نعود مرة أخرى إلى الحياة مع القرآن المكي، بجوه الخاص، وظلاله وإيقاعاته وإيحاءاته. بعد ما عشنا فترة في هذه الظلال مع سورتي الأنفال والتوبة من القرآن المدني.
والقرآن المكي، ولو أنه قرآن من القرآن، يشترك مع سائره في خصائصه القرآنية العامة; وفي تفرده من كل قول آخر لا يحمل الطابع الرباني الفريد العجيب، في الموضوع وفي الأداء سواء.. إلا أن له مع ذلك جوه الخاص، ومذاقه المعين، الذي يعينه موضوعه الأساسي (وهو في اختصار: حقيقة الألوهية، وحقيقة العبودية، وحقيقة العلاقات بينهما; وتعريف الناس بربهم الحق الذي ينبغي أن يدينوا له ويعبدوه، ويتبعوا أمره وشرعه; وتنحية كل ما دخل على العقيدة الفطرية الصحيحة من غبش ودخل وانحراف والتواء; ورد الناس إلى إلههم الحق الذي يستحق الدينونة لربوبيته).. كما يعينه أسلوب العرض لهذا الموضوع. وهو أسلوب موح، عميق الإيقاع، بالغ التأثير; حيث تشترك في أداء هذا الغرض كل خصائص التعبير من البناء اللفظي، إلى المؤثرات الموضوعية على النحو الذي فصلناه من قبل في سورة الأنعام ، والذي سلم به هنا إن شاء الله.
ولقد كان آخر عهدنا - في هذه الظلال - بالقرآن المكي سورة الأنعام وسورة الأعراف متواليتين في ترتيب المصحف - وإن لم تكونا متواليتين في ترتيب النزول - ثم جاءت الأنفال والتوبة بجوهما وطبيعتهما وموضوعاتهما المدنية الخاصة - فالآن إذ نعود إلى القرآن المكي نجد سورتي يونس وهود متواليتين في ترتيب المصحف وفي ترتيب النزول أيضا.. والعجيب أن هناك شبها كبيرا بين هاتين السورتين وتلكما في الموضوع، وفي طريقة عرض هذا الموضوع كذلك! فسورة الأنعام تتناول حقيقة العقيدة ذاتها، وتواجه الجاهلية بها، وتفند هذه الجاهلية عقيدة وشعورا، وعبادة وعملا. بينما سورة الأعراف تتناول حركة هذه العقيدة في الأرض وقصتها في مواجهة الجاهلية على مدار التاريخ. وكذلك نحن هنا مع سورتي يونس وهود.. في شبه كبير في الموضوع وفي طريقة العرض أيضا.. إلا أن سورة الأنعام تنفرد عن سورة يونس، بارتفاع وضخامة في الإيقاع، [ ص: 1746 ] وسرعة وقوة في النبض، ولألاء شديد في التصوير والحركة.. بينما تمضي سورة يونس، في إيقاع رخي، ونبض هادئ، وسلاسة وديعة!.. فأما هود فهي شديدة الشبه بالأعراف موضوعا وعرضا وإيقاعا ونبضا.. ثم تبقى لكل سورة شخصيتها الخاصة، وملامحها المميزة، بعد كل هذا التشابه والاختلاف!
والموضوع الرئيسي في سورة يونس هو ذات الموضوع العام للقرآن المكي الذي سبق بيانه في الفقرة السابقة.. والسورة تتناول محتوياته وفق طريقتها الخاصة، التي تحدد شخصيتها وملامحها.. ونحن لا نملك - في هذا التقديم - إلا تلخيص هذه المحتويات واحدا واحدا في إجمال، حتى يجيء بيانها المفصل في أثناء استعراض النصوص القرآنية:
إنها تواجه ابتداء موقف المشركين في مكة من حقيقة الوحي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن هذا القرآن ذاته بالتبعية; فتقرر لهم أن الوحي لا عجب فيه، وأن هذا القرآن ما كان ليفترى من دون الله:
ثم تواجه ما يترتب على اضطراب تصورهم للألوهية; وما يترتب على تكذيبهم بالبعث والآخرة، وما يترتب على تكذيبهم بالوحي والنذارة من انطلاقهم في واقع الحياة العملية يزاولون خصائص الربوبية في التشريع لحياتهم، والتحليل والتحريم في أرزاقهم ومعاملاتهم وفق ما تصوره لهم وثنيتهم واعتقادهم بالشركاء الذين يجعلون لهم نصيبا مما رزقهم الله يأخذه السدنة والكهنة ليحلوا لهم ما يشاءون ويحرموا عليهم ما يشاءون..
والسورة تحتشد - في إبلاغ تلك الحقائق التي تحتويها وتثبيتها وتعميقها واستجاشة القلوب والعقول لها - بشتى المؤثرات الموحية، التي يحفل بها الأداء القرآني الفريد في الموضوع وفي التعبير عنه سواء. وهي مؤثرات - على عمقها وحيويتها وحركتها - تناسب شخصية السورة وطبيعتها التي تحدثنا في الفقرة الأولى عنها.. وهذه نماذج منها، نلم بها هنا إجمالا، حتى نستعرضها في السياق تفصيلا: