والآن فلننظر كيف تلقى بنو إسرائيل رعاية الله لهم وكيف سارت خطواتهم الملتوية على طول الطريق:
وإذ قيل لهم: اسكنوا هذه القرية وكلوا منها حيث شئتم وقولوا: حطة، وادخلوا الباب سجدا، نغفر لكم خطيئاتكم، سنزيد المحسنين. فبدل الذين ظلموا منهم قولا غير الذي قيل لهم، فأرسلنا عليهم رجزا من السماء بما كانوا يظلمون ..
لقد عفا الله عنهم بعد اتخاذهم العجل وعفا عنهم بعد الرجفة على الجبل. ولقد أنعم عليهم بكل تلك النعم.. ثم ها هم أولاء تلتوي بهم طبيعتهم عن استقامة الطريق! ها هم أولاء يعصون الأمر، ويبدلون القول! ها هم أولاء يؤمرون بدخول قرية بعينها - أي مدينة كبيرة - لا يعين القرآن اسمها - لأنه لا يزيد في مغزى القصة شيئا - وتباح لهم خيراتها جميعا، على أن يقولوا دعاء بعينه وهم يدخلونها وعلى أن يدخلوا بابها سجدا، إعلان للخضوع لله في ساعة النصر والاستعلاء - وذلك كما دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
مكة في عام الفتح ساجدا على ظهر دابته - وفي مقابل طاعة الأمر يعدهم الله أن يغفر لهم خطيئاتهم وأن يزيد للمحسنين في حسناتهم.. فإذا فريق منهم يبدلون صيغة الدعاء التي أمروا بها، ويبدلون الهيئة التي كلفوا أن يدخلوا عليها..لماذا؟ تلبية للانحراف الذي يلوي نفوسهم عن الاستقامة:
فبدل الذين ظلموا منهم قولا غير الذي قيل لهم ..
عندئذ يرسل الله عليهم من السماء عذابا.. السماء التي تنزل عليهم منها المن والسلوى وظللهم فيها الغمام! ..
فأرسلنا عليهم رجزا من السماء بما كانوا يظلمون ..
وهكذا كان ظلم فريق منهم - أي كفرهم - ظلما لأنفسهم بما أصابهم من عذاب الله..
ولا يفصل القرآن نوع العذاب الذي أصابهم في هذه المرة. لأن غرض القصة يتم بدون تعيينه. فالغرض هو بيان عاقبة المعصية عن أمر الله، وتحقيق النذر، ووقوع الجزاء العادل الذي لا يفلت منه العصاة.
ومرة أخرى يقع القوم في المعصية والخطيئة.. وهم في هذه المرة لا يخالفون الأمر جهرة ولكنهم يحتالون على النصوص ليفلتوا منها! ويأتيهم الابتلاء فلا يصبرون عليه، لأن الصبر على الابتلاء يحتاج إلى طبيعة متماسكة في تملك الارتفاع عن الأهواء والأطماع:
واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر، إذ يعدون في السبت، إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم. كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون. وإذ قالت أمة منهم: لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا؟ قالوا: معذرة إلى ربكم، ولعلهم يتقون. فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء، وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون. فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم: كونوا قردة خاسئين. وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب، إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم ..
[ ص: 1383 ] يعدل السياق هنا عن أسلوب الحكاية عن ماضي بني إسرائيل، إلى أسلوب المواجهة لذراريهم التي كانت تواجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المدينة.. والآيات من هنا إلى قوله تعالى:
وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة آيات مدنية. نزلت في
المدينة لمواجهة اليهود فيها وضمت إلى هذه السورة المكية في هذا الموضع، تكملة للحديث عما ورد فيها من قصة بني إسرائيل مع نبيهم
موسى..
يأمر الله سبحانه رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يسأل اليهود عن هذه الواقعة المعلومة لهم في تاريخ أسلافهم.
وهو يواجههم بهذا التاريخ بوصفهم أمة متصلة الأجيال ويذكرهم بعصيانهم القديم، وما جره على فريق منهم من المسخ في الدنيا وما جره عليهم جميعا من كتابة الذل عليهم والغضب أبدا.. اللهم إلا الذين يتبعون الرسول النبي، فيرفع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم.
