إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام، ثم استوى على العرش، يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا، والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره. ألا له الخلق والأمر. تبارك الله رب العالمين ..
إن الله الذي خلق هذا الكون المشهود في ضخامته وفخامته. والذي استعلى على هذا الكون يدبره بأمره ويصرفه بقدره. يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا.. في هذه الدورة الدائبة: دورة الليل يطلب النهار في هذا الفلك الدوار. والذي جعل الشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره.. إن الله الخالق المهيمن المصرف المدبر، هو " ربكم " .. هو الذي يستحق أن يكون ربا لكم. يربيكم بمنهجه، ويجمعكم بنظامه، ويشرع لكم بإذنه، ويقضي بينكم بحكمه.. إنه هو صاحب الخلق والأمر.. وكما أنه لا خالق معه. فكذلك لا آمر معه..
هذه هي القضية التي يستهدفها هذا الاستعراض..
قضية الألوهية والربوبية والحاكمية، وإفراد الله سبحانه بها.. وهي قضية العبودية من البشر في شريعة حياتهم. فهذا هو الموضوع الذي يواجهه سياق السورة ممثلا في مسائل اللباس والطعام. كما كان سياق سورة الأنعام يواجهه كذلك في مسائل الأنعام والزروع والشعائر والنذور.
ولا ينسينا الهدف العظيم الذي يستهدفه السياق القرآني بهذا الاستعراض، أن نقف لحظات أمام روعة المشاهد وحيويتها وحركتها وإيحاءاتها العجيبة. فهي من هذه الوجهة كفء للهدف العظيم الذي تتوخاه..
إن دورة التصور والشعور مع دورة الليل والنهار في هذا الفلك الدوار، والليل يطلب النهار حثيثا، ويريده مجتهدا! لهي دورة لا يملك الوجدان ألا يتابعها وألا يدور معها! وألا يرقب هذا السياق الجبار بين الليل والنهار، بقلب مرتعش ونفس لاهث! وكله حركة وتوفز، وكله تطلع وانتظار! إن جمال الحركة وحيويتها و " تشخيص " الليل والنهار في سمت الشخص الواعي ذي الإرادة والقصد..
إن هذا كله مستوى من جمال التصوير والتعبير لا يرقى إليه فن بشري على الإطلاق! إن الألفة التي تقتل الكون ومشاهده في الحس وتطبع النظرة إليه بطابع البلادة والغفلة.. إن هذه الألفة لتتوارى، ليحل محلها وقع المشهد الجديد الرائع الذي يطالع الفطرة كأنما لأول وهلة! .. إن الليل والنهار في هذا التعبير ليسا مجرد ظاهرتين طبيعيتين مكرورتين. وإنما هما حيان ذوا حس وروح وقصد واتجاه. يعاطفان البشر ويشاركانهم حركة الحياة وحركة الصراع والمنافسة والسباق التي تطبع الحياة! كذلك هذه الشمس والقمر والنجوم.. إنها كائنات حية ذات روح! إنها تتلقى أمر الله وتنفذه، وتخضع له وتسير وفقه. إنها مسخرة، تتلقى وتستجيب، وتمضي حيث أمرت كما يمضي الأحياء في طاعة الله! ومن هنا يهتز الضمير البشري وينساق للاستجابة، في موكب الأحياء المستجيبة. ومن هنا هذا السلطان للقرآن الذي ليس لكلام البشر.. إنه يخاطب فطرة الإنسان بهذا السلطان المستمد من قائله - سبحانه - الخبير بمداخل القلوب وأسرار الفطر..
وعند ما يصل السياق إلى هذا المقطع، وقد ارتعش الوجدان البشري لمشاهد الكون الحية. التي كان يمر عليها في بلادة وغفلة. وقد تجلى له خضوع هذه الخلائق الهائلة وعبوديتها لسلطان الخالق وأمره.. عندئذ
[ ص: 1298 ] يوجه البشر إلى ربهم - الذي لا رب غيره - ليدعوه في إنابة وخشوع وليلتزموا بربوبيته لهم، فيلتزموا حدود عبوديتهم له لا يعتدون على سلطانه ولا يفسدون في الأرض بترك شرعه إلى هواهم، بعد أن أصلحها الله بمنهجه:
ادعوا ربكم تضرعا وخفية، إنه لا يحب المعتدين، ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها. وادعوه خوفا وطمعا، إن رحمت الله قريب من المحسنين .
إنه التوجيه في أنسب حالة نفسية صالحة، إلى الدعاء والإنابة.. تضرعا وتذللا وخفية لا صياحا وتصدية! فالتضرع الخفي أنسب وأليق بجلال الله وبقرب الصلة بين العبد ومولاه.
