ومن جولة الحشر الذي تسقط فيه الدعاوى والأباطيل، ويتجلى فيه أن المولى هو الله المهيمن على الموقف وما فيه إلى جولة في واقعهم الذي يعيشون فيه، وإلى أنفسهم التي يعلمونها، وإلى المشاهد التي يرونها في الحياة. بل إلى اعترافهم هم أنفسهم بأنها من أمر الله ومن خلق الله:
قل: من يرزقكم من السماء والأرض؟ أمن يملك السمع والأبصار؟ ومن يخرج الحي من الميت [ ص: 1781 ] ويخرج الميت من الحي؟ ومن يدبر الأمر؟ فسيقولون: الله. فقل: أفلا تتقون؟ فذلكم الله ربكم الحق، فماذا بعد الحق إلا الضلال؟ فأنى تصرفون؟ ..
ولقد مر أن مشركي
العرب لم يكونوا ينكرون وجود الله، ولا أنه الخالق، والرازق، والمدبر. إنما كانوا يتخذون الشركاء للزلفى، أو يعتقدون أن لهم قدرة إلى جانب قدرة الله. فهو هنا يأخذهم بما يعتقدونه هم أنفسهم، ليصحح لهم - عن طريق إيقاظ وعيهم وتدبرهم ومنطقهم الفطري - ذلك الخلط والضلال.
قل: من يرزقكم من السماء والأرض؟ ..
من المطر الذي يحيي الأرض وينبت الزرع، ومن طعام الأرض نباتها وطيرها وأسماكها وحيوانها، ثم سائر ما كانوا يحصلون عليه من الأرض لهم ولأنعامهم. وذلك بطبيعة الحال ما كانوا يدركونه حينذاك من رزق السماء والأرض. وهو أوسع من ذلك بكثير. وما يزال البشر يكشفون كلما اهتدوا إلى نواميس الكون عن رزق بعد رزق في السماء والأرض، يستخدمونه أحيانا في الخير ويستخدمونه أحيانا في الشر حسبما تسلم عقائدهم أو تعتل. وكله من رزق الله المسخر للإنسان. فمن سطح الأرض أرزاق ومن جوفها أرزاق. ومن سطح الماء أرزاق ومن أعماقه أرزاق. ومن أشعة الشمس أرزاق ومن ضوء القمر أرزاق. حتى عفن الأرض كشف فيه عن دواء وترياق!
أمن يملك السمع والأبصار؟ ..
يهبها القدرة على أداء وظائفها أو يحرمها، ويصححها أو يمرضها، ويصرفها إلى العمل أو يلهيها، ويسمعها ويريها ما تحب أو ما تكره.. ذلك ما كانوا يدركونه يومئذ من ملك السمع والأبصار. وهو حسبهم لإدراك مدلول هذا السؤال وتوجيهه. وما يزال البشر يكشفون من طبيعة السمع والبصر، ومن دقائق صنع الله في هذين الجهازين ما يزيد السؤال شمولا وسعة. وإن تركيب العين وأعصابها وكيفية إدراكها للمرئيات، أو تركيب الأذن وأجزائها وطريقة إدراكها للذبذبات، لعالم وحده يدير الرؤوس، عندما يقاس هذا الجهاز أو ذاك إلى أدق الأجهزة التي يعدها الناس من معجزات العلم في العصر الحديث! وإن كان الناس يهولهم ويروعهم ويبهرهم جهاز يصنعه الإنسان، لا يقاس في شيء إلى صنع الله. بينما هم يمرون غافلين بالبدائع الإلهية في الكون وفي أنفسهم كأنهم لا يبصرون ولا يدركون!
ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي؟ ..
وكانوا يعدون الساكن هو الميت، والنامي أو المتحرك هو الحي. فكان مدلول السؤال عندهم مشهودا في خروج النبتة من الحبة، والحبة من النبتة، وخروج الفرخ من البيضة، والبيضة من الفرخ.. إلى آخر هذه المشاهدات. وهو عندهم عجيب. وهو في ذاته عجيب حتى بعد أن عرف أن الحبة والبيضة وأمثالهما ليست في الموتى بل في الأحياء بما فيها من حياة كامنة واستعداد. فإن كمون الحياة بكل استعداداتها ووراثاتها وسماتها وشياتها لأعجب العجب الذي تصنعه قدرة الله..
وإن وقفة أمام الحبة والنواة، تخرج منهما النبتة والنخلة، أو أمام البيضة والبويضة يخرج منهما الفرخ والإنسان، لكافية لاستغراق حياة في التأمل والارتعاش!
وإلا فأين كانت تكمن السنبلة في الحبة؟ وأين كان يكمن العود؟ وأين كانت تلك الجذور والساق والأوراق؟..
