صفحة جزء
إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون، وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن، ومن أوفى بعهده من الله؟ فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به، وذلك هو الفوز العظيم. التائبون العابدون الحامدون السائحون، الراكعون الساجدون، الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، والحافظون لحدود الله، وبشر المؤمنين ..

هذا النص الذي تلوته من قبل وسمعته ما لا أستطيع عده من المرات، في أثناء حفظي للقرآن، وفي أثناء تلاوته، وفي أثناء دراسته بعد ذلك في أكثر من ربع قرن من الزمان.. هذا النص - حين واجهته في "الظلال" أحسست أنني أدرك منه ما لم أدركه من قبل في المرات التي لا أملك عدها على مدى ذلك الزمان!

إنه نص رهيب! إنه يكشف عن حقيقة العلاقة التي تربط المؤمنين بالله; وعن حقيقة البيعة التي أعطوها - بإسلامهم - طوال الحياة. فمن بايع هذه البيعة ووفى بها فهو المؤمن الحق الذي ينطبق عليه وصف (المؤمن) وتتمثل فيه حقيقة الإيمان. وإلا فهي دعوى تحتاج إلى التصديق والتحقيق!

حقيقة هذه البيعة - أو هذه المبايعة كما سماها الله كرما منه وفضلا وسماحة - أن الله - سبحانه - قد استخلص لنفسه أنفس المؤمنين وأموالهم; فلم يعد لهم منها شيء.. لم يعد لهم أن يستبقوا منها بقية لا ينفقونها في سبيله. لم يعد لهم خيار في أن يبذلوا أو يمسكوا.. كلا.. إنها صفقة مشتراة، لشاريها أن يتصرف بها كما يشاء، وفق ما يفرض ووفق ما يحدد، وليس للبائع فيها من شيء سوى أن يمضي في الطريق المرسوم، لا يتلفت ولا يتخير، ولا يناقش ولا يجادل، ولا يقول إلا الطاعة والعمل والاستسلام.. والثمن: هو الجنة.. والطريق: هو الجهاد والقتل والقتال.. والنهاية: هي النصر أو الاستشهاد:

إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون ..

من بايع على هذا. من أمضى عقد الصفقة. من ارتضى الثمن ووفى. فهو المؤمن.. فالمؤمنون هم الذين اشترى الله منهم فباعوا.. ومن رحمة الله أن جعل للصفقة ثمنا، وإلا فهو واهب الأنفس والأموال، وهو مالك الأنفس والأموال. ولكنه كرم هذا الإنسان فجعله مريدا; وكرمه فجعل له أن يعقد العقود ويمضيها - حتى مع الله - وكرمه فقيده بعقوده وعهوده; وجعل وفاءه بها مقياس إنسانيته الكريمة; ونقضه لها هو مقياس ارتكاسه إلى عالم البهيمة:.. شر البهيمة.. إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون .. كما جعل مناط الحساب والجزاء هو النقض أو الوفاء.

وإنها لبيعة رهيبة - بلا شك - ولكنها في عنق كل مؤمن - قادر عليها - لا تسقط عنه إلا بسقوط إيمانه. ومن هنا تلك الرهبة التي أستشعرها اللحظة وأنا أخط هذه الكلمات:

إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون ..

[ ص: 1717 ] عونك اللهم! فإن العقد رهيب.. وهؤلاء الذين يزعمون أنفسهم "مسلمين" في مشارق الأرض ومغاربها، قاعدون، لا يجاهدون لتقرير ألوهية الله في الأرض، وطرد الطواغيت الغاصبة لحقوق الربوبية وخصائصها في حياة العباد. ولا يقتلون. ولا يقتلون. ولا يجاهدون جهادا ما دون القتل والقتال!

ولقد كانت هذه الكلمات تطرق قلوب مستمعيها الأولين - على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتتحول من فورها في القلوب المؤمنة إلى واقع من واقع حياتهم; ولم تكن مجرد معان يتملونها بأذهانهم، أو يحسونها مجردة في مشاعرهم. كانوا يتلقونها للعمل المباشر بها. لتحويلها إلى حركة منظورة، لا إلى صورة متأملة.. هكذا أدركها عبد الله بن رواحة - رضي الله عنه - في بيعة العقبة الثانية. قال محمد بن كعب القرظي وغيره: قال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه، لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - (يعني ليلة العقبة) - : اشترط لربك ولنفسك ما شئت. فقال: "أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا; وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم". قال: فما لنا إذا نحن فعلنا ذلك؟ قال: "الجنة". قالوا: ربح البيع، ولا نقيل ولا نستقيل.

