وتفريعا على هذا التعقيب، يأخذ بهم السياق في جولة جديدة حول القرآن تبدأ بنفي التصور لإمكان أن يكون القرآن مفترى من دون الله، وتحديهم أن يأتوا بسورة مثله. وتثني بوصمهم بالتسرع في الحكم على ما لم يعلموه يقينا أو يحققوه. وتثلث بإثبات حالتهم في مواجهة هذا القرآن، وتثبيت الرسول - صلى الله عليه وسلم - على خطته أيا كانت استجابتهم أو عدم استجابتهم له، وتنتهي بالتيئيس من الفريق الضال والإيماء إلى مصيرهم الذي لا يظلمهم الله فيه وإنما يستحقونه بما هم فيه من ضلال:
وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه، وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين أم يقولون: افتراه؟ قل: فأتوا بسورة مثله، وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين. بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله. كذلك كذب الذين من قبلهم، فانظر كيف كان عاقبة الظالمين. ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به، وربك أعلم بالمفسدين. وإن كذبوك فقل: لي عملي ولكم عملكم، أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون. ومنهم من يستمعون إليك، أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون؟ ومنهم من ينظر إليك، أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون؟ إن الله لا يظلم الناس شيئا. ولكن الناس أنفسهم يظلمون ..
وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ..
فهو بخصائصه الموضوعية والتعبيرية بهذا الكمال في تناسقه وبهذا الكمال في العقيدة التي جاء بها،
[ ص: 1785 ] وفي النظام الإنساني الذي يتضمن قواعده; وبهذا الكمال في تصوير حقيقة الألوهية، وفي تصوير طبيعة البشر، وطبيعة الحياة، وطبيعة الكون.. لا يمكن أن يكون مفترى من دون الله، لأن قدرة واحدة هي التي تملك الإتيان به هي قدرة الله. القدرة التي تحيط بالأوائل والأواخر، وبالظواهر والسرائر، وتضع المنهج المبرأ من القصور والنقص ومن آثار الجهل والعجز..
وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ..
ما كان من شأنه أصلا أن يفترى. فليس الافتراء هو المنفي، ولكن جواز وجوده هو المنفي. وهو أبلغ في النفي وأبعد.
ولكن تصديق الذي بين يديه ..
من الكتب التي سبق بها الرسل. تصديقها في أصل العقيدة، وفي الدعوة إلى الخير.
وتفصيل الكتاب .. الواحد الذي جاء به الرسل جميعا من عند الله، تتفق أصوله وتختلف تفصيلاته.. وهذا القرآن يفصل كتاب الله ويبين وسائل الخير الذي جاء به، ووسائل تحقيقه وصيانته; فالعقيدة في الله واحدة، والدعوة إلى الخير واحدة. ولكن صورة هذا الخير فيها تفصيل، والتشريع الذي يحققه فيه تفصيل، يناسب نمو البشرية وقتها، وتطورات البشرية بعدها، بعد أن بلغت سن الرشد فخوطبت بالقرآن خطاب الراشدين، ولم تخاطب بالخوارق المادية التي لا سبيل فيها للعقل والتفكير.
لا ريب فيه، من رب العالمين ..
تقرير وتوكيد لنفي جواز افترائه عن طريق إثبات مصدره:
من رب العالمين ..
أم يقولون افتراه؟ .
بعد هذا النفي والتقرير، فهو إذن من صنع
محمد. ومحمد بشر ينطق باللغة التي ينطقون بها، ولا يملك من حروفها إلا ما يملكون. (ألف. لام. ميم).. (ألف. لام. را.).. (ألف. لام. ميم. صاد)...
إلخ. فدونهم إذن - ومعهم من يستطيعون جمعهم - فليفتروا، كما افترى (بزعمهم)
محمد. فليفتروا سورة واحدة لا قرآنا كاملا:
قل: فأتوا بسورة مثله، وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين .
وقد ثبت هذا التحدي; وثبت العجز عنه. وما يزال ثابتا ولن يزال. والذين يدركون بلاغة هذه اللغة، ويتذوقون الجمال الفني والتناسق فيها، يدركون أن هذا النسق من القول لا يستطيعه إنسان. وكذلك الذين يدرسون النظم الاجتماعية، والأصول التشريعية، ويدرسون النظام الذي جاء به هذا القرآن، يدركون أن النظرة فيه إلى تنظيم الجماعة الإنسانية ومقتضيات حياتها من جميع جوانبها، والفرص المدخرة فيه لمواجهة الأطوار والتقلبات في يسر ومرونة.. كل أولئك أكبر من أن يحيط به عقل بشري واحد، أو مجموعة العقول في جيل واحد أو في جميع الأجيال. ومثلهم الذين يدرسون النفس الإنسانية ووسائل الأصول إلى التأثير فيها وتوجيهها ثم يدرسون وسائل القرآن وأساليبه..
فليس هو إعجاز اللفظ والتعبير وأسلوب الأداء وحده، ولكنه الإعجاز المطلق الذي يلمسه الخبراء في هذا وفي النظم والتشريعات والنفسيات وما إليها..
والذين زاولوا فن التعبير، والذين لهم بصر بالأداء الفني، يدركون أكثر من غيرهم مدى ما في الأداء
[ ص: 1786 ] القرآني من إعجاز في هذا الجانب. والذين زاولوا التفكير الاجتماعي والقانوني والنفسي، والإنساني بصفة عامة، يدركون أكثر من غيرهم مدى الإعجاز الموضوعي في هذا الكتاب أيضا.
ومع تقدير العجز سلفا عن بيان حقيقة هذا الإعجاز ومداه; والعجز عن تصويره بالأسلوب البشري. ومع تقدير أن الحديث المفصل عن هذا الإعجاز - في حدود الطاقة البشرية - هو موضوع كتاب مستقل. فسأحاول هنا أن ألم إلمامة خاطفة بشيء من هذا..
إن الأداء القرآني يمتاز ويتميز من الأداء البشري.. إن له سلطانا عجيبا على القلوب ليس للأداء البشري; حتى ليبلغ أحيانا أن يؤثر بتلاوته المجردة على الذين لا يعرفون من العربية حرفا.. وهناك حوادث عجيبة لا يمكن تفسيرها بغير هذا الذي نقول - وإن لم تكن هي القاعدة - ولكن وقوعها يحتاج إلى تفسير وتعليل.. ولن أذكر نماذج مما وقع لغيري ولكني أذكر حادثا وقع لي وكان عليه معي شهود ستة، وذلك منذ حوالي خمسة عشر عاما.. كنا ستة نفر من المنتسبين إلى الإسلام على ظهر سفينة مصرية تمخر بنا عباب
المحيط الأطلسي إلى
نيويورك; من بين عشرين ومائة راكب وراكبة أجانب ليس فيهم مسلم.. وخطر لنا أن نقيم صلاة الجمعة في المحيط على ظهر السفينة! والله يعلم - أنه لم يكن بنا أن نقيم الصلاة ذاتها أكثر مما كان بنا حماسة دينية إزاء مبشر كان يزاول عمله على ظهر السفينة; وحاول أن يزاول تبشيره معنا!.. وقد يسر لنا قائد السفينة - وكان إنجليزيا - أن نقيم صلاتنا; وسمح لبحارة السفينة وطهاتها وخدمها - وكلهم نوبيون مسلمون - أن يصلي منهم معنا من لا يكون في "الخدمة" وقت الصلاة! وقد فرحوا بهذا فرحا شديدا، إذ كانت المرة الأولى التي تقام فيها صلاة الجمعة على ظهر السفينة.. وقمت بخطبة الجمعة وإمامة الصلاة; والركاب الأجانب - معظمهم - متحلقون يرقبون صلاتنا!.. وبعد الصلاة جاءنا كثيرون منهم يهنئوننا على نجاح "القداس" !!! فقد كان هذا أقصى ما يفهمونه من صلاتنا! ولكن سيدة من هذا الحشد - عرفنا فيما بعد أنها يوغسلافية مسيحية هاربة من جحيم
