والسورة تحتشد بمشاهد هذا الكون وظواهره، الموحية للفطرة البشرية بحقيقة الألوهية، الدالة على التدبير الحكيم، والقصد المرسوم في بناء هذا الكون وتصريفه، وفي الموافقات المبثوثة فيه لنشأة الحياة [ ص: 1749 ] والأحياء، ولحياة الكائن الإنساني وتلبية حاجاته في حياته.. وقضية الألوهية يعرضها القرآن في هذه الصورة الحية الواقعية الموحية، ولا يعرضها في أسلوب الجدل الفلسفي والمنطق الذهني، والله خالق هذا الكون وخالق هذا الإنسان يعلم - سبحانه - أن بين فطرة هذا الإنسان ومشاهد هذا الكون وأسراره لغة مفهومة! وتجاوبا أعمق من منطق الذهن البارد الجاف، وأن هذه الفطرة يكفي أن توجه إلى مشاهد هذا الكون وأسراره; وأن تستجاش لتستيقظ فيها أجهزة الاستقبال والتلقي; وأنها عندئذ تهتز وتتفتح وتتلقى وتستجيب.. ومن ثم يكثر خطاب الفطرة البشرية - في القرآن - بهذه اللغة المفهومة.. وهذه نماذج من هذا الخطاب العميق الموحي:
وتحتشد بمشاهد الأحداث والتجارب التي يشهدونها بأعينهم ويعيشونها بأنفسهم; ولكنهم يمرون بها غافلين عن دلالتها على التدبير والتقدير، والتصريف والتسيير.. ويعرض السياق القرآني لهم مشاهد من واقعهم هم في استقبال تلك الأحداث والتجارب، كما ترفع المرآة للغافل عن نفسه فيرى فيها كيف هو على حقيقته! وهذه نماذج من ذلك المنهج القرآني الفريد:
وتحتشد بمصارع الغابرين من المكذبين. آنا في صورة الخبر، وآنا في صورة قصص بعض الرسل. وتلتقي كلها عند عرض مشاهد التدمير على المكذبين; وتهديدهم بمثل هذا المصير الذي لقيه من قبلهم. فلا تغرنهم الحياة الدنيا، فإن هي إلا فترة قصيرة للابتلاء. أو ساعة من نهار يتعارف فيها الناس، ثم يعودون إلى دار الإقامة في العذاب أو في النعيم!
وتحتشد بمشاهد القيامة تعرض عاقبة المكذبين وعاقبة المؤمنين عرضا حيا متحركا مؤثرا عميق الإيقاع في القلوب. فتعرض مع مشاهد المصارع في الحياة الدنيا والتدمير على المجرمين ونجاة المؤمنين صفحتي الحياة في الدارين، وبدء المطاف ونهايته حيث لا مهرب ولا فوت:
ومن المؤثرات التي تحتشد بها السورة تحدي المشركين المكذبين بالوحي، أن يأتوا بآية من مثل هذا القرآن.. ثم توجيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعد دعوتهم وتحديهم، إلى تركهم ومصيرهم - وهو مصير المكذبين الظالمين من قبلهم - والمضي في طريقه المستقيم لا يحفلهم ولا يأبه لشأنهم.. والتحدي ثم المفاصلة والاستعلاء على هذا النحو مما يوقع في قلوبهم أن هذا النبي واثق من الحق الذي معه، واثق من ربه الذي يتولاه. وهذا بدوره يهز القلوب ويزلزل العناد:
وبهذه المفاصلة تختم السورة ويختم هذا الحشد من المؤثرات التي سقنا نماذج منها لا تستقصي ما في السورة من هذا المنهج القرآني الفريد في مخاطبة القلوب والعقول.