ثم يمضي في تفنيد دعاوى أهل الكتاب عامة: اليهود والنصارى ، وقولهم: إنهم هم المهتدون وحدهم! وإن الجنة وقف عليهم لا يدخلها سواهم! على حين يجبه كل فريق منهم الآخر بأنهم ليسوا على شيء! ويقرر في ثنايا عرض هذه الدعاوى العريضة حقيقة الأمر، ويقول كلمة الفصل في العمل والجزاء:
وقالوا: لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى. تلك أمانيهم. قل: هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين بلى! من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون وقالت اليهود ليست النصارى على شيء، وقالت النصارى: ليست اليهود على شيء - وهم يتلون الكتاب - كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم. فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ..
والذين كانوا يواجهون المسلمين في
المدينة كانوا هم اليهود ; إذ لم تكن هناك كتلة من النصارى تقف مواقف اليهود . ولكن النص هنا عام يواجه مقولات هؤلاء وهؤلاء. ثم يجبه هؤلاء بهؤلاء! ويحكي رأي المشركين في الطائفتين جميعا!
وقالوا: لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ..
وهذه حكاية قولهم مزدوجة. وإلا فقد كانت اليهود تقول: لن يدخل الجنة إلا من كان هودا - أي: من يهود - وكانت النصارى تقول: لن يدخل الجنة إلا من كان من النصارى ..
وهذه القولة كتلك، لا تستند إلى دليل، سوى الادعاء العريض! ومن ثم يلقن الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يجبههم بالتحدي وأن يطالبهم بالدليل:
قل: هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ..
وهنا يقرر قاعدة من قواعد التصور الإسلامي في
ترتيب الجزاء على العمل بلا محاباة لأمة ولا لطائفة ولا لفرد. إنما هو الإسلام والإحسان، لا الاسم والعنوان:
بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن، فله أجره عند ربه، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ..
ومن قبل قرر هذه القاعدة في العقاب ردا على قولهم:
لن تمسنا النار إلا أياما معدودة .. فقال:
بلى! من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون
.. إنها قاعدة واحدة بطرفيها في العقوبة والمثوبة. طرفيها المتقابلين:
من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته ..
فهو حبيس هذه الخطيئة المحيطة، في معزل عن كل شيء وعن كل شعور وعن كل وجهة إلا وجهة الخطيئة..
[ ص: 104 ] و
من أسلم وجهه لله وهو محسن .. فأخلص ذاته كلها لله، ووجه مشاعره كلها إليه، وخلص لله في مقابل خلوص الآخر للخطيئة..
من أسلم وجهه لله .. هنا تبرز سمة الإسلام الأولى : إسلام الوجه - والوجه رمز على الكل - ولفظ أسلم يعني الاستسلام والتسليم. الاستسلام المعنوي والتسليم العملي. ومع هذا فلا بد من الدليل الظاهر على هذا الاستسلام:
وهو محسن .. فسمة الإسلام هي الوحدة بين الشعور والسلوك، بين العقيدة والعمل، بين الإيمان القلبي والإحسان العملي.. بذلك تستحيل العقيدة منهجا للحياة كلها; وبذلك تتوحد الشخصية الإنسانية بكل نشاطها واتجاهاتها; وبذلك يستحق المؤمن هذا العطاء كله:
فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ..
الأجر المضمون لا يضيع عند ربهم.. والأمن الموفور لا يساوره خوف، والسرور الفائض لا يمسه حزن.. وتلك هي القاعدة العامة التي يستوي عندها الناس جميعا. فلا محسوبية عند الله سبحانه ولا محاباة! ولقد كانوا - يهودا ونصارى - يطلقون تلك الدعوى العريضة، بينما يقول كل منهما عن الفريق الآخر إنه ليس على شيء; وبينما كان المشركون يجبهون الفريقين بالقولة ذاتها:
وقالت اليهود ليست النصارى على شيء، وقالت النصارى ليست اليهود على شيء - وهم يتلون الكتاب - كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم، فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ..
