ثم يتكرر الهتاف للذين آمنوا مرة أخرى.. إن
الأموال والأولاد قد تقعد الناس عن الاستجابة خوفا وبخلا.
والحياة التي يدعو إليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حياة كريمة، لا بد لها من تكاليف، ولا بد لها من تضحيات.. لذلك يعالج القرآن هذا الحرص بالتنبيه إلى فتنة الأموال والأولاد - فهي موضع ابتلاء واختبار وامتحان - وبالتحذير من الضعف عن اجتياز هذا الامتحان; ومن التخلف عن دعوة الجهاد; وعن تكاليف الأمانة والعهد والبيعة. واعتبار هذا التخلف خيانة لله والرسول، وخيانة للأمانات التي تضطلع بها الأمة المسلمة في الأرض، وهي إعلاء كلمة الله وتقرير ألوهيته وحده للعباد، والوصاية على البشرية بالحق والعدل.. ومع هذا التحذير التذكير بما عند الله من أجر عظيم يرجح الأموال والأولاد، التي قد تقعد الناس عن التضحية والجهاد:
يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون. واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة، وأن الله عنده أجر عظيم ..
إن التخلي عن تكاليف الأمة المسلمة في الأرض خيانة لله والرسول. فالقضية الأولى في هذا الدين هي قضية:
"لا إله إلا الله،
محمد رسول الله".. قضية إفراد الله - سبحانه - بالألوهية; والأخذ في هذا بما بلغه
محمد - صلى الله عليه وسلم - وحده.. والبشرية في تاريخها كله لم تكن تجحد الله البتة; ولكنها إنما كانت تشرك معه آلهة أخرى. أحيانا قليلة في الاعتقاد والعبادة. وأحيانا كثيرة في الحاكمية والسلطان - وهذا هو غالب الشرك ومعظمه - ومن ثم كانت القضية الأولى لهذا الدين ليست هي حمل الناس على الاعتقاد بألوهية الله. ولكن حملهم على إفراده - سبحانه - بالألوهية، وشهادة أن لا إله إلا الله، أي إفراده بالحاكمية في حياتهم الأرضية - كما أنهم مقرون بحاكميته في نظام الكون - تحقيقا لقول الله تعالى:
وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله .. كذلك كانت هي حملهم على أن الرسول هو وحده المبلغ عن الله; ومن ثم الالتزام بكل ما يبلغهم إياه..
هذه هي قضية هذا الدين - اعتقادا لتقريره في الضمير، وحركة لتقريره في الحياة - ومن هنا كان التخلي عنها خيانة لله والرسول; يحذر الله منها العصبة المسلمة التي آمنت به وأعلنت هذا الإيمان; فأصبح متعينا عليها
[ ص: 1498 ] أن تجاهد لتحقيق مدلوله الواقعي; والنهوض بتكاليف هذا الجهاد في الأنفس والأموال والأولاد.
كذلك يحذرها خيانة الأمانة التي حملتها يوم بايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الإسلام.
فالإسلام ليس كلمة تقال باللسان، وليس مجرد عبارات وأدعيات. إنما هو منهج حياة كاملة شاملة تعترضه العقبات والمشاق. إنه منهج لبناء واقع الحياة على قاعدة أن لا إله إلا الله; وذلك برد الناس إلى العبودية لربهم الحق; ورد المجتمع إلى حاكميته وشريعته، ورد الطغاة المعتدين على ألوهية الله وسلطانه من الطغيان والاعتداء; وتأمين الحق والعدل للناس جميعا; وإقامة القسط بينهم بالميزان الثابت; وتعمير الأرض والنهوض بتكاليف الخلافة فيها عن الله بمنهج الله..
وكلها أمانات من لم ينهض بها فقد خانها; وخاس بعهده الذي عاهد الله عليه، ونقض بيعته التي بايع بها رسوله.
وكل أولئك في حاجة إلى التضحية والصبر والاحتمال; وإلى الاستعلاء على فتنة الأموال والأولاد، وإلى التطلع إلى ما عند الله من الأجر العظيم، المدخر لعباده الأمناء على أماناته، الصابرين المؤثرين المضحين:
واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة، وأن الله عنده أجر عظيم
..
إن هذا القرآن يخاطب الكينونة البشرية، بما يعلم خالقها من تركيبها الخفي، وبما يطلع منها على الظاهر والباطن، وعلى المنحنيات والدروب والمسالك!
