ثم يمضي السياق خطوة أخرى في تحريض المؤمنين على القتال:
يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون. هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، ولو كره المشركون ..
إن أهل الكتاب هؤلاء لا يقفون عند حد الانحراف عن دين الحق، وعبادة أرباب من دون الله. وعدم الإيمان بالله واليوم الآخر - وفق المفهوم الصحيح للإيمان بالله واليوم الآخر - إنما هم كذلك يعلنون الحرب على دين الحق; ويريدون إطفاء نور الله في الأرض المتمثل في هذا الدين، وفي الدعوة التي تنطلق به في الأرض، وفي المنهج الذي يصوغ على وفقه حياة البشر..
يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ..
فهم محاربون لنور الله. سواء بما يطلقونه من أكاذيب ودسائس وفتن; أو بما يحرضون به أتباعهم وأشياعهم على حرب هذا الدين وأهله، والوقوف سدا في وجهه - كما كان هو الواقع الذي تواجهه هذه النصوص وكما هو الواقع على مدار التاريخ.
وهذا التقرير - وإن كان يراد به استجاشة قلوب المسلمين إذ ذاك - هو كذلك يصور طبيعة الموقف الدائم لأهل الكتاب من نور الله المتمثل في دينه الحق الذي يهدي الناس بنور الله.
ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون ..
وهو الوعد الحق من الله، الدال على سنته التي لا تتبدل، في إتمام نوره بإظهار دينه ولو كره الكافرون..
وهو وعد تطمئن له قلوب الذين آمنوا; فيدفعهم هذا إلى المضي في الطريق على المشقة واللأواء في الطريق; وعلى الكيد والحرب من الكافرين (والمراد بهم هنا هم أهل الكتاب السابق ذكرهم).. كما أنه يتضمن في ثناياه الوعيد لهؤلاء الكافرين وأمثالهم على مدار الزمان!
ويزيد السياق هذا الوعيد وذلك الوعد توكيدا:
[ ص: 1644 ] هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، ولو كره المشركون ..
وفي هذا النص يتبين أن المراد بدين الحق الذي سبق في قوله تعالى:
قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون .. هو هذا الدين الذي أرسل الله به رسوله الأخير. وأن الذين لا يدينون بهذا الدين هم الذين يشملهم الأمر بالقتال..
وهذا صحيح على أي وجه أولنا الآية. فالمقصود إجمالا بدين الحق هو الدينونة لله وحده في الاعتقاد والشعائر والشرائع - وهذه هي قاعدة دين الله كله، وهو الدين الممثل أخيرا فيما جاء به
محمد صلى الله عليه وسلم - فأيما شخص أو قوم لم يدينوا لله وحده في الاعتقاد والشعائر والشرائع مجتمعة; انطبق عليهم أنهم لا يدينون دين الحق، ودخلوا في مدلول آية القتال.. مع مراعاة طبيعة المنهج الحركي للإسلام، ومراحله المتعددة، ووسائله المتجددة كما قلنا مرارا.
هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، ولو كره المشركون ..
وهذا توكيد لوعد الله الأول:
ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون .. ولكن في صورة أكثر تحديدا. فنور الله الذي قرر سبحانه أن يتمه، هو دين الحق الذي أرسل به رسوله ليظهره على الدين كله.
ودين الحق - كما أسلفنا - هو الدينونة لله وحده في الاعتقاد والعبادة والتشريع مجتمعة. وهو متمثل في كل دين سماوي جاء به رسول من قبل.. ولا يدخل فيه طبعا تلك الديانات المحرفة المشوهة المشوبة بالوثنيات في الاعتقاد التي عليها اليهود والنصارى اليوم. كما لا تدخل فيه الأنظمة والأوضاع التي ترفع لافتة الدين، وهي تقيم في الأرض أربابا يعبدها الناس من دون الله، في صورة الاتباع للشرائع التي لم ينزلها الله.
والله سبحانه يقول: إنه أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله.. ويجب أن نفهم "الدين" بمدلوله الواسع الذي بيناه، لندرك أبعاد هذا الوعد الإلهي ومداه..