هكذا.. "ربح البيع ولا نقيل ولا نستقيل".. لقد أخذوها صفقة ماضية نافذة بين متبايعين; انتهى أمرها، وأمضى عقدها، ولم يعد إلى مرد من سبيل: "لا نقيل ولا نستقيل" فالصفقة ماضية لا رجعة فيها ولا خيار; والجنة: ثمن مقبوض لا موعود! أليس الوعد من الله؟ أليس الله هو المشتري؟ أليس هو الذي وعد الثمن. وعدا قديما في كل كتبه:

وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ..

ومن أوفى بعهده من الله؟ .

أجل! ومن أوفى بعهده من الله؟

إن الجهاد في سبيل الله بيعة معقودة بعنق كل مؤمن.. كل مؤمن على الإطلاق منذ كانت الرسل ومنذ كان دين الله.. إنها السنة الجارية التي لا تستقيم هذه الحياة بدونها ولا تصلح الحياة بتركها: ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض .. ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ..

إن الحق لا بد أن ينطلق في طريقه. ولا بد أن يقف له الباطل في الطريق!.. بل لا بد أن يأخذ عليه الطريق.. إن دين الله لا بد أن ينطلق لتحرير البشر من العبودية للعباد وردهم إلى العبودية لله وحده. ولا بد أن يقف له الطاغوت في الطريق.. بل لا بد أن يقطع عليه الطريق.. ولا بد لدين الله أن ينطلق في "الأرض" كلها لتحرير "الإنسان" كله. ولا بد للحق أن يمضي في طريقه ولا ينثني عنه ليدع للباطل طريقا!.. وما دام في "الأرض" كفر. وما دام في "الأرض" باطل. وما دامت في "الأرض" عبودية لغير الله تذل كرامة "الإنسان" فالجهاد في سبيل الله ماض، والبيعة في عنق كل مؤمن تطالبه بالوفاء. وإلا فليس بالإيمان: و "من مات ولم يغز، ولم يحدث نفسه بغزو، مات على شعبة من النفاق"... (رواه الإمام أحمد، وأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي).

[ ص: 1718 ] فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به، وذلك هو الفوز العظيم .

استبشروا بإخلاص أنفسكم وأموالكم لله، وأخذ الجنة عوضا وثمنا، كما وعد الله.. وما الذي فات؟ ما الذي فات المؤمن الذي يسلم لله نفسه وماله ويستعيض الجنة؟ والله ما فاته شيء. فالنفس إلى موت، والمال إلى فوت. سواء أنفقهما صاحبهما في سبيل الله أم في سبيل سواه! والجنة كسب. كسب بلا مقابل في حقيقة الأمر ولا بضاعة! فالمقابل زائل في هذا الطريق أو ذاك!

ودع عنك رفعة الإنسان وهو يعيش لله. ينتصر - إذا انتصر - لإعلاء كلمته، وتقرير دينه، وتحرير عباده من العبودية المذلة لسواه. ويستشهد - إذا استشهد - في سبيله، ليؤدي لدينه شهادة بأنه خير عنده من الحياة. ويستشعر في كل حركة وفي كل خطوة - أنه أقوى من قيود الأرض وأنه أرفع من ثقلة الأرض، والإيمان ينتصر فيه على الألم، والعقيدة تنتصر فيه على الحياة.

إن هذا وحده كسب. كسب بتحقيق إنسانية الإنسان التي لا تتأكد كما تتأكد بانطلاقه من أوهاق الضرورة; وانتصار الإيمان فيه على الألم، وانتصار العقيدة فيه على الحياة.. فإذا أضيفت إلى ذلك كله.. الجنة.. فهو بيع يدعو إلى الاستبشار وهو فوز لا ريب فيه ولا جدال:

فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به، وذلك هو الفوز العظيم .

ثم نقف وقفة قصيرة أمام قوله تعالى في هذه الآية:

وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ..