وأين في النواة كان يكمن اللب واللحاء، والساق السامقة والعراجين والألياف؟ وأين يكمن كان الطعم والنكهة واللون والرائحة، والبلح والتمر، والرطب والبسر... ؟
[ ص: 1782 ] وأين في البيضة كان الفرخ؟ وأين يكمن كان العظم واللحم، والزغب والريش، واللون والشيات، والرفرفة والصوات... ؟
وأين في البويضة كان الكائن البشري العجيب؟ أين كانت تكمن ملامحه وسماته المنقولة عن وراثات موغلة في الماضي متشعبة المنابع والنواحي؟ أين كانت نبرات الصوت، ونظرات العين، ولفتات الجيد، واستعدادات الأعصاب، ووراثات الجنس والعائلة والوالدين؟ وأين أين كانت تكمن الصفات والسمات والشيات؟
وهل يكفي أن نقول: إن هذا العالم المترامي الأطراف كان كامنا في النبتة والنواة وفي البيضة والبويضة، لينقضي العجب العاجب الذي لا تفسير له ولا تأويل إلا قدرة الله وتدبير الله؟
وما يزال البشر يكشفون من أسرار الموت وأسرار الحياة، وإخراج الحي من الميت وإخراج الميت من الحي، وتحول العناصر في مراحل إلى موت أو حياة، ما يزيد مساحة السؤال وعمقه وشموله كل يوم وكل لحظة. وإن تحول الطعام الذي يموت بالطهي والنار إلى دم حي في الجسم الحي، وتحول هذا الدم إلى فضلات ميتة بالاحتراق، لأعجوبة يتسع العجب منها كلما زاد العلم بها. وهي بعد كائنة في كل لحظة آناء الليل وأطراف النهار. وإن الحياة لأعجوبة غامضة مثيرة تواجه الكينونة البشرية كلها بعلامات استفهام لا جواب عليها كلها إلا أن يكون هناك إله، يهب الحياة!
ومن يدبر الأمر؟ ..
في هذا الذي ذكر كله وفي سواه من شؤون الكون وشؤون البشر؟ من يدبر الناموس الكوني الذي ينظم حركة هذه الأفلاك على هذا النحو الدقيق؟ ومن يدبر حركة هذه الحياة فتمضي في طريقها المرسوم بهذا النظام اللطيف العميق؟ ومن يدبر السنن الاجتماعية التي تصرف حياة البشر، والتي لا تخطئ مرة ولا تحيد؟ ومن ومن؟
فسيقولون الله ..
فهم لم يكونوا ينكرون وجود الله، أو ينكرون يده في هذه الشؤون الكبار. ولكن انحراف الفطرة كان يقودهم مع هذا الاعتراف إلى الشرك بالله، فيتوجهون بالشعائر إلى سواه، كما يتبعون شرائع لم يأذن بها الله.
فقل: أفلا تتقون؟ ..
أفلا تخشون الله الذي يرزقكم من السماء والأرض، والذي يملك السمع والأبصار، والذي يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي، والذي يدبر الأمر كله في هذا وفي سواه؟ إن الذي يملك هذا كله لهو الله، وهو الرب الحق دون سواه:
فذلكم الله ربكم الحق ..
والحق واحد لا يتعدد، ومن تجاوزه فقد وقع على الباطل، وقد ضل التقدير:
فماذا بعد الحق إلا الضلال؟ فأنى تصرفون ..
وكيف توجهون بعيدا عن الحق وهو واضح بين تراه العيون؟
بمثل هذا الانصراف عن الحق الواضح الذي يعترف المشركون بمقدماته وينكرون نتائجه اللازمة، ولا يقومون بمقتضياته الواجبة، قدر الله في سننه ونواميسه أن الذين يفسقون وينحرفون عن منطق الفطرة السليم وسنة الخلق الماضية لا يؤمنون:
[ ص: 1783 ] كذلك حقت كلمت ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون ..
لا لأنه يمنعهم من الإيمان. فهذه دلائله قائمة في الكون، وهذه مقدماته قائمة في اعتقادهم. ولكن لأنهم هم يحيدون عن الطريق الموصل إلى الإيمان، ويجحدون المقدمات التي في أيديهم، ويصرفون أنفسهم عن الدلائل المشهودة لهم، ويعطلون منطق الفطرة القويم فيهم.
ثم عودة إلى مظاهر قدرة الله، وهل للشركاء فيها من نصيب.
قل: هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده؟ قل: الله يبدأ الخلق ثم يعيده. فأنى تؤفكون؟ قل: هل من شركائكم من يهدي إلى الحق؟ قل: الله يهدي للحق أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى؟ فما لكم؟ كيف تحكمون؟ ...
وهذه الأمور المسؤول عنها - من إعادة الخلق وهدايتهم إلى الحق - ليست من بدائه مشاهداتهم ولا من مسلمات اعتقاداتهم كالأولى. ولكنه يوجه إليهم فيها السؤال ارتكانا على مسلماتهم الأولى، فهي من مقتضياتها بشيء من التفكر والتدبر. ثم لا يطلب إليهم الجواب، إنما يقرره لهم اعتمادا على وضوح النتائج بعد تسليمهم بالمقدمات.
قل: هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده؟ ..
وهم مسلمون بأن الله هو الذي يبدأ الخلق غير مسلمين بإعادته، ولا بالبعث والنشور والحساب والجزاء.. ولكن حكمة الخالق المدبر لا تكمل بمجرد بدء الخلق، ثم انتهاء حياة المخلوقين في هذه الأرض، ولم يبلغوا الكمال المقدر لهم، ولم يلقوا جزاء إحسانهم وإساءتهم، وسيرهم على النهج أو انحرافهم عنه. إنها رحلة ناقصة لا تليق بخالق مدبر حكيم. وإن الحياة الآخرة لضرورة من ضرورات الاعتقاد في حكمة الخالق وتدبيره وعدله ورحمته. ولا بد من تقرير هذه الحقيقة لهم وهم الذين يعتقدون بأن الله هو الخالق، وهم الذين يسلمون كذلك بأنه يخرج الحي من الميت. والحياة الأخرى قريبة الشبه بإخراج الحي من الميت الذي يسلمون به:
قل: الله يبدأ الخلق ثم يعيده ..
وإنه لعجيب أن يصرفوا عن إدراك هذه الحقيقة ولديهم مقدماتها:
فأنى تؤفكون ..
فتوجهون بعيدا عن الحق إلى الإفك وتضلون؟
قل: هل من شركائكم من يهدي إلى الحق؟ ..
فينزل كتابا، ويرسل رسولا، ويضع نظاما، ويشرع شريعة، وينذر ويوجه إلى الخير; ويكشف عن آيات الله في الكون والنفس; ويوقظ القلوب الغافلة، ويحرك المدارك المعطلة. كما هو معهود لكم من الله ومن رسوله الذي جاءكم بهذا كله وعرضه عليكم لتهتدوا إلى الحق؟ وهذه قضية ليست من سابق مسلماتهم، ولكن وقائعها حاضرة بين أيديهم. فليقررها لهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - وليأخذهم بها:
قل: الله يهدي للحق ..
ومن هذه تنشأ قضية جديدة، جوابها مقرر:
أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع؟ أمن لا يهدي إلا أن يهدى؟ ..
والجواب مقرر. فالذي يهدي الناس إلى الحق أولى بالاتباع، ممن لا يهتدي هو بنفسه إلا أن يهديه غيره..
[ ص: 1784 ] وهذا ينطبق سواء كان المعبودون حجارة أو أشجارا أو كواكب. أو كانوا من البشر - بما في ذلك
عيسى عليه السلام، فهو ببشريته محتاج إلى هداية الله له، وإن كان هو قد بعث هاديا للناس - ومن عدا
عيسى عليه السلام أولى بانطباق هذه الحقيقة عليه:
فما لكم؟ كيف تحكمون؟ ..
ما الذي وقع لكم وما الذي أصابكم؟ وكيف تقدرون الأمور، فتحيدون عن الحق الواضح المبين؟
فإذا فرغ من سؤالهم وإجابتهم، وتقرير الإجابة المفروضة التي تحتمها البديهة وتحتمها المقدمات المسلمة.. عقب على هذا بتقرير واقعهم في النظر والاستدلال والحكم والاعتقاد. فهم لا يستندون إلى يقين فيما يعتقدون أو يعبدون أو يحكمون، ولا إلى حقائق مدروسة يطمئن إليها العقل والفطرة، إنما يتعلقون بأوهام وظنون، يعيشون عليها ويعيشون بها وهي لا تغني من الحق شيئا.
وما يتبع أكثرهم إلا ظنا. إن الظن لا يغني من الحق شيئا. إن الله عليم بما يفعلون.. .
فهم يظنون أن لله شركاء. ولا يحققون هذا الظن ولا يمتحنونه عملا ولا عقلا. وهم يظنون أن آباءهم ما كانوا ليعبدوا هذه الأصنام لو لم يكن فيها ما يستحق العبادة: ولا يمتحنون هم هذه الخرافة، ولا يطلقون عقولهم من إسار التقليد الظني. وهم يظنون أن الله لا يوحي إلى رجل منهم، ولا يحققون لماذا يمتنع هذا على الله. وهم يظنون أن القرآن من عمل محمد ولا يحققون إن كان محمد - وهو بشر - قادرا على تأليف هذا القرآن، بينما هم لا يقدرون وهم بشر مثله.. وهكذا يعيشون في مجموعة من الظنون لا تحقق لهم من الحق شيئا. والله وحده هو الذي يعلم علم اليقين أفعالهم وأعمالهم..
إن الله عليم بما يفعلون ..