ولا يذكر اسم القرية التي كانت حاضرة البحر فهي معروفة للمخاطبين! فأما الواقعة ذاتها فقد كان أبطالها جماعة من بني إسرائيل يسكنون مدينة ساحلية.. وكان بنو إسرائيل قد طلبوا أن يجعل لهم يوم راحة يتخذونه عيدا للعبادة ولا يشتغلون فيه بشؤون المعاش، فجعل لهم السبت.. ثم كان الابتلاء ليربيهم الله ويعلمهم كيف تقوى إرادتهم على المغريات والأطماع وكيف ينهضون بعهودهم حين تصطدم بهذه المغريات والأطماع.. وكان ذلك ضروريا لبني إسرائيل الذين تخلخلت شخصياتهم وطباعهم بسبب الذل الذي عاشوا فيه طويلا ولا بد من تحرير الإرادة بعد الذل والعبودية، لتعتاد الصمود والثبات. فضلا على أن هذا ضروري لكل من يحملون دعوة الله ويؤهلون لأمانة الخلافة في الأرض.. وقد كان اختبار الإرادة والاستعلاء على الإغراء هو أول اختبار وجه من قبل إلى
آدم وحواء.. فلم يصمدا له واستمعا لإغراء الشيطان بشجرة الخلد وملك لا يبلى! ثم ظل هو الاختبار الذي لا بد أن تجتازه كل جماعة قبل أن يأذن الله لها بأمانة الاستخلاف في الأرض.. إنما يختلف شكل الابتلاء، ولا تتغير فحواه! ولم يصمد فريق من بني إسرائيل - في هذه المرة - للابتلاء الذي كتبه الله عليهم بسبب ما تكرر قبل ذلك من فسوقهم وانحرافهم.. لقد جعلت الحيتان في يوم السبت تتراءى لهم على الساحل، قريبة المأخذ، سهلة الصيد. فتفوتهم وتفلت من أيديهم بسبب حرمة السبت التي قطعوها على أنفسهم! فإذا مضى السبت، وجاءتهم أيام الحل. لم يجدوا الحيتان قريبة ظاهرة، كما كانوا يجدونها يوم الحرم! .. وهذا ما أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يذكرهم به ويذكرهم ماذا فعلوا وماذا لاقوا:
واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر. إذ يعدون في السبت. إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم. كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون .
فأما كيف وقع لهم هذا، وكيف جعلت الأسماك تحاورهم هذه المحاورة، وتداورهم هذه المداورة..
فهي الخارقة التي تقع بإذن الله عند ما يشاء الله.. والذين لا يعلمون ينكرون أن تجري مشيئة الله بغير ما يسمونه هم " قوانين الطبيعة " ! والأمر في التصور الإسلامي - وفي الواقع - ليس على هذا النحو.. إن الله سبحانه هو الذي خلق هذا الكون، وأودعه القوانين التي يسير عليها بمشيئته الطليقة. ولكن هذه المشيئة لم تعد حبيسة هذه القوانين لا تملك أن تجري إلا بها.. لقد ظلت طليقة بعد هذه القوانين كما كانت طليقة.. وهذا ما يغفل عنه الذين لا يعلمون.. وإذا كانت حكمة الله ورحمته بعباده المخاليق قد اقتضت ثبات هذه القوانين فإنه لم يكن معنى هذا تقيد هذه المشيئة وانحباسها داخل هذه القوانين.. فحيثما اقتضت الحكمة جريان أمر من الأمور مخالفا لهذه القوانين الثابتة جرت المشيئة طليقة بهذا الأمر.. ثم إن جريان هذه القوانين الثابتة في كل مرة تجري
[ ص: 1384 ] فيها إنما يقع بقدر من الله خاص بهذه المرة. فهي لا تجري جريانا آليا لا تدخل لقدر الله فيه.. وهذا مع ثباتها في طريقها ما لم يشإ الله أن تجري بغير ذلك.. وعلى أساس أن كل ما يقع - سواء من جريان القوانين الثابتة أو جريان غيرها - إنما يقع بقدر من الله خاص، فإنه تستوي الخارقة والقانون الثابت في جريانه بهذا القدر..