فوعد الله للمجاهدين في سبيله في القرآن معروف مشهور مؤكد مكرور.. وهو لا يدع مجالا للشك في أصالة عنصر الجهاد في سبيل الله في طبيعة هذا المنهج الرباني; باعتباره الوسيلة المكافئة للواقع البشري - لا في زمان بعينه ولا في مكان بعينه - ما دام أن الجاهلية لا تتمثل في نظرية تقابل بنظرية ولكنها تتمثل في تجمع عضوي حركي، يحمي نفسه بالقوة المادية; ويقاوم دين الله وكل تجمع إسلامي على أساسه بالقوة المادية كذلك; ويحول دون الناس والاستماع لإعلان الإسلام العام بألوهية الله وحده للعباد، وتحرير "الإنسان" في "الأرض" من العبودية للعباد. كما يحول دونهم ودون الانضمام العضوي إلى التجمع الإسلامي المتحرر من عبادة الطاغوت بعبوديته لله وحده دون العباد.. ومن ثم يتحتم على الإسلام في انطلاقه في "الأرض" لتحقيق إعلانه العام بتحرير "الإنسان" أن يصطدم بالقوة المادية التي تحمي التجمعات الجاهلية; والتي تحاول بدورها - في حتمية لا فكاك منها - أن تسحق حركة البعث الإسلامي وتخفت إعلانه التحريري، لاستبقاء العباد في رق العبودية للعباد!

فأما وعد الله للمجاهدين في التوراة والإنجيل. فهو الذي يحتاج إلى شيء من البيان..

إن التوراة والإنجيل اللذين في أيدي اليهود والنصارى اليوم لا يمكن القول بأنهما هما اللذان أنزلهما الله على نبيه موسى وعلى نبيه عيسى عليهما السلام! وحتى اليهود والنصارى أنفسهم لا يجادلون في أن النسخة الأصلية لهذين الكتابين لا وجود لها; وأن ما بين أيديهم قد كتب بعد فترة طويلة ضاعت فيها معظم أصول الكتابين; ولم يبق إلا ما وعته ذاكرة بعد ذاكرة.. وهو قليل.. أضيف إليه الكثير!

ومع ذلك فما تزال في كتب العهد القديم إشارات إلى الجهاد، والتحريض لليهود على قتال أعدائهم الوثنيين، لنصر إلههم وديانته وعبادته! وإن كانت التحريفات قد شوهت تصورهم لله - سبحانه - وتصورهم للجهاد في سبيله.

[ ص: 1719 ] فأما في الأناجيل التي بين أيدي النصارى اليوم فلا ذكر ولا إشارة إلى جهاد.. ولكننا في حاجة شديدة إلى تعديل المفهومات السائدة عن طبيعة النصرانية; فهذه المفهومات إنما جاءت من هذه الأناجيل التي لا أصل لها - بشهادة الباحثين النصارى أنفسهم! - وقبل ذلك بشهادة الله سبحانه كما وردت في كتابه المحفوظ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

والله سبحانه يقول في كتابه المحفوظ: إن وعده بالجنة لمن يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون; ثابت في التوراة والإنجيل والقرآن.. فهذا إذن هو القول الفصل الذي ليس بعده لقائل مقال!

إن الجهاد في سبيل الله بيعة معقودة بعنق كل مؤمن. كل مؤمن على الإطلاق. منذ كانت الرسل، ومنذ كان دين الله..

ولكن الجهاد في سبيل الله ليس مجرد اندفاعة إلى القتال; إنما هو قمة تقوم على قاعدة من الإيمان المتمثل في مشاعر وشعائر وأخلاق وأعمال. والمؤمنون الذين عقد الله معهم البيعة، والذين تتمثل فيهم حقيقة الإيمان هم قوم تتمثل فيهم صفات إيمانية أصيلة:

التائبون. العابدون. الحامدون. السائحون. الراكعون الساجدون. الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر. والحافظون لحدود الله ..

التائبون .. مما أسلفوا، العائدون إلى الله مستغفرين. والتوبة شعور بالندم على ما مضى، وتوجه إلى الله فيما بقي، وكف عن الذنب، وعمل صالح يحقق التوبة بالفعل كما يحققها بالترك. فهي طهارة وزكاة وتوجه وصلاح.

