وفي اختصار وإجمال يشير السياق إلى الرسل بعد
نوح، وما جاءوا به من البينات والخوارق وكيف تلقاها المكذبون الضالون:
ثم بعثنا من بعده رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبينات، فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل، كذلك نطبع على قلوب المعتدين ..
فهؤلاء الرسل جاءوا قومهم بالبينات. والنص يقول: إنهم ما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل.. وهذا يحتمل أنهم بعد مجيء الآيات ظلوا يكذبون كما كانوا قبلها يكذبون. فلم تحولهم الآيات عن عنادهم. كما يحتمل أن المكذبين جماعة واحدة على اختلاف أجيالهم، لأنهم ذوو طبيعة واحدة. فهؤلاء ما كان يمكن أن يؤمنوا بما كذب به أسلاف لهم، أو بما كذبوا هم به في أشخاص هؤلاء الأسلاف! فهم منهم، طبيعتهم واحدة، وموقفهم تجاه البينات واحد. لا يفتحون لها قلوبهم، ولا يتدبرونها بعقولهم. وهم معتدون متجاوزون
[ ص: 1813 ] حد الاعتدال والاستقامة على طريق الهدى، ذلك أنهم يعطلون مداركهم التي أعطاها الله لهم ليتدبروا بها ويتبينوا. وبمثل هذا التعطيل، تغلق قلوبهم وتوصد منافذها:
كذلك نطبع على قلوب المعتدين ..
حسب سنة الله القديمة في أن القلب الذي يغلقه صاحبه ينطبع على هذا ويجمد ويتحجر، فلا يعود صالحا للتلقي والاستقبال.. لا أن الله يغلق هذه القلوب ليمنعها ابتداء من الاهتداء. فإنما هي السنة تتحقق مقتضياتها في جميع الأحوال.
فأما قصة
موسى فيبدؤها السياق هنا من مرحلة التكذيب والتحدي، وينهيها عند غرق
فرعون وجنوده، على نطاق أوسع مما في قصة
نوح، ملما بالمواقف ذات الشبة بموقف المشركين في
مكة من الرسول - صلى الله عليه وسلم - وموقف القلة المؤمنة التي معه.
وهذه الحلقة المعروضة هنا من قصة
موسى، مقسمة إلى خمسة مواقف، يليها تعقيب يتضمن العبرة من عرضها في هذه السورة على النحو الذي عرضت به.. وهذه المواقف الخمسة تتتابع في السياق على هذا النحو:
ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون إلى فرعون وملئه بآياتنا، فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين. فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا: إن هذا لسحر مبين. قال موسى: أتقولون للحق لما جاءكم، أسحر هذا؟ ولا يفلح الساحرون. قالوا: أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا، وتكون لكما الكبرياء في الأرض؟ وما نحن لكما بمؤمنين ..
والآيات التي بعث بها
موسى إلى
فرعون وملئه هي الآيات التسع المذكورة في سورة الأعراف. ولكنها لا تذكر هنا ولا تفصل لأن السياق لا يقتضيها، والإجمال في هذا الموضع يغني. والمهم هو تلقي
فرعون وملئه لآيات الله:
فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين .
فلما جاءهم الحق من عندنا ..
بهذا التحديد..
من عندنا .. ليصور شناعة الجريمة فيما قالوه عن هذا الحق الصادر من عند الله:
قالوا: إن هذا لسحر مبين ..
بهذا التوكيد المتبجح الذي لا يستند مع هذا إلى دليل..
إن هذا لسحر مبين .. كأنها جملة واحدة يتعارف عليها المكذبون في جميع العصور! فهكذا قال مشركو قريش، كما حكي عنهم في مطلع السورة، على تباعد الزمان والمكان، وعلى بعد ما بين معجزات موسى ومعجزة القرآن!
قال موسى: أتقولون للحق لما جاءكم. أسحر هذا؟ ولا يفلح الساحرون ..
وقد حذف من استنكار
موسى الأول ما دل عليه الثاني. فكأنه قال لهم: أتقولون للحق لما جاءكم: هذا سحر؟ أسحر هذا؟ وفي السؤال الأول استنكار لوصف الحق بالسحر، وفي السؤال الثاني تعجيب من أن يقول أحد عن هذا إنه سحر. فالسحر لا يستهدف هداية الناس، ولا يتضمن عقيدة، وليس له فكرة معينة عن الألوهية وعلاقة الخلق بالخالق ولا يتضمن منهاجا تنظيميا للحياة. فما يختلط السحر بهذا ولا يلتبس. وما كان الساحرون ليؤدوا عملا يستهدف مثل هذه الأغراض، ويحقق مثل هذا الاتجاه وما كانوا ليفلحوا وكل عملهم تخييل وتزييف.
[ ص: 1814 ] وهنا يكشف الملأ عن حقيقة الدوافع التي تصدهم عن التسليم بآيات الله:
قالوا: أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا، وتكون لكما الكبرياء في الأرض؟ وما نحن لكما بمؤمنين ..