وهو - سبحانه - يعلم مواطن الضعف في هذه الكينونة. ويعلم أن الحرص على الأموال وعلى الأولاد من أعمق مواطن الضعف فيها.. ومن هنا ينبهها إلى حقيقة هبة الأموال والأولاد.. لقد وهبها الله للناس ليبلوهم بها ويفتنهم فيها. فهي من زينة الحياة الدنيا التي تكون موضع امتحان وابتلاء; ليرى الله فيها صنيع العبد وتصرفه.. أيشكر عليها ويؤدي حق النعمة فيها؟ أم يشتغل بها حتى يغفل عن أداء حق الله فيها؟:
ونبلوكم بالشر والخير فتنة .. فالفتنة لا تكون بالشدة وبالحرمان وحدهما.. إنها كذلك تكون بالرخاء وبالعطاء أيضا! ومن الرخاء والعطاء هذه الأموال والأولاد..
هذا هو التنبيه الأول:
واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة
..
فإذا انتبه القلب إلى موضع الامتحان والاختبار، كان ذلك عونا له على الحذر واليقظة والاحتياط; أن يستغرق وينسى ويخفق في الامتحان والفتنة.
ثم لا يدعه الله بلا عون منه ولا عوض.. فقد يضعف عن الأداء - بعد الانتباه - لثقل التضحية وضخامة التكليف; وبخاصة في موطن الضعف في الأموال والأولاد! إنما يلوح له بما هو خير وأبقى، ليستعين به على الفتنة ويتقوى:
وأن الله عنده أجر عظيم
..
إنه - سبحانه - هو الذي وهب الأموال والأولاد.. وعنده وراءهما أجر عظيم لمن يستعلي على فتنة الأموال والأولاد، فلا يقعد أحد إذن عن تكاليف الأمانة وتضحيات الجهاد.. وهذا هو العون والمدد للإنسان الضعيف، الذي يعلم خالقه مواطن الضعف فيه:
وخلق الإنسان ضعيفا ..
إنه منهج متكامل في الاعتقاد والتصور، والتربية والتوجيه، والفرض والتكليف. منهج الله الذي يعلم; لأنه هو الذي خلق:
ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير؟ .
[ ص: 1499 ] والهتاف الأخير للذين آمنوا - في هذا المقطع من السورة - هو الهتاف بالتقوى. فما تنهض القلوب بهذه الأعباء الثقال، إلا وهي على بينة من أمرها ونور يكشف الشبهات ويزيل الوساوس ويثبت الأقدام على الطريق الشائك الطويل. وما يكون لها هذا الفرقان إلا بحساسية التقوى وإلا بنور الله:
يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا، ويكفر عنكم سيئاتكم، ويغفر لكم. والله ذو الفضل العظيم ..
هذا هو الزاد، وهذه هي عدة الطريق.. زاد التقوى التي تحيي القلوب وتوقظها وتستجيش فيها أجهزة الحذر والحيطة والتوقي. وعدة النور الهادي الذي يكشف منحنيات الطريق ودروبه على مد البصر; فلا تغبشه الشبهات التي تحجب الرؤية الكاملة الصحيحة.. ثم هو زاد المغفرة للخطايا. الزاد المطمئن الذي يسكب الهدوء والقرار.. وزاد الأمل في فضل الله العظيم يوم تنفد الأزواد وتقصر الأعمال.
إنها حقيقة: أن تقوى الله تجعل في القلب فرقانا يكشف له منعرجات الطريق. ولكن هذه الحقيقة - ككل حقائق العقيدة - لا يعرفها إلا من ذاقها فعلا! إن الوصف لا ينقل مذاق هذه الحقيقة لمن لم يذوقوها!.
إن الأمور تظل متشابكة في الحس والعقل; والطرق تظل متشابكة في النظر والفكر; والباطل يظل متلبسا بالحق عند مفارق الطريق! وتظل الحجة تفحم ولكن لا تقنع. وتسكت ولكن لا يستجيب لها القلب والعقل.
ويظل الجدل عبثا والمناقشة جهدا ضائعا.. ذلك ما لم تكن هي التقوى.. فإذا كانت استنار العقل، ووضح الحق، وتكشف الطريق، واطمأن القلب، واستراح الضمير، واستقرت القدم وثبتت على الطريق!
إن الحق في ذاته لا يخفى على الفطرة.. إن هناك اصطلاحا من الفطرة على الحق الذي فطرت عليه; والذي خلقت به السماوات والأرض.. ولكنه الهوى هو الذي يحول بين الحق والفطرة.. الهوى هو الذي ينشر الغبش، ويحجب الرؤية، ويعمي المسالك، ويخفي الدروب.. والهوى لا تدفعه الحجة إنما تدفعه التقوى.. تدفعه مخافة الله، ومراقبته في السر والعلن.. ومن ثم هذا الفرقان الذي ينير البصيرة، ويرفع اللبس، ويكشف الطريق.
وهو أمر لا يقدر بثمن.. ولكن فضل الله العظيم يضيف إليه تكفير الخطايا ومغفرة الذنوب. ثم يضيف إليهما
الفضل العظيم ..
ألا إنه العطاء العميم الذي لا يعطيه إلا الرب "الكريم" ذو الفضل العظيم!