العابدون .. المتوجهون إلى الله وحده بالعبادة وبالعبودية، إقرارا بالربوبية.. صفة هذه ثابتة في نفوسهم تترجمها الشعائر، كما يترجمها التوجه إلى الله وحده بكل عمل وبكل قول وبكل طاعة وبكل اتباع. فهي إقرار بالألوهية والربوبية لله في صورة عملية واقعية.

الحامدون .. الذين تنطوي قلوبهم على الاعتراف للمنعم بالنعمة; وتلهج ألسنتهم بحمد الله في السراء والضراء. في السراء للشكر على ظاهر النعمة، وفي الضراء للشعور بما في الابتلاء من الرحمة. وليس الحمد هو الحمد في السراء وحدها، ولكنه الحمد في الضراء حين يدرك القلب المؤمن أن الله الرحيم العادل ما كان ليبتلي المؤمن إلا لخير يعلمه، مهما خفي على العباد إدراكه.

السائحون .. وتختلف الروايات فيهم. فمنها ما يقول: إنهم المهاجرون. ومنها ما يقول: إنهم المجاهدون. ومنها ما يقول: إنهم المتنقلون في طلب العلم. ومنهم من يقول: إنهم الصائمون.. ونحن نميل إلى اعتبارهم المتفكرين في خلق الله وسننه، ممن قيل في أمثالهم في موضع آخر: إن في خلق السماوات والأرض. واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم، ويتفكرون في خلق السماوات والأرض: ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك!... .. فهذه الصفة أليق هنا بالجو بعد التوبة والعبادة والحمد. فمع التوبة والعبادة والحمد يكون التدبر في ملكوت الله على هذا النحو الذي ينتهي بالإنابة إلى الله، وإدراك حكمته في خلقه، وإدراك الحق الذي يقوم عليه الخلق. لا للاكتفاء بهذا الإدراك وإنفاق العمر في مجرد التأمل والاعتبار. ولكن لبناء الحياة وعمرانها بعد ذلك على أساس هذا الإدراك..

الراكعون الساجدون .. الذين يقيمون الصلاة ويقومون بالصلاة كأنها صفة ثابتة من صفاتهم; وكأن الركوع والسجود طابع مميز بين الناس لهم.

[ ص: 1720 ] الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر .. وحين يقوم المجتمع المسلم الذي تحكمه شريعة الله، فيدين لله وحده ولا يدين لسواه، يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في داخل هذا المجتمع; ويتناول ما يقع فيه من أخطاء وانحرافات عن منهج الله وشرعه.. ولكن حين لا يكون في الأرض مجتمع مسلم; وذلك حين لا يكون في الأرض مجتمع الحاكمية فيه لله وحده، وشريعة الله وحدها هي الحاكمة فيه، فإن الأمر بالمعروف يجب أن يتجه أولا إلى الأمر بالمعروف الأكبر، وهو تقرير ألوهية الله وحده سبحانه وتحقيق قيام المجتمع المسلم. والنهي عن المنكر يجب أن يتجه أولا إلى النهي عن المنكر الأكبر. وهو حكم الطاغوت وتعبيد الناس لغير الله عن طريق حكمهم بغير شريعة الله.. والذين آمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - هاجروا وجاهدوا ابتداء لإقامة الدولة المسلمة الحاكمة بشريعة الله، وإقامة المجتمع المسلم المحكوم بهذه الشريعة. فلما تم لهم ذلك كانوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر في الفروع المتعلقة بالطاعات والمعاصي. ولم ينفقوا قط جهدهم، قبل قيام الدولة المسلمة والمجتمع المسلم في شيء من هذه التفريعات التي لا تنشأ إلا بعد قيام الأصل الأصيل! ومفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا بد أن يدرك وفق مقتضى الواقع. فلا يبدأ بالمعروف الفرعي والمنكر الفرعي قبل الانتهاء من المعروف الأكبر والمنكر الأكبر، كما وقع أول مرة عند نشأة المجتمع المسلم!