ولا آلية في نظام الكون في مرة واحدة - كما يظن الذين لا يعلمون! - ولقد بدأوا يدركون هذا في ربع القرن الأخير ! على أية حال، لقد وقع ذلك لأهل القرية التي كانت حاضرة البحر من بني إسرائيل.. فإذا جماعة منهم تهيج مطامعهم أمام هذا الإغراء، فتتهاوى عزائمهم، وينسون عهدهم مع ربهم وميثاقهم، فيحتالون الحيل - على طريقة اليهود - للصيد في يوم السبت! وما أكثر الحيل عند ما يلتوي القلب، وتقل التقوى، ويصبح التعامل مع مجرد النصوص، ويراد التفلت من ظاهر النصوص! .. إن القانون لا تحرسه نصوصه، ولا يحميه حراسه. إنما تحرسه القلوب التقية التي تستقر تقوى الله فيها وخشيته، فتحرس هي القانون وتحميه. وما من قانون تمكن حمايته أن يحتال الناس عليه! ما من قانون تحرسه القوة المادية والحراسة الظاهرية! ولن تستطيع الدولة - كائنا ما كان الإرهاب فيها - أن تضع على رأس كل فرد حارسا يلاحقه لتنفيذ القانون وصيانته ما لم تكن خشية الله في قلوب الناس، ومراقبتهم له في السر والعلن..
من أجل ذلك تفشل الأنظمة والأوضاع التي لا تقوم على حراسة القلوب التقية. وتفشل النظريات والمذاهب التي يضعها البشر للبشر ولا سلطان فيها من الله.. ومن أجل ذلك تعجز الأجهزة البشرية التي تقيمها الدول لحراسة القوانين وتنفيذها. وتعجز الملاحقة والمراقبة التي تتابع الأمور من سطوحها! وهكذا راح فريق من سكان القرية التي كانت حاضرة البحر يحتالون على السبت، الذي حرم عليهم الصيد فيه.. وروي أنهم كانوا يقيمون الحواجيز على السمك ويحوطون عليه في يوم السبت حتى إذا جاء الأحد سارعوا إليه فجمعوه وقالوا: إنهم لم يصطادوه في السبت، فقد كان في الماء - وراء الحواجيز - غير مصيد! وراح فريق منهم آخر يرى ما يفعلون من الاحتيال على الله! فيحذر الفريق العاصي مغبة احتياله! وينكر عليه ما يزاوله من الاحتيال! بينما مضى فريق ثالث يقول للآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر: ما فائدة ما تزاولونه مع هؤلاء العصاة، وهم لا يرجعون عما هم آخذون فيه؟ وقد كتب الله عليهم الهلاك والعذاب؟
وإذ قالت أمة منهم: لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا؟ .
فلم تعد هناك جدوى من الوعظ لهم، ولم تعد هناك جدوى لتحذيرهم. بعد ما كتب الله عليهم الهلاك أو العذاب الشديد بما اقترفوه من انتهاك لحرمات الله.
قالوا: معذرة إلى ربكم، ولعلهم يتقون ..
فهو واجب لله نؤديه: واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتخويف من انتهاك الحرمات، لنبلغ
[ ص: 1385 ] إلى الله عذرنا، ويعلم أن قد أدينا واجبنا. ثم لعل النصح يؤثر في تلك القلوب العاصية فيثير فيها وجدان التقوى.
وهكذا انقسم سكان الحاضرة إلى ثلاث فرق.. أو ثلاث أمم.. فالأمة في التعريف الإسلامي هي مجموعة الناس التي تدين بعقيدة واحدة وتصور واحد وتدين لقيادة واحدة، وليست كما هي في المفهوم الجاهلي القديم أو الحديث، مجموعة الناس التي تسكن في إقليم واحد من الأرض وتحكمها دولة واحدة! فهذا مفهوم لا يعرفه الإسلام، إنما هي من مصطلحات الجاهلية القديمة أو الحديثة! وقد انقسم سكان القرية الواحدة إلى ثلاث أمم: أمة عاصية محتالة. وأمة تقف في وجه المعصية والاحتيال وقفة إيجابية بالإنكار والتوجيه والنصيحة. وأمة تدع المنكر وأهله، وتقف موقف الإنكار السلبي ولا تدفعه بعمل إيجابي.. وهي طرائق متعددة من التصور والحركة، تجعل الفرق الثلاث أمما ثلاثا! فلما لم يجد النصح، ولم تنفع العظة، وسدر السادرون في غيهم، حقت كلمة الله، وتحققت نذره.
