هذا المقطع الأخير من السورة - أو الدرس الأخير فيها - بقية في الأحكام النهائية في طبيعة العلاقات بين المجتمع المسلم وغيره; تبدأ من تحديد العلاقة بين المسلم وربه، وتحديد طبيعة "الإسلام" الذي أعلنه; ومن بيان تكاليف هذا الدين، ومنهج الحركة به في مجالاته الكثيرة.
إن الدخول في الإسلام صفقة بين متبايعين.. الله - سبحانه - فيها هو المشتري والمؤمن فيها هو البائع.
فهي بيعة مع الله لا يبقى بعدها للمؤمن شيء في نفسه ولا في ماله يحتجزه دون الله - سبحانه - ودون الجهاد [ ص: 1714 ] في سبيله لتكون كلمة الله هي العليا، وليكون الدين كله لله. فقد باع المؤمن لله في تلك الصفقة نفسه وماله مقابل ثمن محدد معلوم، هو الجنة: وهو ثمن لا تعدله السلعة، ولكنه فضل الله ومنه:
والذين باعوا هذه البيعة، وعقدوا هذه الصفقة هم صفوة مختارة، ذات صفات مميزة.. منها ما يختص بذوات أنفسهم في تعاملها المباشر مع الله في الشعور والشعائر; ومنها ما يختص بتكاليف هذه البيعة في أعناقهم من العمل خارج ذواتهم لتحقيق دين الله في الأرض من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقيام على حدود الله في أنفسهم وفي سواهم:
والآيات التالية في السياق تقطع ما بين المؤمنين الذين باعوا هذه البيعة وعقدوا هذه الصفقة، وبين كل من لم يدخلوا معهم فيها - ولو كانوا أولي قربى - فقد اختلفت الوجهتان، واختلف المصيران، فالذين عقدوا هذه الصفقة هم أصحاب الجنة، والذين لم يعقدوها هم أصحاب الجحيم. ولا لقاء في دنيا ولا في آخرة بين أصحاب الجنة وأصحاب الجحيم. وقربى الدم والنسب إذن لا تنشئ رابطة، ولا تصلح وشيجة بين أصحاب الجنة وأصحاب الجحيم:
وولاء المؤمن يجب أن يتمحض لله الذي عقد معه تلك الصفقة; وعلى أساس هذا الولاء الموحد تقوم كل رابطة وكل وشيجة - وهذا بيان من الله للمؤمنين يحسم كل شبهة ويعصم من كل ضلالة - وحسب المؤمنين ولاية الله لهم ونصرته، فهم بها في غنى عن كل ما عداه، وهو مالك الملك ولا قدرة لأحد سواه:
ومن ثم بيان محدد لتكاليف البيعة في أعناق أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب; أولئك القريبون من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين يؤلفون القاعدة الإسلامية، ومركز الانطلاق الإسلامي; واستنكار لما وقع منهم من تخلف مع بيان ثمن الصفقة في كل خطوة وكل حركة في تكاليف البيعة:
ومع هذا التحضيض العميق على النفرة للجهاد بيان لحدود التكليف بالنفير العام. وقد اتسعت الرقعة وكثر العدد، وأصبح في الإمكان أن ينفر البعض ليقاتل ويتفقه في الدين; ويبقى البعض للقيام بحاجات المجتمع كله من توفير للأزواد ومن عمارة للأرض، ثم تتلاقى الجهود في نهاية المطاف:
وفي الآية التالية تحديد لطريق الحركة الجهادية - بعدما أصبحت الجزيرة العربية بجملتها قاعدة للإسلام ونقطة لانطلاقه - وأصبح الخط يتجه إلى قتال المشركين كافة حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله.. وقتال أهل الكتاب كافة كذلك حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون:
وعقب هذا البيان المفصل لبيان طبيعة البيعة ومقتضياتها وتكاليفها وخطها الحركي.. يعرض السياق مشهدا من صفحتين تصوران موقف المنافقين وموقف المؤمنين من هذا القرآن وهو يتنزل بموجبات الإيمان القلبية، وبالتكاليف والواجبات العملية. ويندد بالمنافقين الذين لا تهديهم التوجيهات والآيات، ولا تعظهم النذر والابتلاءات:
ويختم الدرس وتختم معه السورة بآيتين تصوران طبيعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحرصه على المؤمنين ورأفته بهم ورحمته. مع توجيهه - صلى الله عليه وسلم - إلى الاعتماد على الله وحده، والاستغناء عن المعرضين الذين لا يهتدون:
ولعله من خلال هذا العرض الإجمالي لمحتويات هذا المقطع الأخير في السورة يتجلى مدى التركيز على الجهاد; وعلى المفاصلة الكاملة على أساس العقيدة; وعلى الانطلاق بهذا الدين في الأرض - وفقا للبيعة على النفس والمال بالجنة للقتل والقتال - لتقرير حدود الله والمحافظة عليها; أي: لتقرير حاكمية الله للعباد، ومطاردة كل حاكمية مغتصبة معتدية!
ولعله من خلال هذا العرض الإجمالي لهذه الحقيقة كذلك يتجلى مدى التهافت والهزيمة التي تسيطر على شراح آيات الله وشريعة الله في هذا الزمان; وهم يحاولون جاهدين أن يحصروا الجهاد الإسلامي في حدود [ ص: 1716 ] الدفاع الإقليمي عن "أرض الإسلام"! بينما كلمات الله - سبحانه - تعلن في غير مواربة عن الزحف المستمر على من يلون "أرض الإسلام" هذه من الكفار دون ذكر لأنهم معتدون! فالاعتداء الأساسي متمثل في اعتدائهم على ألوهية الله - سبحانه - بتعبيد أنفسهم وتعبيد العباد لغير الله. وهذا الاعتداء هو الذي يقتضي جهادهم ما استطاع المسلمون الجهاد!
وحسبنا هذه الإشارة في هذا التقديم المجمل للدرس الأخير، لنواجه نصوصه بالتفصيل.