا أصيلا ; ولا وجودا مختارا. فما لأحد في نشأته ووجوده من يد ; وما لأحد فيما أعطيه من السلطان من قدرة. وذهابهم واستخلاف غيرهم هين على الله. كما أنه أنشأهم من ذرية جيل غبر. واستخلفوا هم من بعده بقدر من الله.
إنها طرقات قوية وإيقاعات عنيفة على قلوب الظالمين من شياطين الإنس والجن الذين يمكرون ويتطاولون، ويحرمون ويحللون، ويجادلون في شرع الله بما يشرعون. وهم هكذا في قبضة الله يبقيهم كيف شاء ، ويذهب بهم أنى شاء ، ويستخلف من بعدهم ما يشاء . . كما أنها إيقاعات من التثبيت والطمأنينة والثقة في قلوب العصبة المسلمة ، التي تلقى العنت من
كيد الشياطين ومكرهم ; ومن أذى المجرمين وعدائهم . . فهؤلاء هم في
قبضة الله ضعافا حتى وهم يتجبرون في الأرض ويمكرون !
ثم إيقاع تهديدي آخر :
إن ما توعدون لآت ، وما أنتم بمعجزين
إنكم في يد الله وقبضته ، ورهن مشيئته وقدره . فلستم بمفلتين أو مستعصين . . ويوم الحشر الذي شاهدتم
[ ص: 1211 ] منه مشهدا منذ لحظة ينتظركم ; وإنه لآت لا ريب فيه ، ولن تفلتوا يومها ، ولن تعجزوا الله القوي المتين .
وتنتهي التعقيبات بتهديد آخر ملفوف ، عميق الإيحاء والتأثير في القلوب :
قل : يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل ، فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار ، إنه لا يفلح الظالمون .
إنه تهديد الواثق من الحق الذي معه ، والحق الذي وراءه ; ومن القوة التي في الحق ، والقوة التي وراء الحق . . التهديد من الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأنه نافض يديه من أمرهم ، واثق مما هو عليه من الحق ، واثق من منهجه وطريقه ، واثق كذلك مما هم عليه من الضلال ، وواثق من مصيرهم الذي هم إليه منتهون :
إنه لا يفلح الظالمون . .
فهذه هي القاعدة التي لا تتخلف . . إنه لا يفلح المشركون ، الذين يتخذون من دون الله أولياء . وليس من دون الله ولي ولا نصير . والذين لا يتبعون هدى الله . وليس وراءه إلا الضلال البعيد وإلا الخسران المبين . .
وقبل أن نمضي مع سياق السورة حلقة جديدة ، نقف وقفة سريعة مع هذه الحلقة الوسيطة بين حديث عن تشريع الذبائح - ما ذكر اسم الله عليه وما لم يذكر اسم الله عليه - وحديث عن النذور من الثمار والأنعام والأولاد . . هذه الحلقة التي تضمنت تلك الحقائق الأساسية من حقائق العقيدة البحتة ; كما تضمنت مشاهد وصورا وتقريرات عن طبيعة الإيمان وطبيعة الكفر ; وعن المعركة بين الشياطين من الإنس والجن وبين أنبياء الله والمؤمنين بهم ; كما تضمنت ذلك الحشد من المؤثرات الموحية التي سبقت نظائرها في سياق السورة وهو يواجه ويعرض . حقائق العقيدة الكبرى في محيطها الشامل . .
نقف هذه الوقفة السريعة مع هذه الحلقة الوسيطة ; لنرى كم يحفل المنهج القرآني بهذه الواقعيات العملية ، وهذه الجزئيات التطبيقية في الحياة البشرية ; وكم يحفل بانطباقها على شريعة الله ; وعلى تقرير الأصل الذي يجب أن تستند إليه ; وهو حاكمية الله . . أو بتعبير آخر ربوبية الله . .
فلماذا يحفل المنهج القرآني هكذا بهذه القضية؟
يحفل بها لأنها من ناحية المبدأ تلخص قضية " العقيدة " في الإسلام ; كما تلخص قضية " الدين " . فالعقيدة في الإسلام تقوم على أساس
شهادة : أن لا إله إلا الله . وبهذه الشهادة يخلع المسلم من قلبه ألوهية كل أحد من العباد ويجعل
الألوهية لله . ومن ثم يخلع الحاكمية عن كل أحد ويجعل الحاكمية كلها لله . . والتشريع للصغيرة هو مزاولة لحق الحاكمية كالتشريع للكبيرة . فهو من ثم مزاولة لحق الألوهية ، يأباه المسلم إلا لله . . والدين في الإسلام هو دينونة العباد في واقعهم - العملي - كما هو الأمر في العقيدة القلبية - لألوهية واحدة هي ألوهية الله ، ونفض كل دينونة في هذا الواقع لغير الله من العباد المتألهين ! والتشريع هو مزاولة للألوهية ، والخضوع للتشريع هو الدينونة لهذه الألوهية . . ومن ثم يجعل المسلم دينونته في هذا لله وحده ; ويخلع ويرفض الدينونة لغير الله من العباد المتألهين !
من هنا ذلك الاحتفال كله في القرآن كله بتقرير هذه الأصول الاعتقادية ، والاتكاء عليها على هذا النحو الذي نرى صورة منه في سياق هذه السورة المكية . . والقرآن المكي - كما أسلفنا في التقديم لهذه السورة في الجزء السابع - لم يكن يواجه قضية النظام والشرائع في حياة الجماعة المسلمة ; ولكنه كان يواجه قضية العقيدة
[ ص: 1212 ] والتصور . ومع هذا فإن السورة تحفل هذا الاحتفال بتقرير هذا الأصل الاعتقادي في موضوع الحاكمية . .
ولهذا دلالته العميقة الكبيرة . .