"تيتو" وشيوعيته! - كانت شديدة التأثر والانفعال، تفيض عيناها بالدمع ولا تتمالك مشاعرها. جاءت تشد على أيدينا بحرارة وتقول: - في إنجليزية ضعيفة - إنها لا تملك نفسها من التأثر العميق بصلاتنا هذه وما فيها من خشوع ونظام وروح!.. وليس هذا موضع الشاهد في القصة.. ولكن ذلك كان في قولها: أي: لغة هذه التي كان يتحدث بها "قسيسكم"! فالمسكينة لا تتصور أن يقيم "الصلاة" إلا قسيس - أو رجل دين - كما هو الحال عندها في مسيحية الكنيسة! وقد صححنا لها هذا الفهم!.. وأجبناها: فقالت: إن اللغة التي يتحدث بها ذات إيقاع موسيقي عجيب، وإن كنت لم أفهم منها حرفا.. ثم كانت المفاجأة الحقيقية لنا وهي تقول: ولكن هذا ليس الموضوع الذي أريد أن أسأل عنه.. إن الموضوع الذي لفت حسي، هو أن "الإمام" كانت ترد في أثناء كلامه - بهذه اللغة الموسيقية - فقرات من نوع آخر غير بقية كلامه! نوع أكثر موسيقية وأعمق إيقاعا.. هذه الفقرات الخاصة كانت تحدث في رعشة وقشعريرة! إنها شيء آخر! كما لو كان - الإمام - مملوءا من الروح القدس! - حسب تعبيرها المستمد من مسيحيتها! - وتفكرنا قليلا. ثم أدركنا أنها تعني الآيات القرآنية التي وردت في أثناء خطبة الجمعة وفي أثناء الصلاة! وكانت - مع ذلك - مفاجأة لنا تدعو إلى الدهشة من سيدة لا تفهم مما نقول شيئا! وليست هذه قاعدة كما قلت. ولكن وقوع هذه الحادثة - ووقوع أمثالها مما ذكره لي غير واحد - ذو دلالة على أن في هذا القرآن سرا آخر تلتقطه بعض القلوب لمجرد تلاوته. وقد يكون إيمان هذه السيدة بدينها، وفرارها من الجحيم الشيوعي في بلادها، قد أرهف حسها بكلمات الله على هذا النحو العجيب.. ولكن
[ ص: 1787 ] ما بالنا نعجب وعشرات الألوف ممن يستمعون إلى القرآن من عوامنا لا يطرق عقولهم منه شيء، ولكن يطرق قلوبهم إيقاعه - وسره هذا - وهم لا يفترقون كثيرا من ناحية فهم لغة القرآن عن هذه السيدة اليوغسلافية!!!
ولقد أردت أن أقدم للحديث عن القرآن بسلطانه هذا الخفي العجيب قبل أن أتحدث عن الجوانب المدركة التي يعرفها أكثر من غيرهم من يزاولون فن التعبير. ومن يزاولون التفكير والشعور!
إن الأداء القرآني يمتاز بالتعبير عن قضايا ومدلولات ضخمة في حيز يستحيل على البشر أن يعبروا فيه عن مثل هذه الأغراض، وذلك بأوسع مدلول، وأدق تعبير، وأجمله وأحياه أيضا! مع التناسق العجيب بين المدلول والعبارة والإيقاع والظلال والجو. ومع جمال التعبير دقة الدلالة في آن واحد، بحيث لا يغني لفظ عن لفظ في موضعه، وبحيث لا يجوز الجمال على الدقة ولا الدقة على الجمال. ويبلغ من ذلك كله مستوى لا يدرك إعجازه أحد، كما يدرك ذلك من يزاولون فن التعبير فعلا; لأن هؤلاء هم الذين يدركون حدود الطاقة البشرية في هذا المجال. ومن ثم يتبينون بوضوح أن هذا المستوى فوق الطاقة البشرية قطعا.
وينشأ عن هذه الظاهرة ظاهرة أخرى في الأداء القرآني.. هي أن النص الواحد يحوي مدلولات متنوعة متناسقة في النص; وكل مدلول منها يستوفي حظه من البيان والوضوح دون اضطراب في الأداء أو اختلاط بين المدلولات، وكل قضية وكل حقيقة تنال الحيز الذي يناسبها. بحيث يستشهد بالنص الواحد في مجالات شتى; ويبدو في كل مرة أصيلا في الموضع الذي استشهد به فيه، وكأنما هو مصوغ ابتداء لهذا المجال ولهذا الموضع! وهي ظاهرة قرآنية بارزة لا تحتاج منا إلى أكثر من الإشارة إليها (ولو راجع القارئ المقتطفات الواردة في التعريف بهذه السورة لوجد أن النص الواحد يرد للدلالة على أغراض شتى، وهو في كل مرة أصيل في موضعه تماما. وليس هذا إلا مثالا).
