وبعد، فإن هناك بقية في بيان طبيعة "
الجهاد في الإسلام " و " طبيعة هذا الدين " يمدنا بها المبحث المجمل القيم الذي أمدنا به المسلم العظيم السيد
أبو الأعلى المودودي أمير الجماعة الإسلامية في
باكستان، بعنوان " الجهاد في سبيل الله " .. وسنحتاج أن نقتبس منه فقرات طويلة لا غنى عنها لقارئ يريد رؤية واضحة دقيقة لهذا الموضوع الخطير العميق في بناء الحركة الإسلامية:
" لقد جرت عادة الإفرنج أن يعبروا عن كلمة " الجهاد " بالحرب المقدسة " إذا أرادوا ترجمتها بلغاتهم. وقد فسروها تفسيرا منكرا. وتفننوا فيها، وألبسوها ثوبا فضفاضا من المعاني المموهة الملفقة.
وقد بلغ الأمر في ذلك أن أصبحت كلمة الجهاد عندهم عبارة عن شراسة الطبع والخلق والهمجية وسفك الدماء. وقد كان من لباقتهم، وسحر بيانهم، وتشويههم لوجوه الحقائق الناصعة، أنه كلما قرع سمع الناس صوت هذه الكلمة.. الجهاد.. تمثلت أمام أعينهم صورة مواكب من الهمج المحتشدة، مصلتة سيوفها، متقدة صدورها بنار التعصب والغضب، متطايرا من عيونها شرار الفتك والنهب، عالية أصواتها بهتاف:
" الله أكبر " ، زاحفة إلى الأمام، ما إن رأت كافرا حتى أمسكت بخناقه، وجعلته بين أمرين: إما أن يقول كلمة: " لا إله إلا الله " فينجو بنفسه، وإما أن يضرب عنقه، فتشخب أوداجه دما! " ولقد رسم الدهان هذه " الصورة " بلباقة فائقة، وتفننوا فيها بريشة المتفنن المبدع وكان من دهائهم ولباقتهم في هذا الفن أن صبغوها بصبغ من النجيع الأحمر، وكتبوا تحتها:
" هذه الصورة مرآة لما كان بسلف هذه الأمة من شره إلى سفك الدماء، وجشع إلى الفتك بالأبرياء " ! " والعجب كل العجب، أن الذين عملوا على هذه الصورة وقاموا بما كان لهم من حظ موفور في إبرازها وعرضها على الأنظار، هم هم الذين مضت عليهم قرون وأجيال يتقاتلون ويتناحرون فيما بينهم إرضاء لشهواتهم الدنيئة وإطفاء لأوار مطامعهم الأشعبية، وتلك هي حربهم الملعونة غير المقدسة التي أثاروها على الأمم المستضعفة في مشارق الأرض ومغاربها، وجاسوا خلال ديارهم يبحثون عن أسواق لبضائعهم وأراض لمستعمراتهم التي يريدون أن يستعمروها، ويستبدوا بمنابع ثروتها دون أصحابها الشرعيين، ويفتشون عن المناجم والمعادن، وعما تغله أرض الله الواسعة من الحاصلات التي يمكن أن تكون غذاء لبطون مصانعهم ومعاملهم. يبحثون عن كل ذلك وقلوبهم كلها جشع وشره إلى المال والجاه. وبين أيديهم الدبابات المدججة، وفوق رؤوسهم الطائرات المحلقة في جو السماء، ووراء ظهورهم مئات الألوف من العساكر المدربة يقطعون على البلاد سبل رزقها، وعلى أهاليها الوادعين طريقهم إلى الحياة الكريمة، يريدون بذلك أن يهيئوا وقودا لنيران مطامعهم الفاحشة التي لا تزيدها الأيام إلا التهابا واضطرابا. فلم تكن حروبهم في " سبيل الله " ، وإنما كانت في سبل شهواتهم الدنيئة، وأهوائهم الذميمة ...
