يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون (26)
يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون (27)
وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون (28)
قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين كما بدأكم تعودون (29)
فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون (30)
يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين (31)
قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون (32)
قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون (33)
ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون (34)
هذه وقفة من وقفات التعقيب في سياق السورة. وهي وقفة طويلة بعد المشهد الأول في قصة البشرية الكبرى. وفي سياق السورة وقفات كهذه عند كل مرحلة. كأنما ليقال: قفوا هنا نتدبر ما في هذه المرحلة من عبرة قبل أن نمضي قدما في الرحلة الكبرى!
[ ص: 1277 ] وهي وقفة في مواجهة المعركة التي بانت طلائعها بين الشيطان والبشرية. وقفة للتحذير من أساليب الشيطان ومداخله ولكشف خطته ما كان منها وما يكون متمثلا في صور وأشكال شتى..
ولكن المنهج القرآني لا يعرض توجيها إلا لمواجهة حالة قائمة ولا يقص قصصا إلا لأن له موقعا في واقع الحركة الإسلامية.. إنه كما قلنا لا يعرض قصصا لمجرد المتاع الفني! ولا يقرر حقيقة لمجرد عرضها النظري..
إن واقعية الإسلام وجديته تجعلان توجيهاته وتقريراته، لمواجهة حالات واقعة بالفعل في مواجهة الحركة الإسلامية.
وقد كان واقع الجاهلية العربية هو الذي يواجهه التعقيب هنا عقب المرحلة الأولى من قصة البشرية الكبرى..
كانت
قريش قد ابتدعت لنفسها حقوقا على بقية مشركي
العرب الذين يفدون لحج
بيت الله - الذي جعلوه بيتا للأصنام وسدنتها! - وأقامت هذه الحقوق على تصورات اعتقادية زعمت أنها من دين الله وصاغتها في شرائع، زعمت أنها من شرع الله! وذلك لتخضع لها أعناق المشركين كما يصنع السدنة والكهنة والرؤساء في كل جاهلية على وجه التقريب.. وكانت
قريش سمت نفسها اسما خاصا وهو " الحمس " وجعلوا لأنفسهم حقوقا ليست لسائر
العرب. ومن هذه الحقوق - فيما يختص بالطواف
بالبيت - أنهم هم وحدهم لهم حق الطواف في ثيابهم. فأما بقية
العرب فلا تطوف في ثياب لبستها من قبل. فلا بد أن تستعير من ثياب الحمس للطواف أو تستجد ثيابا لم تلبسها من قبل وإلا طافوا عرايا وفيهم النساء! قال
ابن كثير في التفسير: (كانت
العرب - ما عدا
قريشا - لا يطوفون
بالبيت في ثيابهم التي لبسوها، يتأولون في ذلك أنهم لا يطوفون في ثياب عصوا الله فيها! وكانت
قريش - وهم الحمس - يطوفون في ثيابهم.
ومن أعاره أحمسي ثوبا طاف فيه ومن معه ثوب جديد طاف فيه. ثم يلقيه فلا يتملكه أحد! ومن لم يجد ثوبا جديدا، ولا أعاره أحمسي ثوبا طاف عريانا! وربما كانت امرأة فتطوف عريانة، فتجعل على فرجها شيئا ليستره بعض الستر.. وأكثر ما كان النساء يطفن عراة بالليل. وكان هذا شيئا قد ابتدعوه من تلقاء أنفسهم، واتبعوا فيه آباءهم، ويعتقدون أن فعل آبائهم مستند إلى أمر من الله وشرع فأنكر الله تعالى عليهم ذلك فقال:
وإذا فعلوا فاحشة قالوا: وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها .. فقال تعالى ردا عليهم: " قل " .
أي : يا
محمد لمن ادعى ذلك.
إن الله لا يأمر بالفحشاء أي هذا الذي تصنعونه فاحشة منكرة، والله لا يأمر بمثل ذلك.
أتقولون على الله ما لا تعلمون .. أي أتسندون إلى الله من الأقوال ما لا تعلمون صحته.