وللأداء القرآني طابع بارز كذلك في القدرة على استحضار المشاهد، والتعبير المواجه كما لو كان المشهد حاضرا، بطريقة ليست معهودة على الإطلاق في كلام البشر; ولا يملك الأداء البشري تقليدها. لأنه يبدو في هذه الحالة مضطربا غير مستقيم مع أسلوب الكتابة! وإلا فكيف يمكن للأداء البشري أن يعبر على طريقة الأداء القرآني مثلا في مثل هذه المواضع:
وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده - بغيا وعدوا - حتى إذا أدركه الغرق قال: آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين.. (وإلى هنا هي قصة تحكى).. ثم يعقبها مباشرة خطاب موجه في مشهد حاضر..
آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين؟! فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية .. ثم يعود الأداء للتعقيب على المشهد الحاضر:
وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون ..
قل: أي شيء أكبر شهادة. قل الله، شهيد بيني وبينكم، وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ ..
وإلى هنا أمر يوجه ورسول يتلقى.. ثم فجأة نجد الرسول يسأل القوم:
أإنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى؟ وإذا به يعود للتلقي في شأن هذا الذي سأل عنه قومه - وأجابوه! - :
قل: لا أشهد. قل: إنما هو إله واحد، وإنني بريء مما تشركون ..
وكذلك هذه الالتفاتات المتكررة في مثل هذه الآيات:
ويوم يحشرهم جميعا.. يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس.. وقال أولياؤهم من الإنس: ربنا استمتع بعضنا ببعض، وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا. [ ص: 1788 ] قال: النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله، إن ربك حكيم عليم.. وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون.. يا معشر الجن والإنس، ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي، وينذرونكم لقاء يومكم هذا؟.. قالوا: شهدنا على أنفسنا، وغرتهم الحياة الدنيا، وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين.. ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون .
وأمثالها كثير في القرآن كله. وهو أسلوب متميز تماما من الأسلوب البشري. وإلا فمن شاء أن يماري، فليحاول أن يعبر على هذا النحو، ثم ليأت بكلام مفهوم مستقيم; فضلا على أن يكون له هذا الجمال الرائع، وهذا الإيقاع المؤثر، وهذا التناسق الكامل!
هذه بعض جوانب الإعجاز في الأداء نلم بها سراعا. ويبقى الإعجاز الموضوعي والطابع الرباني المتميز من الطابع البشري فيه.
إن هذا القرآن يخاطب الكينونة البشرية بجملتها; فلا يخاطب ذهنها المجرد مرة. وقلبها الشاعر مرة. وحسها المتوفز مرة. ولكنه يخاطبها جملة، ويخاطبها من أقصر طريق، ويطرق كل أجهزة الاستقبال والتلقي فيها مرة واحدة كلما خاطبها.. وينشئ فيها بهذا الخطاب تصورات وتأثرات وانطباعات لحقائق الوجود كلها، لا تملك وسيلة أخرى من الوسائل التي زاولها البشر في تاريخهم كله أن تنشئها بهذا العمق، وبهذا الشمول، وبهذه الدقة وهذا الوضوح، وبهذه الطريقة وهذا الأسلوب أيضا!