" هذه هي حال الذين يصموننا بالغزو والقتال الذي سبق لنا من أعمال الفتوح والحروب قد مضت عليه أحقاب طويلة. أما أعمالهم المخزية هذه فلا يزالون يقترفونها ليل نهار بمرأى ومسمع من العالم " المتحضر المتمدن! " . وأي بلاد الله، يا ترى، قد سلمت من عدوانهم، وما تخضبت أراضيها بدماء أبنائها الزكية؟
وأية هذه القارات العظيمة من
آسيا وإفريقية وأمريكا ما ذاقت وبال حروبهم الملعونة؟ .. لكن هؤلاء الدهاة
[ ص: 1445 ] رسموا صورتنا بلباقة منكرة، وأبدأوا وأعادوا في عرضها بشكل هائل بشع، وقد سحب ذيل النسيان على صورتهم الدميمة، حتى لا يكاد يذكرها أحد بجنب الصورة المنكرة التي صوروا بها تاريخنا ومآثر أسلافنا.
فما أعظم دهاءهم! وما أبرعهم في التزوير والتمويه! " أما سذاجتنا وبله رجالنا، فحدث عن البحر ولا حرج! وأي بله أعظم من اغترارنا بالصورة المنكرة التي صوروا بها مآثرنا حتى كدنا نؤمن بصحتها ومطابقتها للحقيقة؟ وما دار بخلدنا أن ننظر إلى الأيدي الأثيمة التي عملت عملها في رسم هذه الصورة المزورة، وأن نبحث عن الأقلام الخفية التي تفننت في تمويهها وزخرفتها.
وقد بلغ من اغترارنا بتزويرهم، وانخداعنا بتلك الصورة المموهة أن اعترانا الخجل والندامة، وعدنا نعتذر إلى القوم، نبدل كلام الله، ونحرف الكلم عن مواضعه، ونقول لهم: " ما لنا وللقتال، أيها السادة، إنما نحن دعاة مبشرون، ندعو إلى دين الله، دين الأمن والسلام والدعة بالحكمة والموعظة الحسنة، نبلغ كلام الله تبليغ الرهبان والدراويش والصوفية، ونجادل من يعارضنا بالتي هي أحسن، بالخطب والرسائل والمقالات حتى يؤمن من يؤمن بدعوتنا عن بينة! هذه هي دعوتنا لا تزيد ولا تنقص! أما السيف والقتال به فمعاذ الله أن نمت إليه بصلة. اللهم إلا أن يقال: إننا ربما دافعنا عن أنفسنا حينما اعتدى علينا أحد! ذلك أيضا قد مضت عليه سنون وأعوام طويلة. أما اليوم فقد أظهرنا براءتنا من ذلك أيضا! ومن أجل ذلك نسخنا الجهاد " رسميا " ! ذلك الجهاد الممقوت الذي يعمل فيه السيف عمله! حتى لا يقلق بالكم ولا يقض عليكم المضجع! فما الجهاد اليوم إلا مواصلة الجهود باللسان والقلم وليس لنا إلا أن نلعب بمرهفات الألسنة وأسنة الأقلام! أما المدافع والدبابات والرشاشات وغيرها من آلات الحرب واستخدامها، فأنتم أحق بها وأهلها! " .
" هذه مكايدهم السياسية التي كشفنا لك القناع عن بعضها فيما تقدم. لكنا إذا أنعمنا النظر في المسألة من الوجهة العلمية، ودققنا النظر في الأسباب التي أشكل لأجلها استجلاء حقيقة " الجهاد في سبيل الله " ، واستكناه سرها على المسلمين أنفسهم فضلا عن غير المسلمين، لاح لنا أن مرجع هذا الخطإ إلى أمرين مهمين لم يسبروا غورهما، ولم يدركوا مغزاهما على وجه الحقيقة:
" فالأول: أنهم ظنوا الإسلام نحلة بالمعنى الذي تطلق عليه كلمة " النحلة " عامة..
" والثاني: أنهم حسبوا المسلمين أمة بالمعنى الذي تستعمل فيه هذه الكلمة في عامة الأحوال.
" فالحقيقة أن خطأ القوم في فهم هذين الأمرين المهمين، وعدم استجلائهم لوجه الحق في هاتين المسألتين الأساسيتين هو الذي شوه وجه الحقيقة الناصعة في هذا الشأن، وعاقهم عن إدراك مغزى الجهاد الإسلامي.
