هذه هي العسرة التي تخلف فيها المتخلفون وكثرتهم من المنافقين الذين سلف بيان أمرهم. ومن المؤمنين الذين لم يقعدوا شكا ولا نفاقا، إنما قعدوا كسلا واسترواحا للظلال في المدينة. وهؤلاء جماعتان; جماعة قضي في أمرهم من قبل، وهم الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا، واعترفوا بذنوبهم، وجماعة أخرى: مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم وهم هؤلاء الثلاثة الذين خلفوا، أي: تركوا بلا حكم. وأرجئوا حتى يحكم الله فيهم. وهنا تفصيل أمرهم بعد الإرجاء في الحكم والإرجاء في السياق..
قال nindex.php?page=showalam&ids=331كعب: فو الله ما أنعم الله علي من نعمة قط بعد أن هداني الله للإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ ألا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوه. فإن الله قال للذين كذبوه حين أنزل الوحي شر ما قال لأحد، فقال سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس - إلى قوله - الفاسقين .
هذه هي قصة الثلاثة الذين خلفوا - كما رواها أحدهم nindex.php?page=showalam&ids=331كعب بن مالك - وفي كل فقرة منها عبرة، وفيها كلها صورة بارزة الخطوط عن القاعدة الصلبة للمجتمع الإسلامي، ومتانة بنائها، وصفاء عناصرها، ونصاعة تصورها لمعنى الجماعة، ولتكاليف الدعوة، ولقيمة الأوامر، ولضرورة الطاعة.
فهذا nindex.php?page=showalam&ids=331كعب بن مالك - وزميلاه - يتخلفون عن ركب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ساعة العسرة. يدركهم الضعف البشري الذي يحبب إليهم الظل والراحة، فيؤثرونهما على الحر والشدة والسفر الطويل والكد الناصب. ولكن كعبا ما يلبث بعد خروج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يحس ما فعل، يشعره به كل ما حوله: "فطفقت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحزنني أنني لا أرى لي أسوة إلا رجلا مغموصا عليه في النفاق، أو رجلا ممن عذر الله" - يعني بمن عذر الله الضعفاء والمرضى والذين لا يجدون ما ينفقون.
فالعسرة لم تقعد بالمسلمين عن تلبية دعوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الغزوة البعيدة الشقة. لم يقعد إلا المطعون فيهم المظنون بهم النفاق، وإلا العاجزون الذين عذرهم الله. أما القاعدة الصلبة للجماعة المسلمة فكانت أقوى روحا من العسرة، وأصلب عودا من الشدة..
فالله حاضر في ضمير المؤمن المخطئ. ومع حرصه البالغ على رضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 1731 ] وهذا الرضى يومئذ يعز ويذل ويرفع ويخفض ويترك المسلم مرموقا بالأنظار أو مهملا لا ينظر إليه إنسان - مع هذا فإن مراقبة الله أقوى وتقوى الله أعمق والرجاء في الله أوثق.
وكعب في لهفته - وقد تنكرت له الأرض فلم تعد الأرض التي كان يعرف - يتلمس حركة من بين شفتي الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويخالسه النظر لعله يعلم أن رسول الله قد ألقى إليه بنظرة يحيا على الأمل فيها، ويطمئن إلى أنه لم يقطع من تلك الشجرة، ولم يكتب له الذبول والجفاف! وبينما هو طريد شريد، لا يلقي إليه مخلوق من قومه بكلمة - ولو على سبيل الصدقة - يجيئه من قبل ملك غسان كتاب يمنيه بالعزة والكرامة والمجد والجاه.. ولكنه بحركة واحدة يعرض عن هذا كله، وما يزيد على أن يلقي بالكتاب إلى النار، ويعد هذا بقية من البلاء، ويصبر على الابتلاء.
وتمتد المقاطعة فتعزل عنه زوجه. لتدعه فريدا طريدا من الأنس كله، محلفا بين الأرض والسماء. فيخجل أن يراجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في امرأته، لأنه لا يدري كيف يكون الجواب.
هكذا كانت الأحداث تقدر وتقوم في هذه الجماعة. وهكذا كانت توبة مقبولة تستقبل وتعظم; كانت بشرى يركض بها الفارس إلى صاحبها، ويهتف بها راكب الجبل ليكون أسرع بشارة. وكانت التهنئة بها والاحتفاء بصاحبها جميلا لا ينساه الطريد الذي رد إلى الجماعة واتصلت بها وشائجه، فهو في يوم كما قال عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : nindex.php?page=hadith&LINKID=654066 "أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك" قالها - صلى الله عليه وسلم - وهو يبرق وجهه من السرور، كما قال nindex.php?page=showalam&ids=331كعب، فهذا القلب الكبير الكريم الرحيم قد فاض به السرور أن تقبل الله توبة ثلاثة من أصحابه وردهم مكرمين إلى جماعته.
تلك هي قصة الثلاثة الذين خلفوا ثم تاب الله عليهم، وهذه هي بعض لمحات من دلالتها الواضحة على حياة الجماعة الإسلامية، وعلى القيم التي كانت تعيش بها.
والقصة كما رواها أحد أصحابها، تقرب إلى نفوسنا معنى الآية:
فما الأرض؟ إن هي إلا بأهلها. إن هي إلا بالقيم السائدة فيها. إن هي إلا بالوشائج والعلاقات بين أصحابها.
فالتعبير صادق في مدلوله الواقعي فوق صدقه في جماله الفني، الذي يرسم هذه الأرض تضيق بالثلاثة المخلفين، وتتقاصر أطرافها، وتنكمش رقعتها، فهم منها في حرج وضيق.
وليس هناك ملجأ من الله لأحد، وهو آخذ بأقطار الأرض والسماوات. ولكن ذكر هذه الحقيقة هنا في هذا الجو المكروب يخلع على المشهد ظلا من الكربة واليأس والضيق، لا مخرج منه إلا بالالتجاء إلى الله مفرج الكروب..