هذا هو منهج القرآن في مخاطبة الفطرة البشرية بآيات الله الكونية، المبثوثة حول الإنسان في هذا الكون; والتي يعلم الله سبحانه أن بينها وبين فطرة الكائن البشري لغة مفهومة، وإيحاءات مسموعة!
ولم يلجأ المنهج القرآني إلى الأسلوب الجدلي الذي جد فيما بعد عند المتكلمين والفلاسفة; لأن الله يعلم أن هذا الأسلوب لا يصل إلى القلوب ولا يتجاوز منطقة الذهن الباردة التي لا تدفع إلى حركة، ولا تؤدي إلى بناء حياة، وقصارى ما تنتهي إليه حركة في الذهن البارد تتلاشى في الهواء!
ولكن الأدلة التي يقدمها المنهج القرآني - بأسلوبه هذا - هي أقوى الأدلة المقنعة للقلب والعقل جميعا - وهذه ميزتها - فإن وجود هذا الكون ذاته أولا. ثم حركته المنتظمة المتسقة المضبوطة، وما يقع فيه من تحولات وتغيرات تضبطها قوانين واضحة الأثر - حتى قبل أن يعرفها البشر - ثانيا.. إن هذا كله لا يمكن تفسيره بغير تصور قوة مدبرة..
والذين يمارون في هذه الحقيقة لا يقدمون في مكانها دليلا معقولا. ولا يزيدون على أن يقولوا: إن الكون وجد هكذا بقوانينه; وأن وجوده لا يحتاج إلى تعليل، ووجوده يتضمن قوانينه! فإن كان هذا كلاما مفهوما - أو معقولا - فذاك!
ولقد كان هذا الكلام يقال للهروب من الله في أوربا; لأن الهروب من الكنيسة اقتضاهم هنالك الهروب من الله! ثم أصبح يقال هنا وهناك، لأنه الوسيلة إلى التخلص من مقتضى الاعتراف بألوهية الله. ذلك أن مشركي الجاهليات القديمة كان معظمهم يعترف بوجود الله. ثم يماري في ربوبيته، على نحو ما رأينا في الجاهلية العربية التي واجهها هذا القرآن أول مرة. فلقد كان البرهان القرآني يحاصرهم بمنطقهم هم وعقيدتهم في وجود الله سبحانه وصفاته. ويطالبهم بمقتضى هذا المنطق ذاته أن يجعلوا الله وحده ربهم فيدينوا له وحده بالاتباع والطاعة في الشعائر والشرائع.. فأما جاهلية القرن العشرين فتريد أن تخلص من ثقل هذا المنطق بالهروب من الألوهية ذاتها ابتداء!
[ ص: 1767 ] ومن العجيب أنه في البلاد التي تسمى "إسلامية" يروج بكل وسيلة ظاهرة أو خفية لهذا الهروب الفاضح باسم "العلم" و "العلمية"! فيقال: إن "الغيبية" لا مكان لها في الأنظمة "العلمية".. ومن الغيب كل ما يتعلق بالألوهية..! ومن هذا المنفذ الخلفي يحاول الآبقون من الله الهروب. لا يخشون الله إنما يخشون الناس، فيحتالون عليهم هذا الاحتيال!
وما تزال دلالة وجود الكون ذاته، ثم حركته المنتظمة المتسقة المضبوطة. تحاصر الهاربين من الله هنا وهناك. والفطرة البشرية بجملتها - قلبا وعقلا وحسا ووجدانا - تواجه هذه الدلالة، وتستجيب لها. وما يزال المنهج القرآني هذا يخاطب الفطرة بجملتها. يخاطبها من أقصر طريق، ومن أوسع طريق وأعمق طريق!!!
والذين يرون كل هذا، ثم لا يتوقعون لقاء الله ولا يدركون أن من مقتضيات هذا النظام المحكم أن تكون هناك آخرة، وأن الدنيا ليست النهاية، لأن البشرية لم تبلغ فيها كمالها المنشود; والذين يمرون بهذه الآيات كلها غافلين، لا تحرك فيهم قلبا يتدبر، ولا عقلا يتفكر.. هؤلاء لن يسلكوا طريق الكمال البشري، ولن يصلوا إلى الجنة التي وعد المتقون. إنما الجنة للذين آمنوا وعملوا الصالحات، حيث يفرغون من نصب الدنيا وصغارها إلى تسبيح الله وحمده في رضاء مقيم:
إن الذين لا يرجون لقاءنا، ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها، والذين هم عن آياتنا غافلون، أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم. دعواهم فيها سبحانك اللهم. وتحيتهم فيها سلام. وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ..