أخرج
nindex.php?page=showalam&ids=17080مسلم - بإسناده عن
nindex.php?page=showalam&ids=110أبي موسى - قال:
nindex.php?page=hadith&LINKID=99989كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر - وفي رواية غزاة - فجعل الناس يجهرون بالتكبير، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أيها الناس اربعوا (أي ارفقوا وهونوا) على أنفسكم. إنكم لستم تدعون أصم ولا غائبا. إنكم تدعون سميعا قريبا. وهو معكم " ..
فهذا الحس الإيماني بجلال الله وقربه معا، هو الذي يؤكده المنهج القرآني هنا ويقرره في صورته الحركية الواقعية عند الدعاء. ذلك أن الذي يستشعر جلاله فعلا يستحيي من الصياح في دعائه والذي يستشعر قرب الله حقا لا يجد ما يدعو إلى هذا الصياح! وفي ظل مشهد التضرع في الدعاء، وهيئة الخشوع والانكسار فيه لله، ينهى عن الاعتداء على سلطان الله، فيما يدعونه لأنفسهم - في الجاهلية - من الحاكمية التي لا تكون إلا لله. كما ينهى عن الفساد في الأرض بالهوى، وقد أصلحها الله بالشريعة.. والنفس التي تتضرع وتخشع خفية للقريب المجيب، لا تعتدي كذلك ولا تفسد في الأرض بعد إصلاحها.. فبين الانفعالين اتصال داخلي وثيق في تكوين النفس والمشاعر. والمنهج القرآني يتبع خلجات القلوب وانفعالات النفوس. وهو منهج من خلق الذي يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير.
وادعوه خوفا وطمعا ..
خوفا من غضبه وعقابه. وطمعا في رضوانه وثوابه.
إن رحمت الله قريب من المحسنين ..
الذين يعبدون الله كأنهم يرونه، فإن لم يكونوا يرونه فهو يراهم.. كما جاء في الوصف النبوي للإحسان.
ومرة أخرى يفتح السياق للقلب البشري صفحة من صفحات الكون المعروضة للأنظار ولكن القلوب تمر بها غافلة بليدة لا تسمع نطقها، ولا تستشعر إيقاعها.. إنها صفحة يفتحها على ذكر رحمة الله في الآية السابقة نموذجا لرحمة الله في صورة الماء الهاطل، والزرع النامي، والحياة النابضة بعد الموت والخمود:
وهو الذي يرسل الرياح، بشرا بين يدي رحمته، حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت، فأنزلنا به الماء، فأخرجنا به من كل الثمرات.. كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون ..
إنها آثار الربوبية في الكون. آثار الفاعلية والسلطان والتدبير والتقدير. وكلها من صنع الله الذي لا ينبغي أن يكون للناس رب سواه. وهو الخالق الرازق بهذه الأسباب التي ينشئها برحمته للعباد.
وفي كل لحظة تهب ريح. وفي كل وقت تحمل الريح سحابا. وفي كل فترة ينزل من السحاب ماء.
[ ص: 1299 ] ولكن ربط هذا كله بفعل الله - كما هو في الحقيقة - هو الجديد الذي يعرضه القرآن هذا العرض المرتسم في المشاهد المتحركة، كأن العين تراه.
إنه هو الذي يرسل الرياح مبشرات برحمته. والرياح تهب وفق النواميس الكونية التي أودعها الله هذا الكون - فما كان الكون لينشئ نفسه، ثم يضع لنفسه هذه النواميس التي تحكمه! - ولكن التصور الإسلامي يقوم على اعتقاد أن كل حدث يجري في الكون - ولو أنه يجري وفق الناموس الذي قدره الله - إنما يقع ويتحقق - وفق الناموس - بقدر خاص ينشئه ويبرزه في عالم الواقع. وأن الأمر القديم بجريان السنة، لا يتعارض مع تعلق قدر الله بكل حادث فردي من الأحداث التي تجري وفق هذه السنة. فإرسال الرياح - وفق النواميس الإلهية في الكون - حدث من الأحداث، يقع بمفرده وفق قدر خاص .
وحمل الرياح للسحاب يجري وفق نواميس الله في الكون أيضا. ولكنه يقع بقدر خاص. ثم يسوق الله السحاب - بقدر خاص منه - إلى " بلد ميت " .. صحراء أو جدباء.. فينزل منه الماء - بقدر كذلك خاص - فيخرج من كل الثمرات - بقدر منه خاص - يجري كل أولئك وفق النواميس التي أودعها طبيعة الكون وطبيعة الحياة.