وقوله تعالى:
قل: أمر ربي بالقسط .. أي بالعدل. والاستقامة:
وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد، وادعوه مخلصين له الدين .. أي : أمركم بالاستقامة في عبادته في محالها، وهي متابعة المرسلين المؤيدين بالمعجزات فيما أخبروا به عن الله، وما جاءوا به من الشرائع، وبالإخلاص له في عبادته. فإنه تعالى لا يتقبل العمل حتى يجمع هذين الركنين: (أي أن يكون صوابا موافقا للشريعة، وأن يكون خالصا من الشرك) .
ففي مواجهة هذا الواقع الجاهلي في شؤون التشريع للعبادة والطواف واللباس - مضافا إليه ما يختص بتقاليد كهذه في الطعام يزعمون أنها من شرع الله وليست من شرع الله - في مواجهة هذا الواقع جاءت تلك التعقيبات على قصة البشرية الأولى. وجاء ذكر الأكل من ثمر الجنة - إلا ما حرم الله - وجاء ذكر اللباس خاصة، ونزع الشيطان له عن
آدم وزوجه بإغوائه لهما بتناول المحظور وجاء ذكر حيائهما الفطري من كشف السوآت، وخصفهما على سوآتهما من ورق الجنة..
فما ذكر من أحداث القصة، وما جاء في التعقيب الأول عليها، هو مواجهة واقعية لواقع معين في الجاهلية..
[ ص: 1278 ] والقصة تذكر في مواضع أخرى من القرآن، في سور أخرى، لمواجهة حالات أخرى، فتذكر منها مواقف ومشاهد، وتذكر بعدها تقريرات وتعقيبات تواجه هذه الحالات الأخرى.. وكله حق.. ولكن تفصيل القرآن لمواجهة الواقع البشري هو الذي يقتضي هذا الاختيار والتناسق. بين حلقات القصص المعروض في كل معرض، وطبيعة الجو والموضوع في كل معرض .
يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا. ولباس التقوى، ذلك خير، ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون ..
هذا النداء يجيء في ظل المشهد الذي سبق عرضه من القصة.. مشهد العري وتكشف السوآت والخصف من ورق الجنة.. لقد كان هذا ثمرة للخطيئة.. والخطيئة كانت في معصية أمر الله، وتناول المحظور الذي نهى عنه الله.. وليست هي الخطيئة التي تتحدث عنها أساطير (الكتاب المقدس) والتي تعج بها التصورات الفنية الغربية المستقاة من تلك الأساطير ومن إيحاءات " فرويد " المسمومة.. لم تكن هي الأكل من " شجرة المعرفة " - كما تقول أساطير العهد القديم. وغيرة الله - سبحانه وتعالى - من الإنسان وخوفه - تعالى عن وصفهم علوا كبيرا - من أن يأكل من شجرة الحياة أيضا فيصبح كواحد من الآلهة! كما تزعم تلك الأساطير .
ولم تكن كذلك هي المباشرة الجنسية كما تطوف خيالات الفن الأوربي دائما حول مستنقع الوحل الجنسي، لتفسر به كل نشاط الحياة كما علمهم فرويد اليهودي! ..
وفي مواجهة مشهد العري الذي أعقب الخطيئة ومواجهة العري الذي كان يزاوله المشركون في الجاهلية يذكر السياق في هذا النداء نعمة الله على البشر وقد علمهم ويسر لهم، وشرع لهم كذلك اللباس الذي يستر العورات المكشوفة، ثم يكون زينة - بهذا الستر - وجمالا، بدل قبح العري وشناعته - ولذلك يقول:
" أنزلنا " أي: شرعنا لكم في التنزيل. واللباس قد يطلق على ما يواري السوأة وهو اللباس الداخلي. والرياش قد يطلق على ما يستر الجسم كله ويتجمل به، وهو ظاهر الثياب. كما قد يطلق الرياش على العيش الرغد والنعمة والمال.. وهي كلها معان متداخلة ومتلازمة:
يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا ..