إن الذين لا يتدبرون النظام الكوني الموحي بأن لهذا الكون خالقا مدبرا، لا يدركون أن الآخرة ضرورة من ضرورات هذا النظام، يتم فيها تحقيق القسط والعدل، كما يتم فيها إبلاغ البشرية إلى آفاقها العليا. ومن ثم فهم لا يتوقعون لقاء الله، ونتيجة لهذا القصور يقفون عند الحياة الدنيا بما فيها من نقص وهبوط، ويرضونها ويستغرقون فيها، فلا ينكرون فيها نقصا، ولا يدركون أنها لا تصلح أن تكون نهاية للبشر; وهم يغادرونها لم يستوفوا كل جزائهم على ما عملوا من خير أو اجترحوا من شر، ولم يبلغوا الكمال الذي تهيئهم له بشريتهم. والوقوف عند حدود الدنيا وارتضاؤها يظل يهبط بأصحابه ثم يهبط، لأنهم لا يرفعون رؤوسهم إلى قمة، ولا يتطلعون بأبصارهم إلى أفق. إنما يخفضون رؤوسهم وأبصارهم دائما إلى هذه الأرض وما عليها! غافلين عن آيات الله الكونية التي توقظ القلب، وترفع الحس، وتحفز إلى التطلع والكمال..
أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون ..
وبئس المأوى وبئس المصير!
وفي الضفة الأخرى الذين آمنوا وعملوا الصالحات. الذين آمنوا فأدركوا أن هناك ما هو أعلى من هذه الحياة الدنيا، وعملوا الصالحات بمقتضى هذا الإيمان، تحقيقا لأمر الله بعمل الصالحات، وانتظارا للآخرة الطيبة.. وطريقها هو الصالحات.. هؤلاء.
يهديهم ربهم بإيمانهم ..
يهديهم إلى الصالحات بسبب هذا الإيمان الذي يصل ما بينهم وبين الله، ويفتح بصائرهم على استقامة
[ ص: 1768 ] الطريق، ويهديهم إلى الخير بوحي من حساسية الضمير وتقواه.. هؤلاء يدخلون الجنة.
تجري من تحتهم الأنهار ..
وما يزال الماء ولن يزال يوحي بالخصب والري والنماء والحياة..
فما همومهم في هذه الجنة وما هي شواغلهم، وما هي دعواهم التي يحبون تحقيقها؟ إن همومهم ليست مالا ولا جاها، وإن شواغلهم ليست دفع أذى ولا تحصيل مصلحة. لقد كفوا شر ذلك كله، ولقد اكتفوا فما لهم من حاجة من تلك الحاجات، ولقد استغنوا بما وهبهم الله، ولقد ارتفعوا عن مثل هذه الشواغل والهموم. إن أقصى ما يشغلهم حتى ليوصف بأنه "دعواهم" هو تسبيح الله أولا وحمده أخيرا، يتخلل هذا وذاك تحيات بينهم وبين أنفسهم وبينهم وبين ملائكة الرحمن:
دعواهم فيها: سبحانك اللهم. وتحيتهم فيها سلام. وآخر دعواهم: أن الحمد لله رب العالمين ..
إنه الانطلاق من هموم الحياة الدنيا وشواغلها; والارتفاع عن ضروراتها وحاجاتها، والرفرفة في آفاق الرضى والتسبيح والحمد والسلام. تلك الآفاق اللائقة بكمال الإنسان.
بعد ذلك يواجه السياق القرآني تحديهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وطلبهم تعجيل العذاب الذي يتوعدهم به; ببيان أن تأجيله إلى أجل مسمى هو حكمة من الله ورحمة. ويرسم لهم مشهدهم حين يصيبهم الضر فعلا، فتتعرى فطرتهم من الركام وتتجه إلى خالقها. فإذا ارتفع الضر عاد المسرفون إلى ما كانوا فيه من غفلة.