بل الحق - والحق أحق أن يتبع - أن هذا الخطأ الأساسي في فهم هاتين المسألتين قد أرخى سدوله على حقيقة الدين الإسلامي بأسره، وقلب الأمر ظهرا لبطن، وجعل موقف المسلمين من العالم ومسائله المتجددة ومشاكله المتشعبة حرجا ضيقا، لا يرضاه الإسلام وتعاليمه الخالدة:
" فالنحلة على حسب الاصطلاح الشائع عندهم، لا يراد بها إلا مجموعة من العقائد والعبادات والشعائر. ولا جرم أن " النحلة " بهذا المعنى لا تعدو أن تكون مسألة شخصية. فأنت حر فيما تختاره من العقيدة ولك الخيار في أن تعبد بأي طريق شئت من رضيت به ربا لنفسك. وإن أبت نفسك إلا التحمس
[ ص: 1446 ] لهذه النحلة والانتصار لعقيدتها فلك أن تخترق الأرض، وتجوب بلاد الله الشاسعة، داعيا إلى عقيدتها، مدافعا عن كيانها بالحجج والبراهين، مجادلا من يخالفونك فيها بمرهفات الألسنة وأسنة الأقلام. أما السيف وآلات الحرب والقتال، فما لك وما لها في هذا الشأن؟ أتريد أن تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين بعقيدتك؟! وإن كان الإسلام نحلة كنحل العالم، على حسب الاصطلاح الشائع عندهم كما يزعمون، فالظاهر أنه لا شأن فيها للسيف وأدوات الحرب، كما قالوا. ولو كان موقف الإسلام في نفس الأمر كما زعموا ووصفوا لما كان فيه مساغ للجهاد، ولم يكن من الإسلام في ورد ولا صدر لكن الأمر على خلاف ذلك، كما سوف تعرفه فيما يأتي من البيان. وكذلك كلمة " الأمة " فما هي إلا عبارة عن طائفة من الناس متوافقة فيما بينها اجتمعت وتألفت وامتازت من بين طوائف أخرى لاشتراكها في بعض الأمور الجوهرية. فالطائفة التي تكون " أمة " ، بهذا المعنى، لا يبعثها على استخدام السيف إلا أمران: إما أن يعتدي عليها أحد، ويريد أن يسلبها حقوقها المعروفة وإما أن تحمل هي بنفسها على طائفة أخرى لتنتزع من يدها حقوقها المعروفة. ففي الصورة الأولى منهما، لها سعة في الأمر، وهي لا تخلو من وازع خلقي يلجئها إلى استخدام السيف والبطش بمن اعتدى عليها. وإن كان بعض المتشدقين بالأمن والسلام لا يبيح ذلك أيضا! - أما الصورة الثانية - أي الاعتداء على حقوق غيرها والإغارة على الشعوب والأمم من غير ما سبب - فلا يبيحها غير الجبابرة المسيطرين حتى إن ساسة الدول الكبرى
كبريطانيا وأمريكا أيضا لا يقدرون أن يجترئوا على القول بجوازها! " فإن كان الإسلام " نحلة " كالنحل الأخرى، والمسلمون " أمة " كغيرهم من أمم العالم، فلا جرم أن " الجهاد " الإسلامي يفقد بذلك جميع المزايا والخصائص التي جعلته رأس العبادات ودرة تاجها.. لكن الحقيقة أن الإسلام ليس بنحلة كالنحل الرائجة، وأن المسلمين ليسوا بأمة كأمم العالم.. بل الأمر أن الإسلام فكرة انقلابية ومنهاج انقلابي يريد أن يهدم نظام العالم الاجتماعي بأسره ويأتي بنيانه من القواعد، ويؤسس بنيانه من جديد حسب فكرته ومنهاجه العملي.. ومن هناك تعرف أن لفظ " المسلم " وصف للحزب الانقلابي العالمي الذي يكونه الإسلام، وينظم صفوفه، ليكون أداة في إحداث ذلك البرنامج الانقلابي الذي يرمي إليه الإسلام، ويطمح إليه ببصره. والجهاد عبارة عن الكفاح الانقلابي عن تلك الحركة الدائبة المستمرة التي يقام بها للوصول إلى هذه الغاية، وإدراك هذا المبتغى.