كذلك يذكر هنا " لباس التقوى " ويصفه بأنه " خير " :
ولباس التقوى ذلك خير. ذلك من آيات الله. ..
قال
عبد الرحمن بن أسلم: (يتقي الله فيواري عورته، فذاك لباس التقوى) ..
فهناك تلازم بين شرع الله اللباس لستر العورات والزينة، وبين التقوى.. كلاهما لباس. هذا يستر عورات القلب ويزينه. وذاك يستر عورات الجسم ويزينه. وهما متلازمان. فعن شعور التقوى لله والحياء منه ينبثق الشعور باستقباح عري الجسد والحياء منه. ومن لا يستحي من الله ولا يتقيه لا يهمه أن يتعرى وأن يدعو إلى العري.. العري من الحياء والتقوى، والعري من اللباس وكشف السوأة! إن ستر الجسد حياء ليس مجرد اصطلاح وعرف بيئي - كما تزعم الأبواق المسلطة على حياء الناس وعفتهم
[ ص: 1279 ] لتدمير إنسانيتهم، وفق الخطة اليهودية البشعة التي تتضمنها مقررات حكماء صهيون - إنما هي فطرة خلقها الله في الإنسان ثم هي شريعة أنزلها الله للبشر وأقدرهم على تنفيذها بما سخر لهم في الأرض من مقدرات وأرزاق.
والله يذكر بني
آدم بنعمته عليهم في تشريع اللباس والستر، صيانة لإنسانيتهم من أن تتدهور إلى عرف البهائم! وفي تمكينهم منه بما يسر لهم من الوسائل:
لعلهم يذكرون ..
ومن هنا يستطيع المسلم أن يربط بين الحملة الضخمة الموجهة إلى حياء الناس وأخلاقهم والدعوة السافرة لهم إلى العري الجسدي - باسم الزينة والحضارة والمودة! - وبين الخطة الصهيونية لتدمير إنسانيتهم، والتعجيل بانحلالهم، ليسهل تعبيدهم لملك صهيون! ثم يربط بين هذا كله والخطة الموجهة للإجهاز على الجذور الباقية لهذا الدين في صورة عواطف غامضة في أعماق النفوس! فحتى هذه توجه لها معاول السحق، بتلك الحملة الفاجرة الداعرة إلى العري النفسي والبدني الذي تدعو إليه أقلام وأجهزة تعمل لشياطين اليهود في كل مكان! والزينة " الإنسانية " هي زينة الستر، بينما الزينة " الحيوانية " هي زينة العري.. ولكن " الآدميين " في هذا الزمان يرتدون إلى رجعية جاهلية تردهم إلى عالم البهيمة. فلا يتذكرون نعمة الله بحفظ إنسانيتهم وصيانتها!!!
يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة، ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما، إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم، إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون. وإذا فعلوا فاحشة قالوا: وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها. قل: إن الله لا يأمر بالفحشاء، أتقولون على الله ما لا تعلمون؟ قل: أمر ربي بالقسط، وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد، وادعوه مخلصين له الدين، كما بدأكم تعودون. فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة، إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله، ويحسبون أنهم مهتدون ..
إنه النداء الثاني لبني
آدم، في وقفة التعقيب على قصة أبويهم، وما جرى لهما مع الشيطان وعلى مشهد العري الذي أوقفهما فيه عدوهما، بسبب نسيانهما أمر ربهما والاستماع إلى وسوسة عدوهما.