إن "الدين" هو "الدينونة".. فيدخل فيه كل منهج وكل مذهب وكل نظام يدين الناس له بالطاعة والاتباع والولاء..
والله سبحانه يعلن قضاءه بظهور دين الحق الذي أرسل به رسوله على "الدين" كله بهذا المدلول الشامل العام!
إن الدينونة ستكون لله وحده. والظهور سيكون للمنهج الذي تتمثل فيه الدينونة لله وحده.
ولقد تحقق هذا مرة على يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه ومن جاء بعدهم فترة طويلة من الزمان. وكان دين الحق أظهر وأغلب; وكانت الأديان التي لا تخلص فيها الدينونة لله تخاف وترجف! ثم تخلى أصحاب دين الحق عنه; خطوة فخطوة بفعل عوامل داخلة في تركيب المجتمعات الإسلامية من ناحية وبفعل الحرب الطويلة المدى، المنوعة الأساليب، التي أعلنها عليه أعداؤه من الوثنيين وأهل الكتاب سواء..
ولكن هذه ليست نهاية المطاف.. إن وعد الله قائم، ينتظر العصبة المسلمة، التي تحمل الراية وتمضي، مبتدئة من نقطة البدء، التي بدأت منها خطوات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يحمل دين الحق ويتحرك بنور الله..
[ ص: 1645 ] ثم يخطو السياق الخطوة الأخيرة في هذا المقطع من السورة، مصورا كيف أن أهل الكتاب لا يحرمون ما حرم الله ورسوله، بعد ما أشار إلى هذه الحقيقة في قوله:
اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله التي فسرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنهم "أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال، فاتبعوهم".. فبين أنهم إذن لا يحرمون ما حرم الله ورسوله، إنما يحرمون ما حرمه عليهم الأحبار والرهبان!
يخطو السياق الخطوة الأخيرة في بيان هذه الحقيقة مخاطبا بها الذين آمنوا كاشفا لهم في هذا الخطاب عن حقيقة أهل الكتاب:
يا أيها الذين آمنوا، إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل، ويصدون عن سبيل الله. والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم. يوم يحمى عليها في نار جهنم، فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم. هذا ما كنزتم لأنفسكم، فذوقوا ما كنتم تكنزون ..
وفي الآية الأولى استطراد في بيان دور الأحبار والرهبان الذين اتخذهم أهل الكتاب أربابا من دون الله، فاتبعوهم فيما يشرعون لهم من المعاملات ومن العبادات سواء. فهؤلاء الأحبار والرهبان يجعلون من أنفسهم ويجعلهم قومهم أربابا تتبع وتطاع; وهم فيما يشرعون يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله.
وأكل أموال الناس كان يتمثل في صور شتى وما يزال:
منها ما يأخذونه على فتاوى تحليل الحرام وتحريم الحلال لصالح من يملكون المال أو السلطان. ومنها ما يأخذه القسيس أو الكاهن مقابل الاعتراف له بالخطايا وغفرانه - بالسلطان المخول للكنيسة في زعمهم - لتلك الخطايا! ومنها الربا - وهو أوسع أبوابها وأبشعها - وغيرها كثير.
كذلك ما يجمعونه من أموال الناس لمحاربة دين الحق; وقد كان الرهبان والأساقفة والكرادلة والبابوات يجمعون مئات الملايين في الحروب الصليبية، وما يزالون يجمعونها للتبشير والاستشراق للصد عن سبيل الله.
ولا بد أن نلحظ الدقة القرآنية والعدل الإلهي في قول الله تعالى في ذلك.
إن كثيرا من الأحبار والرهبان.. .
للاحتراز من الحكم على القليل منها الذي لا يزاول هذه الخطيئة. ولا بد من أفراد في أية جماعة من الناس فيهم بقية خير.. ولا يظلم ربك أحدا..
والكثير من الأحبار والرهبان يكنزون هذه الأموال التي يأكلونها بالباطل. وقد شهد تاريخ هؤلاء الناس أموالا ضخمة تنتهي إلى أيدي رجال الدين وتؤول إلى الكنائس والأديرة. وقد جاء عليهم زمان كانوا أكثر ثراء من الملوك المتسلطين والأباطرة الطغاة!
