[ ص: 1688 ] [ ص: 1689 ] بسم الله الرحمن الرحيم
بقية
سورة التوبة
وسورة يونس
الجزء الحادي عشر
[ ص: 1690 ] [ ص: 1691 ] بسم الله الرحمن الرحيم
يتألف هذا الجزء من بقية سورة التوبة - التي سبق الشطر الأكبر منها في الجزء العاشر - ومن سورة يونس.. وسنمضي أولا مع بقية سورة التوبة: أما سورة يونس فسنعرف بها في موضعها من هذا الجزء إن شاء الله.
لقد جاء في الجزء العاشر عن سورة التوبة هذه الفقرات التي تكشف عن طبيعتها; وعن الملابسات والظروف التي أحاطت بنزولها; وعن أهميتها في بيان العلاقات النهائية بين المجتمع المسلم وسائر المجتمعات الأخرى; وفي بيان طبيعة المنهج الحركي للإسلام أيضا:
هذه السورة مدنية، من أواخر ما نزل من القرآن - إن لم تكن هي آخر ما نزل من القرآن - ومن ثم قد تضمنت أحكاما نهائية في العلاقات بين الأمة المسلمة وسائر الأمم في الأرض; كما تضمنت تصنيف المجتمع المسلم ذاته، وتحديد قيمه ومقاماته، وأوضاع كل طائفة فيه، وكل طبقة من طبقاته; ووصف واقع هذا المجتمع بجملته، وواقع كل طائفة منه وكل طبقة وصفا دقيقا مصورا مبينا.
والسورة - بهذا الاعتبار - ذات أهمية خاصة في بيان طبيعة المنهج الحركي للإسلام ومراحله وخطواته - حين تراجع الأحكام النهائية التي تضمنتها مع الأحكام المرحلية التي جاءت في السور قبلها - وهذه المراجعة تكشف عن مدى مرونة ذلك المنهج، وعن مدى حسمه كذلك. وبدون هذه المراجعة تختلط هذه الصور والأحكام والقواعد; كما يقع كلما انتزعت الآيات التي تتضمن أحكاما مرحلية فجعلت نهائية; ثم أريد للآيات التي تتضمن الأحكام النهائية أن تفسر وتؤول لتطابق تلك الأحكام المرحلية; وبخاصة في موضوع الجهاد الإسلامي، وعلاقات المجتمع المسلم بالمجتمعات الأخرى.....
كذلك ذكرنا في تقديم السورة أنها ذات مقاطع - مع وحدة موضوعها وجوها وملابساتها - يتولى كل مقطع بيان الأحكام النهائية في موضوعه.. وقد تناول المقطع الأول منها بيان أحكام العلاقات النهائية بين المسلمين والمشركين في
الجزيرة العربية. كما تناول المقطع الثاني بيان أحكام العلاقات النهائية بين المسلمين وأهل الكتاب عامة. ثم تولى المقطع الثالث النعي على المتثاقلين الذين دعوا إلى التجهز لغزوة
تبوك –أي: غزو أهل الكتاب المتجمعين على أطراف
الجزيرة للانقضاض على الإسلام والمجتمع الإسلامي - كما تولى المقطع الرابع فضح المنافقين وأفاعيلهم في المجتمع المسلم، ووصف أحوالهم النفسية والعملية، ومواقفهم في غزوة
تبوك وقبلها وفي أثنائها وما تلاها، وكشف حقيقة نواياهم وحيلهم ومعاذيرهم في التخلف عن الجهاد، وبث الضعف والفتنة والفرقة في الصف المسلم، وإيذاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والخلص من المؤمنين.
[ ص: 1692 ] يصاحب هذا الكشف تحذير الخلص من المؤمنين من كيد المنافقين، وتحديد العلاقات بين هؤلاء وهؤلاء، والمفاصلة بين الفريقين، وتمييز كل منهما بصفاته وأعماله...
وهذه المقاطع الأربعة قد سيقت بجملتها في الجزء العاشر.. إلا بقية في الحديث عن المتخلفين، وعن حدود التبعة في التخلف عن الجهاد..
ولقد كانت آخر آية في الجزء العاشر هي قوله تعالى:
ليس على الضعفاء ولا على المرضى، ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون، حرج إذا نصحوا لله ورسوله. ما على المحسنين من سبيل، والله غفور رحيم. ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت: لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون ..
أما التكملة التي يبدأ بها هذا الجزء فهي قوله تعالى:
إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء، رضوا بأن يكونوا مع الخوالف، وطبع الله على قلوبهم، فهم لا يعلمون. يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم. قل لا تعتذروا، لن نؤمن لكم، قد نبأنا الله من أخباركم، وسيرى الله عملكم ورسوله، ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون. سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس، ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون يحلفون لكم لترضوا عنهم، فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين ..
وقد كان هذا من إنباء الله - سبحانه - لنبيه - صلى الله عليه وسلم - عما سيكون من حال المنافقين المتخلفين وأعذارهم إذا رجع من الغزوة سالما هو ومن معه من المسلمين الخلص; وتوجيه له ولهم إلى ما يجب أن يجيبوهم به، وما يجب أن يعاملوهم به كذلك.