ويذكرهم مصارع الغابرين الذين استخلفوا هم من بعدهم; ويلوح لهم بمثل هذا المصير، ويبين لهم أن الحياة الدنيا إنما هي للابتلاء وبعدها الجزاء..
ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم، فنذر الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم يعمهون. وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما، فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه، كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون. ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا، وجاءتهم رسلهم بالبينات، وما كانوا ليؤمنوا، كذلك نجزي القوم المجرمين. ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم، لننظر كيف تعملون .
ولقد كان المشركون
العرب يتحدون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعجل لهم العذاب.. ومما حكاه الله تعالى عنهم في هذه السورة:
ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين . وورد في غيرها:
ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات كما حكى القرآن الكريم قولهم:
وإذ قالوا: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ..
وكل هذا يصور حالة العناد التي كانوا يواجهون بها هدى الله.. وقد شاءت حكمته أن يؤجلهم، فلا يوقع بهم عذاب الاستئصال والهلاك كما أوقعه بالمكذبين قبلهم. فقد علم الله أن كثرتهم ستدخل في هذا الدين، فيقوم عليها، وينطلق في الأرض بها. وكان ذلك بعد فتح مكة، مما كانوا يجهلونه وهم يتحدون في جهالة! غير عالمين بما يريده الله بهم من الخير الحقيقي. لا الخير الذي يستعجلونه استعجالهم بالشر!
والله سبحانه يقول لهم في الآية الأولى: إنه لو عجل لهم بالشر الذي يتحدون باستعجاله، استعجالهم بالخير الذي يطلبونه.. لو استجاب الله لهم في استعجالهم كله لقضى عليهم، وعجل بأجلهم! ولكنه يستبقيهم
[ ص: 1769 ] لما أجلهم له.. ثم يحذرهم من هذا الإمهال أن يغفلوا عما وراءه. فالذين لا يرجون لقاءه سيظلون في عمايتهم يتخبطون، حتى يأتيهم الأجل المرسوم.
وبمناسبة الحديث عن استعجال الشر يعرض صورة بشرية للإنسان عندما يمسه الضر، تكشف عن التناقض في طبيعة هذا الإنسان الذي يستعجل الشر وهو يشفق من مس الضر، فإذا كشف عنه عاد إلى ما كان فيه:
وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه. كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون ..
إنها صورة مبدعة لنموذج بشري مكرور.. وإن الإنسان ليظل مدفوعا مع تيار الحياة، يخطئ ويذنب ويطغى ويسرف، والصحة موفورة، والظروف مواتية. وليس - إلا من عصم الله ورحم - من يتذكر في إبان قوته وقدرته أن هناك ضعفا وأن هناك عجزا. وساعات الرخاء تنسي، والإحساس بالغنى يطغي.. ثم يمسه الضر فإذا هو جزوع هلوع، وإذا هو كثير الدعاء، عريض الرجاء، ضيق بالشدة مستعجل للرخاء. فإذا استجيب الدعاء وكشف الضر انطلق لا يعقب ولا يفكر ولا يتدبر. انطلق إلى ما كان فيه من قبل من اندفاع واستهتار.
والسياق ينسق خطوات التعبير وإيقاعه مع الحالة النفسية التي يصورها، والنموذج البشري الذي يعرضه.
فيصور منظر الضر في بطء وتلبث وتطويل:
دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما ..
يعرض كل حالة وكل وضع وكل منظر، ليصور وقفة هذا الإنسان وقد توقف التيار الدافع في جسمه أو في ماله أو في قوته كما يتوقف التيار أمام السد، فيقف أو يرتد. حتى إذا رفع الحاجز "مر" كلمة واحدة تصور الاندفاع والمروق والانطلاق. "مر" لا يتوقف.
ليشكر، ولا يلتفت ليتدبر، ولا يتأمل ليعتبر:
مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه ..
واندفع مع تيار الحياة دون كابح ولا زاجر ولا مبالاة!
وبمثل هذه الطبيعة. طبيعة التذكر فقط عند الضر، حتى إذا ارتفع انطلق ومر. بمثل هذه الطبيعة استمر المسرفون في إسرافهم، لا يحسون ما فيه من تجاوز للحدود:
كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون ..