والحافظون لحدود الله .. وهو القيام على حدود الله لتنفيذها في النفس وفي الناس. ومقاومة من يضيعها أو يعتدي عليها.. ولكن هذه كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا يقام عليها إلا في مجتمع مسلم. ولا مجتمع مسلم إلا المجتمع الذي تحكمه شريعة الله وحدها في أمره كله; وإلا الذي يفرد الله سبحانه بالألوهية والربوبية والحاكمية والتشريع; ويرفض حكم الطاغوت المتمثل في كل شرع لم يأذن به الله.. والجهد كله يجب أن ينفق ابتداء لإقامة هذا المجتمع. ومتى قام كان هناك مكان للحافظين لحدود الله فيه.. كما وقع كذلك أول مرة عند نشأة المجتمع المسلم!

هذه هي الجماعة المؤمنة التي عقد الله معها بيعته. وهذه هي صفاتها ومميزاتها: توبة ترد العبد إلى الله، وتكفه عن الذنب، وتدفعه إلى العمل الصالح. وعبادة تصله بالله وتجعل الله معبوده وغايته ووجهته. وحمد لله على السراء والضراء نتيجة الاستسلام الكامل لله والثقة المطلقة برحمته وعدله. وسياحة في ملكوت الله مع آيات الله الناطقة في الكون الدالة على الحكمة والحق في تصميم الخلق. وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر يتجاوز صلاح الذات إلى إصلاح العباد والحياة. وحفظ لحدود الله يرد عنها العادين والمضيعين، ويصونها من التهجم والانتهاك..

هذه هي الجماعة المؤمنة التي بايعها الله على الجنة، واشترى منها الأنفس والأموال، لتمضي مع سنة الله الجارية منذ كان دين الله ورسله ورسالاته. قتال في سبيل الله لإعلاء كلمة الله; وقتل لأعداء الله الذين يحادون الله أو استشهاد في المعركة التي لا تفتر بين الحق والباطل، وبين الإسلام والجاهلية، وبين الشريعة والطاغوت، وبين الهدى والضلال.

وليست الحياة لهوا ولعبا. وليست الحياة أكلا كما تأكل الأنعام ومتاعا. وليست الحياة سلامة ذليلة، وراحة بليدة ورضى بالسلم الرخيصة.. إنما الحياة هي هذه: كفاح في سبيل الحق، وجهاد في سبيل الخير، وانتصار لإعلاء كلمة الله، أو استشهاد كذلك في سبيل الله.. ثم الجنة والرضوان..

هذه هي الحياة التي يدعى إليها المؤمنون بالله: يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ... وصدق الله. وصدق رسول الله..

[ ص: 1721 ] والمؤمنون الذين اشترى الله منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، أمة وحدهم، العقيدة في الله بينهم هي وشيجة الارتباط والتجمع الوحيدة. وهذه السورة التي تقرر العلاقات الأخيرة بين الجماعة المسلمة ومن عداها، تحسم في شأن العلاقات التي لا تقوم على هذه الوشيجة. وبخاصة بعد ذلك التخلخل الذي أنشاه التوسع الأفقي الشديد في المجتمع المسلم عقب فتح مكة، ودخول أفواج كثيرة في الإسلام لم يتم انطباعها بطابعه وما تزال علاقات القربى عميقة الجذور في حياتها. والآيات التالية تقطع ما بين المؤمنين الذين باعوا تلك البيعة وبين من لم يدخلوا معهم فيها - ولو كانوا أولي قربى - بعدما اختلفت الوجهتان واختلفت العاقبتان في الدنيا والآخرة:

ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين - ولو كانوا أولي قربى - من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم. وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه، إن إبراهيم لأواه حليم. وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون، إن الله بكل شيء عليم. إن الله له ملك السماوات والأرض، يحيي ويميت، وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير .

والظاهر أن بعض المسلمين كانوا يستغفرون لآبائهم المشركين ويطلبون إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يستغفر لهم; فنزلت الآيات تقرر أن في هذا الاستغفار بقية من تعلق بقرابات الدم في غير صلة بالله، لذلك ما كان للنبي والذين آمنوا أن يفعلوه.. ما كان لهم قطعا وليس من شأنهم أصلا.. أما كيف يتبين لهم أنهم أصحاب الجحيم، فالأرجح أن يكون ذلك بموتهم على الشرك، وانقطاع الرجاء من أن تكون لهم هداية إلى الإيمان.