والذين لا يعلمون هم الأميون
العرب الذين لم يكن لهم كتاب; وكانوا يرون ما عليه اليهود والنصارى من الفرقة ومن التقاذف بالاتهام، ومن التمسك بخرافات وأساطير لا ترتفع كثيرا على خرافات
العرب وأساطيرهم في الشرك ونسبة الأبناء - أو البنات - لله سبحانه فكانوا يزهدون في دين اليهود ودين النصارى ويقولون:
إنهم ليسوا على شيء! والقرآن يسجل على الجميع ما يقوله بعضهم في بعض; عقب تفنيد دعوى اليهود والنصارى في ملكية الجنة! ثم يدع أمر الخلاف بينهم إلى الله:
فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون .
فهو الحكم العدل، وإليه تصير الأمور.. وهذه الإحالة إلى حكم الله هي وحدها المجدية في مواجهة قوم لا يستمدون من منطق، ولا يعتمدون على دليل، بعد دحض دعواهم العريضة في أنهم وحدهم أهل الجنة، وأنهم وحدهم المهديون! ثم يعود إلى ترذيل محاولتهم تشكيك المسلمين في صحة الأوامر والتبليغات النبوية - وبخاصة ما يتعلق منها بتحويل القبلة - وبعدها سعيا في منع ذكر الله في مساجده، وعملا على خرابها:
ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين. لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله، إن الله واسع عليم ..
وأقرب ما يتوارد إلى الخاطر أن هاتين الآيتين تتعلقتان بمسألة
تحويل القبلة; وسعي اليهود لصد المسلمين عن التوجه إلى الكعبة .. أول بيت وضع للناس وأول قبلة.. وهناك روايات متعددة عن أسباب نزولهما غير هذا الوجه..
[ ص: 105 ] وعلى أية حال فإن إطلاق النص يوحي بأنه حكم عام في منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ، والسعي في خرابها. كذلك الحكم الذي يرتبه على هذه الفعلة، ويقرر أنه هو وحده الذي يليق أن يكون جزاء لفاعليها.
وهو قوله:
أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين ..
أي أنهم يستحقون الدفع والمطاردة والحرمان من الأمن، إلا أن يلجأوا إلى بيوت الله مستجيرين محتمين بحرمتها مستأمنين "وذلك كالذي حدث في عام الفتح بعد ذلك إذ نادى منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح:
nindex.php?page=hadith&LINKID=886740من دخل المسجد الحرام فهو آمن .. فلجأ إليها المستأمنون من جبابرة
قريش ، بعد أن كانوا هم الذين يصدون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن معه ويمنعونهم زيارة
المسجد الحرام !".
ويزيد على هذا الحكم ما يتوعدهم به من خزي في الدنيا وعذاب عظيم في الآخرة:
لهم في الدنيا خزي، ولهم في الآخرة عذاب عظيم ..
وهناك تفسير آخر لقوله:
أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين .. أي أنه ما كان ينبغي لهم أن يدخلوا مساجد الله إلا في خوف من الله وخشوع لجلالته في بيوته. فهذا هو الأدب اللائق ببيوت الله، المناسب لمهابته وجلاله العظيم.. وهو وجه من التأويل جائز في هذا المقام.
والذي يجعلنا نرجح أن الآيتين نزلتا في مناسبة تحويل القبلة، هو الآية الثانية منهما:
ولله المشرق والمغرب، فأينما تولوا فثم وجه الله، إن الله واسع عليم .
فهي توحي بأنها جاءت ردا على تضليل اليهود في ادعائهم أن صلاة المسلمين إذن إلى
بيت المقدس كانت باطلة، وضائعة ولا حساب لها عند الله! والآية ترد عليهم هذا الزعم، وهي تقرر أن كل اتجاه قبلة، فثم وجه الله حيثما توجه إليه عابد. وإنما تخصيص قبلة معينة هو توجيه من عند الله فيه طاعة، لا أن وجه الله - سبحانه - في جهة دون جهة. والله لا يضيق على عباده، ولا ينقصهم ثوابهم، وهو عليم بقلوبهم ونياتهم ودوافع اتجاهاتهم. وفي الأمر سعة. والنية لله
إن الله واسع عليم ..