وأنا أستعير هنا فقرات مقتبسة من القسم الثاني من كتاب: "خصائص التصور ومقوماته" تعين على توضيح هذه الحقيقة; وهي تتحدث عن "المنهج القرآني في عرض مقومات التصور الإسلامي" في صورتها الجميلة الكاملة الشاملة المتناسقة المتوازنة، وأبرز خصائص هذا المنهج في العرض:
أنه يمتاز عن كل المناهج:
أولا: بكونه يعرض الحقيقة - كما هي في عالم الواقع - في الأسلوب الذي يكشف كل زواياها، وكل جوانبها، وكل ارتباطاتها، وكل مقتضياتها.. وهو - مع هذا الشمول - لا يعقد هذه الحقيقة، ولا يلفها بالضباب! بل يخاطب بها الكينونة البشرية في كل مستوياتها.. ولم يشأ الله - سبحانه - رحمة منه بالعباد أن يجعل مخاطبتهم بمقومات هذا التصور أو إدراكهم لها، متوقفا على سابق علم لهم.. إطلاقا.. لأن العقيدة هي حاجة حياتهم الأولى; والتصور الذي تنشئه في عقولهم وقلوبهم هو الذي يحدد لهم طريقة تعاملهم مع الوجود كله، ويحدد لهم كذلك طريقة اتجاههم لتعلم أي علم، ولطلب أية معرفة.. لهذا السبب لم يجعل الله إدراك هذه العقيدة متوقفا على علم سابق. ولسبب آخر هو أن الله يريد أن يكون هذا التصور الذي تنشئه حقائق العقيدة هو قاعدة علم البشر ومعرفتهم - بما أنه هو قاعدة تصورهم وتفسيرهم للكون من حولهم، ولما يجري فيه ولما يجري فيهم - كي يقوم علمهم وتقوم معرفتهم على أساس من الحق المستيقن الذي ليس هنالك غيره حق مستيقن. ذلك أن كل ما يتلقاه الإنسان وكل ما يصل إليه - عن غير هذا المصدر - هو معرفة - "ظنية" ونتائج "محتملة" لا "قطعية" حتى ذلك "العلم التجريبي". فطريق العلم التجريبي هو القياس - لا الاستقراء والاستقصاء - فما يتسنى للبشر الاستقصاء والاستقراء في أية تجربة. هذا على فرض صحة جميع الملاحظات والاستنتاجات والأحكام البشرية على الظواهر! إنما قصارى "العلم" أن يقوم بعدد من التجارب،
[ ص: 1789 ] ثم يقيس على نتائجها. والعلم نفسه يسلم بأن النتائج الناشئة عن هذا القياس ظنية محتملة لا يقينية قطعية (وذلك بالإضافة إلى أن كل تجربة على حدة، تقوم على ترجيح أحد "الاحتمالات" لا على القطع الحتمي).. فلم يبق من علم مستيقن يمكن أن يحصل عليه البشر إلا العلم الذي يأتيهم من عند العليم الخبير، والذي يقصه عليهم من يقص الحق وهو خير الفاصلين.
ثانيا: بكونه مبرأ من الانقطاع والتمزق الملحوظين في الدراسات "العلمية" والتأملات "الفلسفية" والومضات "الفنية" جميعا. فهو لا يفرد كل جانب من جوانب (الكل) الجميل المتناسق بحديث مستقل. كما تصنع أساليب الأداء البشرية. وإنما هو يعرض هذه الجوانب في سياق موصول; يرتبط فيه عالم الشهادة بعالم الغيب. وتتصل فيه حقائق الكون والحياة والإنسان بحقيقة الألوهية. وتتصل فيه الدنيا بالآخرة. وحياة الناس في الأرض بحياة الملأ الأعلى.. في أسلوب تتعذر مجاراته أو تقليده; لأن الأسلوب البشري عندما يحاول تقليده في هذه الخاصية تبدو فيه الحقائق مختلطة مضطربة غامضة غير واضحة ولا محددة ولا منسقة، كما تبدو في المنهج القرآني!
وهذا الاتصال والارتباط في عرض جملة الحقائق في السياق القرآني الواحد قد يختلف فيه التركيز على أي منها بين موضع وموضع. ولكن هذا الترابط يبدو دائما. فعندما يكون التركيز في موضع من السياق القرآني مثلا على تعريف الناس بربهم الحق، تتجلى هذه الحقيقة الكبيرة في آثار القدرة الإلهية الفاعلة في الكون والحياة والإنسان. في عالم الغيب وعالم الشهادة سواء.. وعندما يكون التركيز في موضع آخر على التعريف بحقيقة الكون، تتجلى العلاقة بين "حقيقة الألوهية" و "حقيقة الكون" ، ويتطرق السياق كثيرا إلى حقيقة الحياة والأحياء، وإلى سنن الله في الكون والحياة.. وعندما يكون التركيز على "حقيقة الإنسان" يتجلى ارتباطها بحقيقة الألوهية وبالكون والأحياء، وبعالم الغيب وعالم الشهادة على السواء.. وعندما يكون التركيز على الدار الآخرة تذكر الحياة الدنيا وترتبطان بالله وبسائر الحقائق الأخرى.. وكذلك عندما يكون التركيز على قضايا الحياة الدنيا.. إلى آخر هذا النسق من العرض، الواضح الملامح في القرآن.