بعد ذلك يجيء المقطع الخامس في السورة وهو يتولى تصنيف المجتمع المسلم بجملته في هذه الفترة - من الفتح إلى
تبوك - ومنه نعلم - كما قلنا في تقديم السورة - أنه كان إلى جوار السابقين المخلصين من
المهاجرين والأنصار - وهم الذين كانوا يؤلفون قاعدة المجتمع المسلم الصلبة القوية - جماعات أخرى.. الأعراب، وفيهم المخلصون والمنافقون. والمنافقون من أهل
المدينة، وآخرون خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا ولم يتم انطباعهم بالطابع الإسلامي، ولم يصهروا في بوتقة الإسلام تماما. وطائفة مجهولة الحال لا تعرف حقيقة مصيرها، متروك أمرها لله وفق ما يعلمه من حقيقة حالها ومآلها. ومتآمرون يتسترون باسم الإسلام، ويدبرون المكائد، ويتصلون بأعداء الإسلام في الخارج.. والنصوص القرآنية تتحدث عن هذه الجماعات كلها في اختصار مفيد; وتقرر كيف تعامل في المجتمع المسلم; وتوجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والخلص من المسلمين إلى طريقة التعامل مع كل منهم في مثل هذه النصوص:
الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله. والله عليم حكيم. ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما، ويتربص بكم الدوائر. عليهم دائرة السوء، والله سميع عليم. ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول. ألا إنها قربة لهم، سيدخلهم الله في رحمته، إن الله غفور رحيم ..
والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، رضي الله عنهم ورضوا عنه، [ ص: 1693 ] وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا، ذلك الفوز العظيم ..
وممن حولكم من الأعراب منافقون، ومن أهل المدينة مردوا على النفاق، لا تعلمهم نحن نعلمهم، سنعذبهم مرتين، ثم يردون إلى عذاب عظيم ..
وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا، عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم. خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها، وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم، والله سميع عليم... .
وآخرون مرجون لأمر الله، إما يعذبهم وإما يتوب عليهم، والله عليم حكيم ..
والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى، والله يشهد إنهم لكاذبون. لا تقم فيه أبدا، لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه، فيه رجال يحبون أن يتطهروا، والله يحب المطهرين ..
وسنحاول أن نتبين من هم المقصودون بكل فئة من هذه الفئات، في ثنايا استعراض النصوص فيما بعد تفصيلا.
فأما المقطع السادس والأخير في السورة، فيتضمن تقريرا لطبيعة
البيعة الإسلامية مع الله سبحانه على الجهاد في سبيله; وطبيعة هذا الجهاد وحدوده وكيفيته; وواجب أهل
المدينة ومن حولهم من الأعراب فيه.. كذلك يتضمن ضرورة المفاضلة الكاملة بين المسلمين ومن عداهم على أساس العقيدة وحدها; وإقامة العلاقات بينهم وبين من عداهم على هذه الوشيجة دون سواها; بما في ذلك أهلهم وقرابتهم وعشيرتهم.. ثم يتضمن بيانا لمصائر الذين تخلفوا عن الغزوة غير منافقين ولا متآمرين; مع ذكر بعض أحوال المنافقين ومواقفهم المميزة لهم تجاه الأوامر القرآنية.. وذلك في مثل هذه النصوص:
إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون، وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن. ومن أوفى بعهده، من الله؟ فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به، وذلك هو الفوز العظيم .
ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى - من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم. وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه، إن إبراهيم لأواه حليم .
لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة - من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم - ثم تاب عليهم، إنه بهم رءوف رحيم. وعلى الثلاثة الذين خلفوا، حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم، وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه، ثم تاب عليهم ليتوبوا، إن الله هو التواب الرحيم .
ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه، ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله، ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار، ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح، إن الله لا يضيع أجر المحسنين. ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة، ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم، ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون. وما كان المؤمنون لينفروا كافة، فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون .
[ ص: 1694 ] يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة، واعلموا أن الله مع المتقين .
وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول: أيكم زادته هذه إيمانا؟ فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون. وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم، وماتوا وهم كافرون .
وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض: هل يراكم من أحد؟ ثم انصرفوا، صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون ..
وفي النهاية تختم السورة بصفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبتوجيهه من ربه إلى التوكل عليه وحده، والاكتفاء بكفالته سبحانه:
لقد جاءكم رسول من أنفسكم، عزيز عليه ما عنتم، حريص عليكم، بالمؤمنين رءوف رحيم. فإن تولوا فقل: حسبي الله، لا إله إلا هو، عليه توكلت، وهو رب العرش العظيم ..
وسنحاول بعد هذا الاستعراض السريع أن نواجه النصوص القرآنية الباقية في السورة بالتفصيل.. والله المعين..