والسياق القرآني يصور عذابهم في الآخرة بما كنزوا، وعذاب كل من يكنز الذهب والفضة ولا ينفقها في سبيل الله، في مشهد من المشاهد التصويرية الرائعة المروعة:
والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم. يوم يحمى عليها في نار جهنم، فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم، هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون
..
إن رسم المشهد هكذا في تفصيل وعرض مشهد العملية منذ خطواتها الأولى إلى خطواتها الأخيرة، ليطيل المشهد في الخيال والحس.. وهي إطالة مقصودة:
[ ص: 1646 ] والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم ..
ويسكت السياق: وتنتهي الآية على هذا الإجمال والإبهام في العذاب..
ثم يأخذ في التفصيل بعد الإجمال:
يوم يحمى عليها في نار جهنم .
وينتظر السامع عملية الإحماء!
ثم ها هي ذي حميت واحمرت. وها هي ذي معدة مهيأة. فليبدأ العذاب الأليم... ها هي ذي الجباه تكوى... لقد انتهت عملية الكي في الجباه، فليداروا على الجنوب... ها هي ذي الجنوب تكوى... لقد انتهت هذه فليداروا على الظهور... ها هي ذي الظهور تكوى... لقد انتهى هذا اللون من العذاب; فليتبعه الترذيل والتأنيب:
هذا ما كنزتم لأنفسكم ..
هذا هو بذاته الذي كنزتموه للذة، فانقلب أداة لهذا اللون الأليم من العذاب!
فذوقوا ما كنتم تكنزون !
ذوقوه بذاته، فهو هو الذي تذوقون منه مسه للجنوب والظهور والجباه!
إلا أنه لمشهد مفزع مروع، يعرض في تفصيل وتطويل وأناة!
وهو يعرض أولا لتصوير مصائر الكثير من الأحبار والرهبان.. ثم لتصوير مصائر الكانزين للذهب والفضة لا ينفقونها في سبيل الله.. والسياق يمهد لغزوة العسرة كذلك حينذاك!
وبعد. فلا بد أن نقف هنا وقفة قصيرة للتعقيب. نبرز فيها دلالة هذا البيان الرباني لحقيقة ما عليه أهل الكتاب من عقيدة ومن دين ومن خلق ومن سلوك - وذلك بالإضافة إلى الإشارات التي أوردناها خلال الفقرات السابقة.
إن تعرية أهل الكتاب من شبهة أنهم على شيء من دين الله، ألزم وأشد ضرورة من بيان حال المشركين الصريحين في شركهم، الشاهدين على أنفسهم بالكفر بظاهر عقائدهم وشعائرهم.. ذلك أن نفوس المسلمين لا تنطلق الانطلاق الكامل لمواجهة الجاهلية إلا حين يتجلى لها تماما وجه الجاهلية! ووجه الجاهلية مكشوف صريح فيما يختص بالمشركين; وليس الحال كذلك فيما يختص بأهل الكتاب (ومن يزعمون أنهم على شيء من دين الله من أمثالهم، كالشأن في الغالبية العظمى ممن يدعون أنفسهم اليوم "مسلمين")
ولقد احتاج الانطلاق الكامل لمواجهة المشركين كثيرا من البيان في هذه السورة، نظرا للملابسات التي شرحناها في التقديم لهذه السورة وفي التقديم للمقطع الأول منها كذلك. حيث قال الله - سبحانه - للمؤمنين:
كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله. إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام، فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم، إن الله يحب المتقين. كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون. اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا فصدوا عن سبيله، إنهم ساء ما كانوا يعملون. لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة وأولئك هم المعتدون .
[ ص: 1647 ] ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم، وهموا بإخراج الرسول، وهم بدءوكم أول مرة؟ أتخشونهم؟ فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين. قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم، ويشف صدور قوم مؤمنين، ويذهب غيظ قلوبهم، ويتوب الله على من يشاء، والله عليم حكيم ..
ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر، أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون .
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان، ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون .
... إلخ... إلخ...
وإذا كان الانطلاق لمجاهدة المشركين قد اقتضى كل هذه الحملة - وأمرهم ظاهر - نظرا لتلك الملابسات التي كانت قائمة في التكوين العضوي للمجتمع المسلم في تلك الفترة.. فقد كان الانطلاق لمجاهدة أهل الكتاب في حاجة إلى حملة أشد وأعمق. تستهدف - أول ما تستهدف - تعرية أهل الكتاب هؤلاء من تلك "اللافتة" الشكلية التي لم تعد وراءها حقيقة; وتظهرهم على حقيقتهم الواقعية.. مشركين كالمشركين.. كفارا كالكفار..
محاربين لله ولدينه الحق كأمثالهم من المشركين الكافرين.. ضلالا يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله.. في مثل هذه النصوص القاطعة الصريحة:
قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله، ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب، حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون. وقالت اليهود: عزير ابن الله، وقالت النصارى: المسيح ابن الله. ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل. قاتلهم الله! أنى يؤفكون؟ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو، سبحانه عما يشركون. يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره. ولو كره الكافرون. هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، ولو كره المشركون.. يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله ... إلخ..
وذلك بالإضافة إلى التقريرات القرآنية الحاسمة - في السور المكية والمدنية على السواء - عن حقيقة ما انتهى إليه أمر أهل الكتاب من الشرك والكفر والخروج من دين الله الذي جاءهم به أنبياؤهم من قبل; فضلا على وقفتهم من رسالة الله الأخيرة، التي على أساس موقفهم منها يتحدد وصفهم بالكفر أو بالإيمان.
فلقد سبق أن ووجه أهل الكتاب بأنهم ليسوا على شيء من دين الله أصلا في قوله تعالى:
قل: يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل.. وما أنزل إليكم من ربكم. وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا فلا تأس على القوم الكافرين . (المائدة: 68).
كذلك سبق وصفهم بالكفر، وضمهم إلى المشركين في هذه الصفة.. يهودا ونصارى.. أو مجتمعين في صفة "أهل الكتاب" في مثل قوله تعالى:
وقالت اليهود: يد الله مغلولة! غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا. بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء. [ ص: 1648 ] وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا... ... (المائدة: 64).
لقد كفر الذين قالوا: إن الله هو المسيح ابن مريم... ... (المائدة: 72)
لقد كفر الذين قالوا: إن الله ثالث ثلاثة... ... (المائدة: 73)
لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة .. (البينة: 1).
وغيرها كثير، أثبتنا بعضه فيما تقدم، والقرآن الكريم - مكيه ومدنيه - حافل بمثل هذه التقريرات.
وإذا كانت الأحكام القرآنية قد جعلت لأهل الكتاب بعض الامتيازات في التعامل عن المشركين. وذلك كإحلال طعامهم للمسلمين، وإجازة التزوج بالمحصنات (أي: العفيفات) من نسائهم.. فإن ذلك لم يكن مبنيا على أساس أنهم على شيء من دين الله الحق; ولكن كان مراعى فيه - والله أعلم - أن لهم أصلا من دين وكتاب - وإن كانوا لا يقيمونه - فمن الممكن محاكمتهم إلى هذا الأصل الذي يدعون أنهم عليه! فهم في هذا يفترقون عن المشركين الوثنيين الذين لا كتاب لهم; لأنه ليس لهم من أصل يردون إليه ويمكن محاكمتهم له.. أما تقريرات القرآن عن حقيقة ما عليه أهل الكتاب من عقيدة ودين، فهي صريحة وحاسمة في أنهم ليسوا على شيء من دين الله بعد ما تركوا كتبهم ودينهم إلى ذلك الذي صنعه لهم أحبارهم ورهبانهم ومجامعهم وكنائسهم! وفي قول الله - سبحانه - فصل الخطاب في هذا الموضوع!
والمهم الآن أن نبرز دلالة هذا البيان الرباني لحقيقة ما عليه أهل الكتاب من العقيدة والدين..
إن هذه "اللافتة" المضللة التي ليس وراءها شيء من الحقيقة، تحول دون الانطلاق الإسلامي الكامل لمواجهة "الجاهلية". فتتحتم - إذن - إزالة هذه اللافتة; وتعريتهم من ظلها الخادع; وكشفهم على حقيقتهم الواقعة.. ولا نغفل الملابسات التي كانت قائمة في المجتمع المسلم يومذاك - والتي أشرنا إليها من قبل - سواء منها ما يختص بالتكوين العضوي لهذا المجتمع يومها، وما يختص بظروف الغزوة ذاتها في الحر والعسرة!
وما يختص كذلك بالتهيب من لقاء
الروم بسبب ما كان لهم في نفوس
العرب - قبل الإسلام - من هيبة وسمعة ومخافة!.. ولكن الأعمق من هذا كله هو ما يحيك في النفس المسلمة، عند الأمر بقتال أهل الكتاب على هذا النحو الشامل.. وهم أهل كتاب!!!
وأعداء هذا الدين، الراصدون لحركات البعث الإسلامي الجديدة في هذا الجيل يرصدونها عن خبرة واسعة بطبيعة النفس البشرية، وبتاريخ الحركة الإسلامية، على السواء.. وهم من أجل ذلك حريصون - كل الحرص - على رفع "لافتة إسلامية" على الأوضاع والحركات والاتجاهات والقيم والتقاليد والأفكار التي يعدونها ويقيمونها ويطلقونها لسحق حركات البعث الإسلامي الجديدة في أرجاء الأرض جميعا. ذلك لتكون هذه اللافتة الخادعة مانعة من الانطلاق الحقيقي لمواجهة "الجاهلية" الحقيقة القابعة وراء تلك اللافتة الكاذبة!
لقد أخطؤوا - مضطرين - مرة أو مرات في إعلان حقيقة بعض الأوضاع والحركات، وفي الكشف عن الوجه الكالح للجاهلية المنقضة على الإسلام فيها.. وأقرب مثال لذلك حركة "أتاتورك" اللا إسلامية الكافرة في تركيا.. وكان وجه الاضطرار فيها هو حاجتهم الملحة إلى إلغاء آخر مظهر للتجمع الإسلامي تحت راية العقيدة. ذلك المظهر الذي كان يتمثل في قيام "الخلافة".. وهو - وإن كان مجرد مظهر - كان آخر عروة
[ ص: 1649 ] تنقض قبل نقض عروة الصلاة! كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
"ينقض هذا الدين عروة عروة، فأولها الحكم، وآخرها الصلاة"..
ولكن أولئك الأعداء الواعين - من أهل الكتاب والملحدين الذين لا يجتمعون إلا حين تكون المعركة مع هذا الدين! - لم يكادوا يتجاوزون منطقة الاضطرار في الكشف عن الوجهة اللا إسلامية الكافرة في حركة
"أتاتورك" حتى عادوا يحرصون بشدة على ستر الأوضاع التالية المماثلة لحركة
"أتاتورك" في وجهتها الدينية، بستار الإسلام; ويحرصون على رفع تلك اللافتة الخادعة على تلك الأوضاع - وهي أشد خطرا على الإسلام من حركة
"أتاتورك" السافرة - ويفتنون افتتانا في ستر حقيقة هذه الأوضاع التي يقيمونها ويكفلونها اقتصاديا وسياسيا وفكريا; ويهيئون لها أسباب الحماية بأقلام مخابراتهم وبأدوات إعلامهم العالمية; وبكل ما يملكونه من قوة وحيلة وخبرة; ويتعاون أهل الكتاب والملحدون على تقديم المعونات المتنوعة لها; لتؤدي لهم هذه المهمة التي لم تنته منها الحروب الصليبية قديما ولا حديثا; يوم كانت هذه الحروب الصليبية معركة سافرة بين الإسلام وأعدائه المكشوفين الظاهرين!