وهذا النداء يصبح مفهوما بما قدمناه من الحديث عن تقاليد الجاهلية العربية في حكاية العري عند الطواف
بالبيت وزعمهم أن ما وجدوا عليه آباءهم هو من أمر الله وشرعه! لقد كان النداء الأول تذكيرا لبني
آدم بذلك المشهد الذي عاناه أبواهم وبنعمة الله في إنزال اللباس الذي يستر العورة والرياش الذي يتجمل به.. أما هذا النداء الثاني فهو التحذير لبني
آدم عامة وللمشركين الذين يواجههم الإسلام في الطليعة. أن يستسلموا للشيطان، فيما يتخذونه لأنفسهم من مناهج وشرائع وتقاليد فيسلمهم إلى الفتنة - كما فعل مع أبويهم من قبل إذ أخرجهما من الجنة ونزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما - فالعري والتكشف الذي يزاولونه - والذي هو طابع كل جاهلية قديما وحديثا - هو عمل من أعمال الفتنة الشيطانية، وتنفيذ لخطة عدوهم العنيدة في إغواء آدم وبنيه وهو طرف من المعركة التي لا تهدأ بين الإنسان وعدوه. فلا يدع بنو آدم لعدوهم أن يفتنهم وأن ينتصر في هذه المعركة، وأن يملأ منهم جهنم في نهاية المطاف!
يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما .
وزيادة في التحذير، واستثارة للحذر، ينبئهم ربهم أن الشيطان يراهم هو وقبيله من حيث لا يرونهم.
[ ص: 1280 ] وإذن فهو أقدر على فتنتهم بوسائله الخفية وهم محتاجون إلى شدة الاحتياط، وإلى مضاعفة اليقظة، وإلى دوام الحذر، كي لا يأخذهم على غرة:
إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم ..
ثم الإيقاع المؤثر الموحي بالتوقي.. إن الله قدر أن يجعل الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون.. ويا ويل من كان عدوه وليه! إنه إذن يسيطر عليه ويستهويه ويقوده حيث شاء، بلا عون ولا نصير، ولا ولاية من الله:
إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون ..
وإنها لحقيقة.. أن الشيطان ولي الذين لا يؤمنون كما أن الله هو ولي المؤمنين.. وهي حقيقة رهيبة، ولها نتائجها الخطيرة.. وهي تذكر هكذا مطلقة ثم يواجه بها المشركون كحالة واقعة فنرى كيف تكون ولاية الشيطان وكيف تفعل في تصورات الناس وحياتهم.. وهذا نموذج منها:
وإذا فعلوا فاحشة قالوا: وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها ..
وذلك ما كان يفعله ويقول به مشركو
العرب وهم يزاولون فاحشة التعري في الطواف
ببيت الله الحرام - وفيهم النساء! - ثم يزعمون أن الله أمرهم بها. فقد كان أمر آباءهم بها ففعلوها، ثم هم ورثوها عن آبائهم ففعلوها! وهم - على شركهم - لم يكونوا يتبجحون تبجح الجاهليات الحديثة التي تقول: ما للدين وشؤون الحياة؟
وتزعم أنها هي صاحبة الحق في اتخاذ الأوضاع والشرائع والقيم والموازين والعادات والتقاليد من دون الله! إنما كانوا يفترون الفرية، ويشرعون الشريعة، ثم يقولون: الله أمرنا بها! وقد تكون هذه خطة ألأم وأخبث، لأنها تخدع الذين في قلوبهم بقية من عاطفة دينية فتوهمهم أن هذه الشريعة من عند الله.. ولكنها على كل حال أقل تبجحا ممن يزعم أن له الحق في التشريع للناس بما يراه أصلح لأحوالهم من دون الله! والله - سبحانه - يأمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يواجههم بالتكذيب لهذا الافتراء على الله وبتقرير طبيعة شرع الله وكراهته للفاحشة، فليس من شأنه سبحانه أن يأمر بها:
قل: إن الله لا يأمر بالفحشاء. أتقولون على الله ما لا تعلمون؟ .
إن الله لا يأمر بالفحشاء إطلاقا - والفاحشة: كل ما يفحش أي يتجاوز الحد - والعري من هذه الفاحشة، فالله لا يأمر به. وكيف يأمر الله بالاعتداء على حدوده؟ والمخالفة عن أمره بالستر والحياء والتقوى؟ ومن الذي أعلمهم بأمر الله ذاك؟ إن أوامر الله وشرائعه ليست بالادعاء. إن أوامره وشرائعه واردة في كتبه على رسله.