فماذا كانت نهاية الإسراف في القرون الأولى؟
ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا، وجاءتهم رسلهم بالبينات، وما كانوا ليؤمنوا كذلك نجزي القوم المجرمين ..
لقد انتهى بهم الإسراف وتجاوز الحد والظلم - وهو الشرك - إلى الهلاك. وهذه مصارعهم كانوا يرون بقيتها في
الجزيرة العربية في مساكن
عاد وثمود وقرى قوم
لوط..
وتلك القرون. جاءتهم رسلهم بالبينات كما جاءكم رسولكم:
وما كانوا ليؤمنوا ..
[ ص: 1770 ] لأنهم لم يسلكوا طريق الإيمان، وسلكوا طريق الطغيان فأبعدوا فيها، فلم يعودوا مهيئين للإيمان. فلقوا جزاء المجرمين..
كذلك نجزي القوم المجرمين ..
وإذ يعرض عليهم نهاية المجرمين، الذين جاءتهم رسلهم بالبينات فلم يؤمنوا، فحق عليهم العذاب، يذكرهم أنهم مستخلفون في مكان هؤلاء الغابرين، وأنهم مبتلون بهذا الاستخلاف ممتحنون فيما استخلفوا فيه:
ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون ..
وهي لمسة قوية للقلب البشري; إذ يدرك أنه مستخلف في ملك أديل من مالكيه الأوائل، وأجلى عنه أهله الذين سبق لهم أن مكنوا فيه، وأنه هو بدوره زائل عن هذا الملك، وإنما هي أيام يقضيها فيه، ممتحنا بما يكون منه، مبتلى بهذا الملك، محاسبا على ما يكسب بعد بقاء فيه قليل!
إن هذا التصور الذي ينشئه الإسلام في القلب البشري.. فوق أنه يريه الحقيقة فلا تخدعه عنها الخدع.. يظل يثير فيه يقظة وحساسية وتقوى، هي صمام الأمن له، وصمام الأمن للمجتمع الذي يعيش فيه.
إن شعور الإنسان بأنه مبتلى وممتحن بأيامه التي يقضيها على الأرض، وبكل شيء يملكه، وبكل متاع يتاح له، يمنحه مناعة ضد الاغترار والانخداع والغفلة; ويعطيه وقاية من الاستغراق في متاع الحياة الدنيا، ومن التكالب على هذا المتاع الذي هو مسؤول عنه وممتحن فيه.
وإن شعوره بالرقابة التي تحيط به، والتي يصورها قول الله سبحانه:
لننظر كيف تعملون ..
ليجعله شديد التوقي، شديد الحذر، شديد الرغبة في الإحسان، وفي النجاة أيضا من هذا الامتحان! وهذا مفرق الطريق بين التصور الذي ينشئه الإسلام في القلب البشري بمثل هذه اللمسات القوية، والتصورات التي تخرج الرقابة الإلهية والحساب الأخروي من حسابها!.. فإنه لا يمكن أن يلتقي اثنان أحدهما يعيش بالتصور الإسلامي والآخر يعيش بتلك التصورات القاصرة.. لا يمكن أن يلتقيا في تصور للحياة، ولا في خلق، ولا في حركة، كما لا يمكن أن يلتقي نظامان إنسانيان يقوم كل منهما على قاعدة من هاتين القاعدتين اللتين لا تلتقيان!
والحياة في الإسلام حياة متكاملة القواعد والأركان. ويكفي أن نذكر فقط مثل هذه الحقيقة الأساسية في التصور الإسلامي; وما ينشأ عنها من آثار في حركة الفرد والجماعة. وهي من ثم لا يمكن خلطها بحياة تقوم على غير هذه الحقيقة، ولا بمنتجات هذه الحياة أيضا!
والذين يتصورون أنه من الممكن تطعيم الحياة الإسلامية، والنظام الإسلامي، بمنتجات حياة أخرى ونظام آخر، لا يدركون طبيعة الفوارق الجذرية العميقة بين الأسس التي تقوم عليها الحياة في الإسلام والتي تقوم عليها الحياة في كل نظام بشري من صنع الإنسان!