" والإسلام يتجنب الكلمات الشائعة في دعوته وبيان منهجه العملي - شأن غيره من الدعوات الفكرية والمناهج الانقلابية - بل يؤثر لذلك لغة من المصطلحات خاصة، لئلا يقع الالتباس بين دعوته وما إليها من الأفكار والتصورات، وبين الأفكار والتصورات الشائعة الرائجة. " فالجهاد " أيضا من الكلمات التي اصطلح عليها الإسلام لأداء مهمته وتبيين تفاصيل دعوته. فأنت ترى أن الإسلام قد تجنب لفظة (الحرب) وغيرها من الكلمات التي تؤدي معنى القتال في اللغة العربية، واستبدل بها كلمة في اللغة الإنجليزية. غير أن لفظة (الجهاد) أبلغ منها تأثيرا، وأكثر منها إحاطة بالمعنى المقصود. فما الذي أفضى بالإسلام إلى أن يختار هذه الكلمة الجديدة، صارفا بوجهه عن الكلمات القديمة الرائجة؟ الذي أراه وأجزم به أنه ليس لذلك إلا سبب واحد: وهو أن لفظة " الحرب " كانت ولا تزال تطلق على القتال الذي يشب لهيبه وتستعر ناره بين الرجال والأحزاب والشعوب لمآرب شخصية وأغراض ذاتية.
والغايات التي ترمي إليها أمثال هذه الحروب لا تعدو أن تكون مجرد أغراض شخصية أو اجتماعية، لا تكون
[ ص: 1447 ] فيها رائحة لفكرة أو انتصار لمبدإ. وبما أن القتال المشروع في الإسلام ليس من قبيل هذه الحروب، لم يكن له بد من ترك هذه اللفظة (الحرب) البتة. فإن الإسلام لا ينظر إلى مصلح أمة دون أمة، ولا يقصد إلى النهوض بشعب دون شعب وكذلك لا يهمه في قليل ولا كثير أن تملك الأرض وتستولي عليها هذه المملكة أو تلك وإنما تهمه سعادة البشر وفلاحهم. وله فكرة خاصة ومنهاج عملي مختار لسعادة المجتمع البشري والصعود به إلى معارج الفلاح. فكل حكومة مؤسسة على فكرة غير هذه الفكرة، ومنهاج غير هذا المنهاج، يقاومها الإسلام، ويريد أن يقضي عليها قضاء مبرما ولا يعنيه في شيء بهذا الصدد أمر البلاد التي قامت فيها تلك الحكومة غير المرضية، أو الأمة التي ينتمي إليها القائمون بأمرها. فإن غايته استعلاء فكرته، وتعميم منهاجه، وإقامة الحكومات وتوطيد دعائمها على أساس هذه الفكرة وهذا المنهاج، بصرف النظر عمن يحمل لواء الحق والعدل بيده ومن تنتكس راية عدوانه وفساده! والإسلام يتطلب " الأرض " ، ولا يقنع بقطعة أو جزء منها وإنما يتطلب ويستدعي المعمورة الأرضية كلها. ولا يتطلبها لتستولي عليها وتستبد بمنابع ثروتها أمة بعينها بعد ما تنتزع من أمة أو أمم شتى، بل يتطلبها الإسلام ويستدعيها ليتمتع الجنس البشري بأجمعه بفكرة السعادة البشرية ومنهاجها العملي اللذين أكرمه الله بهما، وفضله بهما على سائر الأديان والشرائع. وتحقيقا لهذه الغاية السامية يريد الإسلام أن يستخدم جميع القوى والوسائل التي يمكن استخدامها لإحداث انقلاب علمي شامل ويبذل الجهد المستطاع للوصول إلى هذه الغاية العظمى ويسمي هذا الكفاح المستمر، واستنفاد القوى البالغ واستخدام شتى الوسائل المستطاعة " بالجهاد " . فالجهاد كلمة جامعة تشتمل جميع أنواع السعي وبذل الجهد. وإذا عرفت هذا فلا تعجب إذا قلت: إن تغيير وجهات أنظار الناس وتبديل ميولهم ونزعاتهم، وإحداث انقلاب عقلي وفكري بواسطة مرهفات الأقلام نوع من أنواع الجهاد، كما أن القضاء على نظم الحياة العتيقة الجائرة بحد السيوف، وتأسيس نظام جديد على قواعد العدل والنصفة أيضا من أصناف الجهاد. وكذلك بذل الأموال، وتحمل المشاق، ومكابدة الشدائد أيضا فصول وأبواب مهمة من كتاب " الجهاد " العظيم.