فإذا الذين كانوا ينهون عن السوء في نجوة من السوء. وإذا الأمة العاصية يحل بها العذاب الشديد الذي سيأتي بيانه. فأما الفرقة الثالثة - أو الأمة الثالثة - فقد سكت النص عنها.. ربما تهوينا لشأنها - وإن كانت لم تؤخذ بالعذاب - إذ إنها قعدت عن الإنكار الإيجابي، ووقفت عند حدود الإنكار السلبي. فاستحقت الإهمال وإن لم تستحق العذاب:
فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء، وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون. فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم: كونوا قردة خاسئين ..
لقد كان العذاب البئيس - أي الشديد - الذي حل بالعصاة المحتالين، جزاء إمعانهم في المعصية - التي يعتبرها النص هي الكفر، الذي يعبر عنه بالظلم مرة وبالفسق مرة كما هو الغالب في التعبير القرآني عن الكفر والشرك بالظلم والفسق وهو تعبير يختلف عن المصطلح الفقهي المتأخر عن هذه الألفاظ إذ إن مدلولها القرآني ليس هو المدلول الذي جعل يشيع في التعبير الفقهي المتأخر - كان ذلك العذاب البئيس هو المسخ عن الصورة الآدمية إلى الصورة القردية! لقد تنازلوا هم عن آدميتهم، حين تنازلوا عن أخص خصائصها - وهو الإرادة التي تسيطر على الرغبة - وانتكسوا إلى عالم " الحيوان " حين تخلوا عن خصائص " الإنسان " . فقيل لهم أن يكونوا حيث أرادوا لأنفسهم من الانتكاس والهوان! أما كيف صاروا قردة؟ وكيف حدث لهم بعد أن صاروا قردة؟ هل انقرضوا كما ينقرض كل ممسوخ يخرج عن جنسه؟ أم تناسلوا وهم قردة؟ ... إلى آخر هذه المسائل التي تتعدد فيها روايات التفسير ... فهذا كله مسكوت عنه في القرآن الكريم وليس وراءه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيء.. فلا حاجة بنا نحن إلى الخوض فيه.
لقد جرت كلمة الله التي يجري بها الخلق والتكوين ابتداء كما يجري بها التحوير والتغيير. كلمة " كن " .
قلنا لهم: كونوا قردة خاسئين ..
فكانوا قردة مهينين. كما جرى القول الذي لا راد له ولا يعجز قائله عن شيء سبحانه!
[ ص: 1386 ] ثم كانت اللعنة الأبدية على الجميع - إلا الذين يؤمنون بالنبي الأمي ويتبعونه - بما انتهى إليه أمرهم بعد فترة من المعصية التي لا تنتهي وصدرت المشيئة الإلهية بالحكم الذي لا راد له ولا معقب عليه:
وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب. إن ربك لسريع العقاب، وإنه لغفور رحيم ..
فهو إذن الأبد الذي تحقق منذ صدوره فبعث الله على اليهود في فترات من الزمان من يسومهم سوء العذاب. والذي سيظل نافذا في عمومه، فيبعث الله عليهم بين آونة وأخرى من يسومهم سوء العذاب.
وكلما انتعشوا وانتفشوا وطغوا في الأرض وبغوا، جاءتهم الضربة ممن يسلطهم الله من عباده على هذه الفئة الباغية النكدة، الناكثة العاصية، التي لا تخرج من معصية إلا لتقع في معصية ولا تثوب من انحراف حتى تجنح إلى انحراف..
ولقد يبدو أحيانا أن اللعنة قد توقفت، وأن يهود قد عزت واستطالت! وإن هي إلا فترة عارضة من فترات التاريخ.. ولا يدري إلا الله من ذا الذي سيسلط عليهم في الجولة التالية، وما بعدها إلى يوم القيامة.
لقد تأذن الله بهذا الأمر الدائم إلى يوم القيامة - كما أخبر الله نبيه في قرآنه - معقبا على هذا الأمر بتقرير صفة الله سبحانه في العذاب والرحمة:
إن ربك لسريع العقاب، وإنه لغفور رحيم ..
فهو بسرعة عقابه يأخذ الذين حقت عليهم كلمته بالعذاب - كما أخذ القرية التي كانت حاضرة البحر - وهو بمغفرته ورحمته يقبل التوبة ممن يثوب من بني إسرائيل، ممن يتبعون الرسول النبي الذي يجدونه مكتوبا عندهم، في التوراة والإنجيل.. فليس عذابه - سبحانه - عن نقمة ولا إحنة. إنما هو الجزاء العادل لمن يستحقونه، ووراءه المغفرة والرحمة..