ثالثا: بكونه - مع تماسك جوانب "الحقيقة" وتناسقها - يحافظ تماما على إعطاء كل جانب من جوانبها - في الكل المتناسق - مساحته التي تساوي وزنه الحقيقي في ميزان الله - وهو الميزان - ومن ثم تبدو "حقيقة الألوهية" وخصائصها، وقضية "الألوهية والعبودية" بارزة مسيطرة محيطة شاملة; حتى ليبدو أن التعريف بتلك الحقيقة وتجلية هذه القضية هو موضوع القرآن الأساسي.. وتشغل حقيقة عالم الغيب - بما فيه القدر والدار الآخرة - مساحة بارزة. ثم تنال حقيقة الإنسان، وحقيقة الكون، وحقيقة الحياة، أنصبة متناسقة تناسق هذه الحقائق في عالم الواقع.. وهكذا لا تدغم حقيقة من الحقائق، ولا تهمل، ولا تضيع معالمها في المشهد الكلي الذي تعرض فيه هذه الحقائق.. وكما أن هذه الحقائق لا يطغى بعضها على بعض في التصور الإسلامي ذاته - كما بينا في فصل "التوازن" في القسم الأول - حيث لا ينتهي الإعجاب بالكون المادي ودقة نواميسه
[ ص: 1790 ] وتناسق أجزائه وقوانينه إلى تألهه - كمؤلهة العوالم المادية والأكوان الطبيعية قديما وحديثا! - ولا ينتهي الإعجاب بعظمة الحياة واهتدائها إلى وظائفها وتناسقها مع نفسها ومع المحيط الكوني إلى تأليهها - كأصحاب المذهب الحيوي! - ولا ينتهي الإعجاب بالإنسان، وتفرده في خصائصه والاستعدادات الكامنة في كيانه المنطلقة في تعامله مع الكون إلى تأليه الإنسان - أو العقل - في صورة من الصور - كالمثاليين في عمومهم! - ولا ينتهي الإجلال للحقيقة الإلهية في ذاتها إلى إنكار وجود العوالم المادية أو احتقارها أو احتقار الكائن الإنساني - كالمذاهب الهندوكية والبوذية والنصرانية المحرفة - .. كما أن هذا التوازن هو طابع التصور الإسلامي ذاته، فكذلك هو طابع منهج العرض القرآني لمقومات هذا التصور والحقائق التي يقوم عليها بحيث تبدو كلها واضحة في المشهد الفريد الذي يرسمه للكل في السياق القرآني الواحد! وهي خاصية قرآنية لا يملكها الأداء الإنساني!
رابعا: بتلك الحيوية الدافقة المؤثرة الموحية - مع الدقة والتقرير والتحديد الحاسم، وهي تمنح هذه الحقائق حيوية وإيقاعا وروعة وجمالا، لا يتسامى إليها المنهج البشري في العرض ولا الأسلوب البشري في التعبير. ثم هي في الوقت ذاته تعرض في دقة عجيبة، وتحديد حاسم; ومع ذلك لا تجور الدقة على الحيوية والجمال، ولا يجور التحديد على الإيقاع والروع!
ولا يمكن أن نصف نحن في أسلوبنا البشري، ملامح المنهج القرآني، فنبلغ من ذلك ما يبلغه تذوق هذا المنهج. كما أنه لا يمكن أن نبلغ بهذا البحث كله عن "خصائص التصور الإسلامي ومقوماته" شيئا مما يبلغه القرآن في هذا الشأن.. وما نحاول تقديم هذا البحث للناس إلا لأن الناس قد بعدوا عن القرآن ببعدهم عن الحياة في مثل الجو الذي تنزل فيه القرآن، ولم يعودوا يزاولون تلك الملابسات، ولا يعانون تلك الاهتمامات التي كان يزاولها ويعانيها من كان يتنزل عليهم القرآن؛ بينما هم ينشئون المجتمع المسلم في وجه كل الملابسات القائمة حينذاك. ومن ثم لم يعد الناس قادرين على تذوق المنهج القرآني ذاته، والاستمتاع بخصائصه ومذاقاته"... انتهت المقتطفات..
والقرآن يقدم حقائق العقيدة - أحيانا - في مجالات لا يخطر للفكر البشري عادة أن يلم بها، لأنها ليست من طبيعة ما يفكر فيه عادة أو يلتفت إليه على هذا النحو.
من هذا القبيل ما جاء في سورة الأنعام في تصوير حقيقة العلم الإلهي ومجالاته..