والسذج ممن يدعون أنفسهم "مسلمين" يخدعون في هذه اللافتة.. ومن هؤلاء السذج كثير من الدعاة إلى الإسلام في الأرض! فيتحرجون من إنزالها عن "الجاهلية" القائمة تحتها، ويتحرجون من وصف هذه الأوضاع بصفتها الحقيقية التي تحجبها هذه اللافتة الخادعة.. صفة الشرك والكفر الصريحة.. ويتحرجون من وصف الناس الراضين بهذه الأوضاع بصفتهم الحقيقية كذلك! وكل هذا يحول دون الانطلاق الحقيقي الكامل لمواجهة هذه الجاهلية مواجهة صريحة; لا تحرج فيها ولا تأثم من وصفها بصفتها الحقيقية الواقعة!
بذلك تقوم تلك اللافتة بعملية تخدير خطرة لحركات البعث الإسلامي; كما تقوم حاجزا دون الوعي الحقيقي، ودون الانطلاق الحقيقي لمواجهة جاهلية القرن العشرين التي تتصدى لسحق الجذور الباقية لهذا الدين.
هؤلاء السذج - من الدعاة إلى الإسلام - أخطر في نظري على حركات البعث الإسلامي من أعداء هذا الدين الواعين، الذين يرفعون لافتة الإسلام على الأوضاع والحركات والاتجاهات والأفكار والقيم والتقاليد التي يقيمونها ويكفلونها لتسحق لهم هذا الدين!
إن هذا الدين يغلب دائما عند ما يصل الوعي بحقيقته وحقيقة الجاهلية إلى درجة معينة في نفوس العصبة المؤمنة - في أي زمان وفي أي مكان - . والخطر الحقيقي على هذا الدين ليس كامنا في أن يكون له أعداء أقوياء واعون مدربون; بقدر ما يكمن في أن يكون له أصدقاء سذج مخدوعون، يتحرجون في غير تحرج; ويقبلون أن يتترس أعداؤهم بلافتة خادعة من الإسلام; بينما هم يرمون الإسلام من وراء هذه اللافتة الخادعة!
إن الواجب الأول للدعاة إلى هذا الدين في الأرض، أن ينزلوا تلك اللافتات الخادعة المرفوعة على الأوضاع الجاهلية، والتي تحمي هذه الأوضاع المقامة لسحق جذور هذا الدين في الأرض جميعا! وإن نقطة البدء في أية حركة إسلامية هي تعرية الجاهلية من ردائها الزائف، وإظهارها على حقيقتها.. شركا وكفرا.. ووصف الناس بالوصف الذي يمثل واقعهم; كيما تواجههم الحركة الإسلامية بالطلاقة الكاملة. بل كيما ينتبه هؤلاء
[ ص: 1650 ] الناس أنفسهم إلى حقيقة ما انتهى إليه حالهم - وهي الحقيقة التي انتهى إليها حال أهل الكتاب كما يقررها الحكيم الخبير - عسى أن يوقظهم هذا التنبيه إلى تغيير ما بأنفسهم، ليغير الله ما بهم من الشقوة والنكد والعذاب الأليم الذي هم فيه مبلسون!
وكل تحرج في غير موضعه; وكل انخداع بالأشكال والظواهر واللافتات; هو تعويق لنقطة الانطلاق الأولى لأية حركة إسلامية في الأرض جميعا; وهو تمكين لأعداء هذا الدين من مكرهم الذي أرادوه بالحرص على إقامة تلك اللافتات بعد ما انكشفت حركة
"أتاتورك" في التاريخ الحديث; وباتت عاجزة عن المضي خطوة واحدة بعد إلغاء آخر مظهر من مظاهر التجمع الإسلامي على أساس العقيدة. نظرا لانكشاف وجهتها هذا الانكشاف الصريح.. مما دعا كاتبا صليبيا شديد المكر عميق الخبث مثل " ولفرد كانتول سميث " في كتابه: "الإسلام في التاريخ الحديث" إلى محاولة تغطية حركة أتاتورك مرة أخرى، ونفي الإلحاد عنها، واعتبارها أعظم وأصح حركة بعث "إسلامي" (كذا) في التاريخ الحديث!!!