إن التصور الإسلامي في هذا الجانب ينفي العفوية والمصادفة في كل ما يجري في الكون. ابتداء من نشأته وبروزه، إلى كل حركة فيه وكل تغيير وكل تعديل. كما ينفي الجبرية الآلية، التي تتصور الكون كأنه آلة، فرغ صانعها منها، وأودعها القوانين التي تتحرك بها، ثم تركها تتحرك حركة آلية جبرية حتمية وفق هذه القوانين التي تصبح بذلك عمياء! إنه يثبت الخلق بمشيئة وقدر. ثم يثبت الناموس الثابت والسنة الجارية. ولكنه يجعل معها القدر المصاحب لكل حركة من حركات الناموس ولكل مرة تتحقق فيها السنة. القدر الذي ينشئ الحركة ويحقق السنة، وفق المشيئة الطليقة من وراء السنن والنواميس الثابتة.
إنه تصور حي. ينفي عن القلب البلادة. بلادة الآلية والجبرية. ويدعها أبدا في يقظة وفي رقابة.. كلما حدث حدث وفق سنة الله. وكلما تمت حركة وفق ناموس الله. انتفض هذا القلب، يرى قدر الله المنفذ، ويرى يد الله الفاعلة، ويسبح لله ويذكره ويراقبه، ولا يغفل عنه بالآلية الجبرية ولا ينساه! هذا تصور يستحيي القلوب، ويستجيش العقول، ويعلقها جميعا بفاعلية الخالق المتجددة وبتسبيح البارئ الحاضر في كل لحظة وفي كل حركة وفي كل حدث آناء الليل وأطراف النهار.
كذلك يربط السياق القرآني بين حقيقة الحياة الناشئة بإرادة الله وقدره في هذه الأرض. وبين النشأة الآخرة، التي تتحقق كذلك بمشيئة الله وقدره على المنهج الذي يراه الأحياء في نشأة هذه الحياة:
كذلك نخرج الموتى، لعلكم تذكرون ..
إن معجزة الحياة ذات طبيعة واحدة، من وراء أشكالها وصورها وملابساتها.. هذا ما يوحي به هذا التعقيب.. وكما يخرج الله الحياة من الموات في هذه الأرض، فكذلك يخرج الحياة من الموتى في نهاية المطاف.. إن المشيئة التي تبث الحياة في صور الحياة وأشكالها في هذه الأرض، هي المشيئة التي ترد الحياة
[ ص: 1300 ] في الأموات. وإن القدر الذي يجري بإخراج الحياة من الموات في الدنيا، لهو ذاته القدر الذي يجري بجريان الحياة في الموتى مرة أخرى..
لعلكم تذكرون ..
فالناس ينسون هذه الحقيقة المنظورة ويغرقون في الضلالات والأوهام!
ويختم السياق هذه الرحلة في أقطار الكون وأسرار الوجود، بمثل يضربه للطيب وللخبيث من القلوب.
ينتزعه من جو المشهد المعروض، مراعاة للتناسق في المرائي والمشاهد، وفي الطبائع والحقائق:
" والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه، والذي خبث لا يخرج إلا نكدا. كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون " .
والقلب الطيب يشبه في القرآن الكريم وفي حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالأرض الطيبة، وبالتربة الطيبة. والقلب الخبيث يشبه بالأرض الخبيثة وبالتربة الخبيثة. فكلاهما.. القلب والتربة.. منبت زرع، ومأتى ثمر. القلب ينبت نوايا ومشاعر، وانفعالات واستجابات، واتجاهات وعزائم، وأعمالا بعد ذلك وآثارا في واقع الحياة. والأرض تنبت زرعا وثمرا مختلفا أكله وألوانه ومذاقاته وأنواعه..
والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه ..
طيبا خيرا، سهلا ميسرا.
والذي خبث لا يخرج إلا نكدا ..
في إيذاء وجفوة، وفي عسر ومشقة..
والهدى والآيات والموعظة والنصيحة تنزل على القلب كما ينزل الماء على التربة. فإن كان القلب طيبا كالبلد الطيب، تفتح واستقبل، وزكا وفاض بالخير. وإن كان فاسدا شريرا - كالذي خبث من البلاد والأماكن - استغلق وقسا، وفاض بالشر والنكر والفساد والضر. وأخرج الشوك والأذى، كما تخرج الأرض النكدة!
كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون .
والشكر ينبع من القلب الطيب، ويدل على الاستقبال الطيب، والانفعال الطيب. ولهؤلاء الشاكرين الذين يحسنون التلقي والاستجابة تصرف الآيات. فهم الذين ينتفعون بها، ويصلحون لها، ويصلحون بها..
والشكر هو لازمة هذه السورة التي يتكرر ذكرها فيها.. كالإنذار والتذكير. وقد صادفنا هذا التعبير فيما مضى من السياق، وسنصادفه فيما هو آت.. فهو من ملامح السورة المميزة في التعبير، كالإنذار والتذكير..