وإذا انتهت مقولاتهم، وفندت أباطيلهم، وكشفت الدوافع الكامنة وراء أضاليلهم، يتجه الخطاب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبين له وظيفته، ويحدد له تبعاته، ويكشف له عن حقيقة المعركة بينه وبين اليهود والنصارى ، وطبيعة الخلاف الذي لا حل له إلا بثمن لا يملكه ولا يستطيعه! ولو أداه لتعرض لغضب الله مولاه; وحاشاه!
إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا، ولا تسأل عن أصحاب الجحيم ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم. قل: إن هدى الله هو الهدى، ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته. أولئك يؤمنون به. ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون ..
إنا أرسلناك بالحق .. وهي كلمة فيها من التثبيت ما يقضي على شبهات المضللين، ومحاولات الكائدين، وتلبيس الملفقين. وفي جرسها صرامة توحي بالجزم واليقين.
بشيرا ونذيرا .. وظيفتك البلاغ والأداء، تبشر الطائعين وتنذر العصاة، فينتهي دورك.
ولا تسأل عن أصحاب الجحيم .. الذين يدخلون الجحيم بمعصيتهم، وتبعتهم على أنفسهم.
وسيظل اليهود والنصارى يحاربونك، ويكيدون لك، ولا يسالمونك ولا يرضون عنك، إلا أن تحيد عن هذا الأمر، وإلا أن تترك هذا الحق، وإلا أن تتخلى عن هذا اليقين، تتخلى عنه إلى ما هم فيه من ضلال وشرك وسوء تصور كالذي سبق بيانه منذ قليل:
[ ص: 108 ] ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم ..
فتلك هي العلة الأصيلة. ليس الذي ينقصهم هو البرهان; وليس الذي ينقصهم هو الاقتناع بأنك على الحق، وأن الذي جاءك من ربك الحق. ولو قدمت إليهم ما قدمت، ولو توددت إليهم ما توددت.. لن يرضيهم من هذا كله شيء، إلا أن تتبع ملتهم وتترك ما معك من الحق.
إنها العقدة الدائمة التي نرى مصداقها في كل زمان ومكان.. إنها هي العقيدة. هذه حقيقة المعركة التي يشنها اليهود والنصارى في كل أرض وفي كل وقت ضد الجماعة المسلمة.. إنها معركة العقيدة هي المشبوبة بين المعسكر الإسلامي وهذين المعسكرين اللذين قد يتخاصمان فيما بينهما; وقد تتخاصم شيع الملة الواحدة فيما بينها، ولكنها تلتقي دائما في المعركة ضد الإسلام والمسلمين! إنها معركة العقيدة في صميمها وحقيقتها. ولكن المعسكرين العريقين في العداوة للإسلام والمسلمين يلونانها بألوان شتى، ويرفعان عليها أعلاما شتى، في خبث ومكر وتورية. إنهم قد جربوا حماسة المسلمين لدينهم وعقيدتهم حين واجهوهم تحت راية العقيدة. ومن ثم استدار الأعداء العريقون فغيروا أعلام المعركة.. لم يعلنوها حربا باسم العقيدة - على حقيقتها - خوفا من حماسة العقيدة وجيشانها. إنما أعلنوها باسم الأرض، والاقتصاد، والسياسة، والمراكز العسكرية.. وما إليها. وألقوا في روع المخدوعين الغافلين منا أن حكاية العقيدة قد صارت حكاية قديمة لا معنى لها! ولا يجوز رفع رايتها، وخوض المعركة باسمها. فهذه سمة المتخلفين المتعصبين! ذلك كي يأمنوا جيشان العقيدة وحماستها.. بينما هم في قرارة نفوسهم: الصهيونية العالمية والصليبية العالمية - بإضافة الشيوعية العالمية - جميعا يخوضون المعركة أولا وقبل كل شيء لتحطيم هذه الصخرة العاتية التي نطحوها طويلا، فأدمتهم جميعا!!! إنها معركة العقيدة. إنها ليست معركة الأرض. ولا الغلة. ولا المراكز العسكرية. ولا هذه الرايات المزيفة كلها. إنهم يزيفونها علينا لغرض في نفوسهم دفين. ليخدعونا عن حقيقة المعركة وطبيعتها، فإذا نحن خدعنا بخديعتهم لنا فلا نلومن إلا أنفسنا. ونحن نبعد عن توجيه الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - ولأمته، وهو - سبحانه - أصدق القائلين:
ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم ..
فذلك هو الثمن الوحيد الذي يرتضونه. وما سواه فمرفوض ومردود! ولكن الأمر الحازم، والتوجيه الصادق:
قل: إن هدى الله هو الهدى ..
على سبيل القصر والحصر. هدى الله هو الهدى . وما عداه ليس بهدى. فلا براح منه، ولا فكاك عنه، ولا محاولة فيه، ولا ترضية على حسابه، ولا مساومة في شيء منه قليل أو كثير، ومن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر. وحذار أن تميل بك الرغبة في هدايتهم وإيمانهم، أو صداقتهم ومودتهم عن هذا الصراط الدقيق.
ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير ..
بهذا التهديد المفزع، وبهذا القطع الجازم، وبهذا الوعيد الرعيب.. ولمن؟ لنبي الله ورسوله وحبيبه الكريم! إنها الأهواء.. إن أنت ملت عن الهدى.. هدى الله الذي لا هدى سواه.. وهي الأهواء التي تقفهم منك هذا الموقف; وليس نقص الحجة ولا ضعف الدليل.
[ ص: 109 ] والذين يتجردون منهم من الهوى يتلون كتابهم حق تلاوته، ومن ثم يؤمنون بالحق الذي معك; فأما الذين يكفرون به فهم الخاسرون، لا أنت ولا المؤمنون!
الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته. أولئك يؤمنون به. ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون ..
وأي خسارة بعد خسارة الإيمان، أعظم آلاء الله على الناس في هذا الوجود؟
وبعد هذا التقرير الحاسم الجازم ينتقل السياق بالخطاب إلى بني إسرائيل . كأنما ليهتف بهم الهتاف الأخير، بعد هذه المجابهة وهذا الجدل الطويل، وبعد استعراض تاريخهم مع ربهم ومع أنبيائهم، وبعد الالتفات عنهم إلى خطاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وخطاب المؤمنين.. هنا يجيء الالتفات إليهم كأنه الدعوة الأخيرة، وهم على أبواب الإهمال والإغفال والتجريد النهائي من شرف الأمانة.. أمانة العقيدة.. التي نيطت بهم من قديم.. وهنا يكرر لهم الدعوة ذاتها التي وجهها إليهم في أول الجولة.. يا بني إسرائيل ..
يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم، وأني فضلتكم على العالمين واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا، ولا يقبل منها عدل، ولا تنفعها شفاعة، ولا هم ينصرون ..