وإذن فهو الخوف من تحطيم معتقداتهم الموروثة، التي يقوم عليها نظامهم السياسي والاقتصادي. وهو الخوف على السلطان في الأرض، هذا السلطان الذي يستمدونه من خرافات عقائدهم الموروثة.
إنها العلة القديمة الجديدة، التي تدفع بالطغاة إلى مقاومة الدعوات، وانتحال شتى المعاذير، ورمي الدعاة بأشنع التهم، والفجور في مقاومة الدعوات والدعاة.. إنها هي
الكبرياء في الأرض وما تقوم عليه من معتقدات باطلة يحرص المتجبرون على بقائها متحجرة في قلوب الجماهير، بكل ما فيها من زيف، وبكل ما فيها من فساد، وبكل ما فيها من أوهام وخرافات. لأن تفتح القلوب للعقيدة الصحيحة، واستنارة العقول بالنور الجديد، خطر على القيم الموروثة، وخطر على مكانة الطغاة ورهبتهم في قلوب الجماهير، وخطر على القواعد التي تقوم عليها هذه الرهبة وتستند. إنها الخوف على السلطان القائم على الأوهام والأصنام! وعلى تعبيد الناس لأرباب من دون الله.. ودعوة الإسلام - على أيدي الرسل جميعا - إنما تستهدف تقرير ربوبية الله وحده للعالمين; وتنحية الأرباب الزائفة التي تغتصب حقوق الألوهية وخصائصها، وتزاولها في حياة الناس. وما كانت هذه الأرباب المستخفة للجماهير لتدع كلمة الحق والهدى تصل إلى هذه الجماهير. ما كانت لتدع الإعلان العام الذي يحمله الإسلام بربوبية الله وحده للعالمين وتحرير رقاب البشر من العبودية للعباد.. ما كانت لتدع هذا الإعلان العام يصل إلى الجماهير; وهي تعلم أنه إعلان بالثورة على ربوبيتهم، والانقلاب على سلطانهم، والانقضاض على ملكهم، والانطلاق إلى فضاء الحرية الكريمة اللائقة بالإنسان!
إنها هي هي العلة القديمة الجديدة كلما قام من يدعو إلى الله رب العالمين!
وما كان رجال من أذكياء
قريش مثلا ليخطئوا إدراك ما في رسالة
محمد - صلى الله عليه وسلم - من صدق وسمو، وما في عقيدة الشرك من تهافت وفساد. ولكنهم كانوا يخشون على مكانتهم الموروثة القائمة على ما في تلك العقيدة من خرافات وتقاليد. كما خشي الملأ من قوم
فرعون على سلطانهم في الأرض، فقالوا متبجحين:
وما نحن لك بمؤمنين ! وتعلق
فرعون وملؤه بحكاية السحر، وأرادوا - في أغلب الظن - أن يغرقوا الجماهير بها، بأن يعقدوا حلقة للسحرة يتحدون بها
موسى وما معه من آيات تشبه السحر في ظاهرها، ليخرجوا منها في النهاية بأن
موسى ليس إلا ساحرا ماهرا. وبذلك ينتهي الخطر الذي يخشونه على معتقداتهم الموروثة، وعلى سلطانهم في الأرض، وهو الأساس.. ونرجح أن هذه كانت الدوافع الحقيقية لمهرجان السحرة، بعد ما أفصح القوم عن شعورهم بالخطر الحقيقي الذي يتوقعونه:
وقال فرعون: ائتوني بكل ساحر عليم. فلما جاء السحرة قال لهم موسى: ألقوا ما أنتم ملقون. فلما ألقوا قال موسى: ما جئتم به السحر، إن الله سيبطله، إن الله لا يصلح عمل المفسدين، ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون ..
ونلاحظ هنا اختصارا في موقف المباراة، لأن نهايته هي المقصودة. وفي قولة موسى:
ما جئتم به السحر .. رد على تهمة السحر التي وجهت إليه. فالسحر هو هذا الذي يصنعه هؤلاء، لأنه ليس أكثر من تخييل
[ ص: 1815 ] وسحر للأنظار لا هدف له إلا اللعب بالعقول، لا تصحبه دعوة، ولا تقوم عليه حركة. فهذا هو السحر لا آيات الله التي جاءهم بها حقا من عند الله.. وفي قوله:
إن الله سيبطله ..
تتجلى ثقة المؤمن الواثق بربه، المطمئن إلى أن ربه لا يرضى أن ينجح السحر وهو عمل غير صالح:
إن الله لا يصلح عمل المفسدين ..
الذين يضللون الناس بالسحر، أو الملأ الذين جاءوا بالسحرة بنية الفساد والإبقاء على الضلال:
ويحق الله الحق بكلماته ..
كلماته التكوينية " كن فيكون " ..
وهي تعبير عن توجه المشيئة. أو كلماته التي هي آياته وبيناته:
ولو كره المجرمون ..
فإن كراهتهم لا تعطل مشيئة الله، ولا تقف دون آياته.
وقد كان.. وبطل السحر وعلا الحق.. ولكن السياق يختصر المشاهد هنا لأنها ليست مقصودة في هذا المجال.