وليس هناك مصدر آخر يعلم منه قول الله وشرعه. وليس لإنسان أن يزعم عن أمر أنه من شريعة الله، إلا أن يستند إلى كتاب الله وإلى تبليغ رسول الله. فالعلم المستيقن بكلام الله هو الذي يستند إليه من يقول في دين الله..
وإلا فأي فوضى يمكن أن تكون إذا قدم كل إنسان هواه، وهو يزعم أنه دين الله!! إن الجاهلية هي الجاهلية. وهي دائما تحتفظ بخصائصها الأصيلة. وفي كل مرة يرتد الناس إلى الجاهلية يقولون كلاما متشابها وتسود فيهم تصورات متشابهة، على تباعد الزمان والمكان.. وفي هذه الجاهلية التي نعيش فيها اليوم لا يفتأ يطلع علينا كاذب مفتر يقول ما يمليه عليه هواه ثم يقول: شريعة الله! ولا يفتأ يطلع علينا متبجح وقح ينكر أوامر الدين ونواهيه المنصوص عليها، وهو يقول: إن الدين لا يمكن أن يكون كذلك! إن الدين لا يمكن أن يأمر بهذا! إن الدين لا يمكن أن ينهى عن ذاك، وحجته هي هواه
أتقولون على الله ما لا تعلمون؟ ..
[ ص: 1281 ] وبعد أن ينكر عليهم دعواهم في أن الله أمرهم بهذه الفاحشة، يبين لهم أن أمر الله يجري في اتجاه مضاد..
لقد أمر الله بالعدل والاعتدال في الأمور كلها لا بالفحش والتجاوز. وأمر بالاستقامة على منهج الله في العبادة والشعائر، والاستمداد مما جاء في كتابه على رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولم يجعل المسألة فوضى، يقول فيها كل إنسان بهواه، ثم يزعم أنه من الله. وأمر بأن تكون الدينونة خالصة له، والعبودية كاملة فلا يدين أحد لأحد لذاته ولا يخضع أحد لأمر أحد لذاته:
قل أمر ربي بالقسط، وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد، وادعوه مخلصين له الدين ..
هذا ما أمر الله به، وهو يضاد ما هم عليه.. يضاد اتباعهم لآبائهم وللشرائع التي وضعها لهم عباد مثلهم، مع دعواهم أن الله أمرهم بها.. ويضاد العري والتكشف وقد امتن الله على بني آدم بأنه أنزل عليهم لباسا يواري سوآتهم وريشا يتجملون به كذلك.. ويضاد هذا الشرك الذي يزاولونه، بازدواج مصادر التشريع لحياتهم ولعبادتهم..
وعند هذا المقطع من البيان يجيء التذكير والإنذار ويلوح لهم بالمعاد إلى الله بعد انتهاء ما هم فيه من أجل مرسوم للابتلاء وبمشهدهم في العودة وهم فريقان: الفريق الذي اتبع أمر الله، والفريق الذي اتبع أمر الشيطان:
كما بدأكم تعودون: فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة، إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله، ويحسبون أنهم مهتدون ..
إنها لقطة واحدة عجيبة تجمع نقطة البدء في الرحلة الكبرى ونقطة النهاية. نقطة الانطلاق في البدء ونقطة المآب في الانتهاء:
كما بدأكم تعودون ..
وقد بدأوا الرحلة فريقين:
آدم وزوجه. والشيطان وقبيله.. وكذلك سيعودون.. الطائعون سيعودون فريقا مع أبيهم
آدم وأمهم
حواء المسلمين المؤمنين بالله المتبعين لأمر الله.. والعصاة سيعودون مع إبليس وقبيله، يملأ الله منهم جهنم، بولائهم لإبليس وولايته لهم. وهم يحسبون أنهم مهتدون.
لقد هدى الله من جعل ولايته لله. وأضل من جعل ولايته للشيطان.. وها هم أولاء عائدين فريقين:
فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة. إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون .
ها هم أولاء عائدين. في لمحة تضم طرفي الرحلة! على طريقة القرآن، التي يتعذر أن تتحقق في غير أسلوب القرآن!