" لكن
الجهاد الإسلامي ليس بجهاد لا غاية له وإنما هو الجهاد في سبيل الله وقد لزمه هذا الشرط لا ينفك عنه أبدا. وذلك أيضا من الكلمات التي اصطلح عليها الإسلام لتبيين فكرته وإيضاح تعاليمه، كما أشرت إليه آنفا. وقد انخدع كثير من الناس بمدلوله اللغوي الظاهر، وحسبوا أن إخضاع الناس لعقيدة الإسلام وإكراههم على قبولها هو " الجهاد في سبيل الله " وذلك أن ضيق صدورهم وعدم اتساع مجال تفكيرهم يعوقهم أن يسموا بأنفسهم فوق ذلك ويحلقوا في سماء أوسع من سمائهم. لكن الحق أن " سبيل الله " في المصطلح الإسلامي أرحب وأوسع بكثير مما يتصورون، وأسمى غاية وأبعد مراما مما يظنون ويزعمون..
" فالذي يتطلبه الإسلام أنه إذا قام رجل، أو جماعة من المسلمين، تبذل جهودها، وتستنفد مساعيها للقضاء على النظم البالية الباطلة، وتكوين نظام جديد حسب الفكرة الإسلامية، فعليها أن تكون مجردة عن كل غرض، مبرأة من كل هوى أو نزعة شخصية، لا تقصد من وراء جهودها، وما تبذل في سبيل غايتها من النفوس والنفائس إلا تأسيس نظام عادل يقوم بالقسط والحق بين الناس، ولا تبتغي بها بدلا في هذه الحياة الفانية، ولا يكون من هم الإنسان خلال هذا الكفاح المستمر والجهاد المتواصل لإعلاء كلمة الله أن ينال جاها وشرفا أو سمعة وحسن أحدوثة، ولا يخطرن بباله أثناء هذه الجهود البالغة والمساعي الغالية أن يسمو بنفسه وعشيرته، ويستبد بزمام الأمر، ويتبوأ منصب الطواغيت الفجرة، بعد ما يعزل غيره من الجبابرة المستكبرين عن مناصبهم. وها هو ذا القرآن الكريم ينادي بملء صوته:
الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت ... (النساء: 76)
[ ص: 1448 ] .. " وقد تضمنت الآية الكريمة:
يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون ... (البقرة: 21) " لباب هذه الدعوة، دعوة الإسلام الانقلابية، وجوهرها. فإنه لا يخاطب سكان هذه الكرة باسم العمال، أو الفلاحين، أو الملاكين، أو المتمولين من أصحاب المعامل والمصانع، ولا يسميهم بأسماء أحزابهم وطبقاتهم.
وإنما يخاطب الإسلام بني
آدم كافة. ولا يناديهم كذلك إلا بصفة كونهم أفراد الجنس البشري، فهو يأمرهم أن يعبدوا الله وحده ولا يشركوا به شيئا، ولا يتخذوا إلها ولا ربا غيره. وكذلك يدعوهم ألا يعتوا عن أمر ربهم، ولا يستنكفوا عن عبادته، ولا يتكبروا في أرض الله بغير الحق، فإن الحكم والأمر لله وحده، وبيده مقاليد السماوات والأرض فلا يجوز لأحد من خلقه، كائنا من كان، أن يعلو في الأرض ويتكبر، ويقهر الناس حتى يخضعوا له ويذعنوا لأمره وينقادوا لجبروته. ودعوته لهم جميعا أن يخلصوا دينهم لله وحده فيكونوا سواء في هذه العبودية الشاملة، كما ورد في التنزيل:
تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم: ألا نعبد إلا الله، ولا نشرك به شيئا، ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله ... (آل عمران: 64) .
" فهذه دعوة إلى انقلاب عالمي شامل، لا غموض فيها ولا إبهام. فإنه قد نادى بملء صوته:
إن الحكم إلا لله، أمر ألا تعبدوا إلا إياه. ذلك الدين القيم .. (يوسف: 40) " فليس لأحد من بني
آدم أن ينصب نفسه ملكا على الناس ومسيطرا عليهم، يأمرهم بما يشاء وينهاهم عما يريد. ولا جرم أن استقلال فرد من أفراد البشر بالأمر والنهي من غير أن يكون له سلطان من الملك الأعلى، هو تكبر في الأرض على الله بغير الحق، وعتو عن أمره، وطموح إلى مقام الألوهية . والذين يرضون أمثال هؤلاء الطواغيت لهم ملوكا وأمراء إنما يشركون بالله، وذلك مبعث الفساد في الأرض، ومنه تنفجر ينابيع الشر والطغيان.