إن العقيدة هي العروة الكبرى التي تلتقي فيها سائر الأواصر البشرية والعلاقات الإنسانية. فإذا انبتت وشيجة العقيدة انبتت الأواصر الأخرى من جذورها، فلا لقاء بعد ذلك في نسب، ولا لقاء بعد ذلك في صهر. ولا لقاء بعد ذلك في قوم. ولا لقاء بعد ذلك في أرض.. إما إيمان بالله فالوشيجة الكبرى موصولة، والوشائج الأخرى كلها تنبع منها وتلتقي بها. أو لا إيمان فلا صلة إذن يمكن أن تقوم بين إنسان وإنسان:

وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه، إن إبراهيم لأواه حليم .

فلا أسوة بإبراهيم في استغفاره لأبيه. فإنما كان استغفار إبراهيم لأبيه بسبب وعده له أن يستغفر له الله لعله يهديه، ذلك إذ قال له: سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا، وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا .. فلما أن مات أبوه على الشرك، وتبين إبراهيم أن أباه عدو لله لا رجاء في هداه، " تبرأ منه " وقطع صلته به.

إن إبراهيم لأواه حليم ..

كثير التضرع لله، حليم على من آذاه. ولقد آذاه أبوه فكان حليما; وتبين أنه عدو لله فتبرأ منه وعاد لله ضارعا.

وقد ورد أنه لما نزلت الآيتان خشي الذين كانوا يستغفرون لآبائهم المشركين أن يكونوا قد ضلوا لمخالفتهم عن أمر الله في هذا فنزلت الآية التالية تطمئنهم من هذا الجانب، وتقرر القاعدة الإسلامية: أنه لا عقوبة بغير نص، ولا جريمة بغير بيان سابق على الفعل:

[ ص: 1722 ] وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون. إن الله بكل شيء عليم ..

إن الله لا يحاسب الناس إلا على ما بين لهم أن يتقوه ويحذروه ولا يأتوه. وليس من شأنه أن يذهب بهدى قوم بعد إذ هداهم ويكلهم إلى الضلال لمجرد الفعل، ما لم يكن هذا الفعل مما نهاهم عنه قبلا.. ذلك أن الإنسان قاصر والله هو العليم بكل شيء. ومنه البيان والتعليم.

ولقد جعل الله هذا الدين يسرا لا عسرا، فبين ما نهى عنه بيانا واضحا، كما بين ما أمر به بيانا واضحا.

وسكت عن أشياء لم يبين فيها بيانا - لا عن نسيان ولكن عن حكمة وتيسير - ونهى عن السؤال عما سكت عنه، لئلا ينتهي السؤال إلى التشديد. ومن ثم فليس لأحد أن يحرم شيئا من المسكوت عنه، ولا أن ينهى عما لم يبينه الله. تحقيقا لرحمة الله بالعباد..

وفي نهاية هذه الآيات، وفي جو الدعوة إلى التجرد من صلات الدم والنسب، بعد التجرد من الأنفس والأموال يقرر أن الولي الناصر هو الله وحده. وأنه مالك السماوات والأرض ومالك الموت والحياة.

إن الله له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت، وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير .

فالأموال والأنفس، والسماوات والأرض، والحياة والموت، والولاية والنصرة.. كلها بيد الله دون سواه. وفي الصلة بالله وحده كفاية وغناء.

وهذه التوكيدات المتوالية، وهذا الحسم القاطع في علاقات القرابة تدل على ما كان يعتور بعض النفوس من اضطراب وأرجحة بين الروابط السائدة في البيئة، ورابطة العقيدة الجديدة. مما اقتضى هذا الحسم الأخير، في السورة التي تتولى الحسم في كل علاقات المجتمع المسلم بما حوله.. حتى الاستغفار للموتى على الشرك قد لقي هذا التشديد في شأنه.. ذلك لتخلص القلوب من كل وشيجة إلا تلك الوشيجة.

إن التجمع على آصرة العقيدة وحدها هو قاعدة الحركة الإسلامية. فهو أصل من أصول الاعتقاد والتصور، كما أنه أصل من أصول الحركة والانطلاق.. وهذا ما قررته السورة الحاسمة وكررته أيضا..

التالي السابق


الخدمات العلمية