ويسدل الستار هنا ليرفع على
موسى ومن آمن معه وهم قليل من شباب القوم لا من شيوخهم!. وهذا إحدى عبر القصة المقصودة.
فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه، على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم. وإن فرعون لعال في الأرض. وإنه لمن المسرفين. وقال موسى: يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين. فقالوا: على الله توكلنا، ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين، ونجنا برحمتك من القوم الكافرين. وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوآ لقومكما بمصر بيوتا، واجعلوا بيوتكم قبلة، وأقيموا الصلاة، وبشر المؤمنين ..
ويفيد هذا النص أن الذين أظهروا إيمانهم وانضمامهم
لموسى من بني إسرائيل كانوا هم الفتيان الصغار، لا مجموعة الشعب الإسرائيلي. وأن هؤلاء الفتيان كان يخشى من فتنتهم وردهم عن اتباع
موسى، خوفا من
فرعون وتأثير كبار قومهم ذوي المصالح عند أصحاب السلطان، والأذلاء الذين يلوذون بكل صاحب سلطة وبخاصة من إسرائيل. وقد كان
فرعون ذا سلطة ضخمة وجبروت، كما كان مسرفا في الطغيان، لا يقف عند حد، ولا يتحرج من إجراء قاس.
وهنا لا بد من إيمان يرجح المخاوف، ويطمئن القلوب، ويثبتها على الحق الذي تنحاز إليه:
وقال موسى: يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين ..
فالتوكل على الله دلالة الإيمان ومقتضاه. وعنصر القوة الذي يضاف إلى رصيد القلة الضعيفة أمام الجبروت الطاغي فإذا هي أقوى وأثبت. وقد ذكر لهم
موسى الإيمان والإسلام. وجعل التوكل على الله مقتضى هذا وذاك.. مقتضى الاعتقاد في الله، ومقتضى إسلام النفس له خالصة والعمل بما يريد..
واستجاب المؤمنون لهتاف الإيمان على لسان نبيهم:
فقالوا: على الله توكلنا ..
[ ص: 1816 ] ومن ثم توجهوا إلى الله بالدعاء:
ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ..
والدعاء بألا يجعلهم الله فتنة للقوم الظالمين مقصود به ألا يمكن القوم الظالمين منهم، فيظن القوم أن تمكنهم من المؤمنين بالله دليل على أن عقيدتهم هم أصح ولذلك انتصروا وهزم المؤمنون! ويكون هذا استدراجا لهم من الله وفتنة ليلجوا في ضلالهم. فالمؤمنون يدعون الله أن يعصمهم من تسلط الظالمين عليهم ولو لاستدراج الظالمين. والآية الثانية أصرح في النتيجة المطلوبة:
ونجنا برحمتك من القوم الكافرين ..
ودعاؤهم الله ألا يجعلهم فتنة للقوم الظالمين، وأن ينجيهم برحمته من القوم الكافرين، لا ينافي الاتكال على الله والتقوي به. بل هو أدل على التوجه بالاتكال والاعتماد إلى الله. والمؤمن لا يتمنى البلاء، ولكن يثبت عند اللقاء.
وعقب هذا التميز، وفي فترة الانتظار بعد الجولة الأولى، وإيمان من آمن
بموسى، أوحى الله إليه وإلى
هارون أن يتخذا لبني إسرائيل بيوتا خاصة بهم، وذلك لفرزهم وتنظيمهم استعدادا للرحيل من
مصر في الوقت المختار وكلفهم تطهير بيوتهم، وتزكية نفوسهم، والاستبشار بنصر الله:
وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوآ لقومكما بمصر بيوتا، واجعلوا بيوتكم قبلة، وأقيموا الصلاة، وبشر المؤمنين ..
وتلك هي التعبئة الروحية إلى جوار التعبئة النظامية. وهما معا ضروريتان للأفراد والجماعات، وبخاصة قبيل المعارك والمشقات. ولقد يستهين قوم بهذه التعبئة الروحية، ولكن التجارب ما تزال إلى هذه اللحظة تنبئ بأن العقيدة هي السلاح الأول في المعركة، وأن الأداة الحربية في يد الجندي الخائر العقيدة لا تساوي شيئا كثيرا في ساعة الشدة.
وهذه التجربة التي يعرضها الله على العصبة المؤمنة ليكون لها فيها أسوة، ليست خاصة ببني إسرائيل، فهي تجربة إيمانية خالصة. وقد يجد المؤمنون أنفسهم ذات يوم مطاردين في المجتمع الجاهلي، وقد عمت الفتنة وتجبر الطاغوت، وفسد الناس، وأنتنت البيئة - وكذلك كان الحال على عهد
فرعون في هذه الفترة - وهنا يرشدهم الله إلى أمور:
اعتزال الجاهلية بنتنها وفسادها وشرها - ما أمكن في ذلك - وتجمع العصبة المؤمنة الخيرة النظيفة على نفسها، لتطهرها وتزكيها، وتدربها وتنظمها، حتى يأتي وعد الله لها.
اعتزال معابد الجاهلية واتخاذ بيوت العصبة المسلمة مساجد. تحس فيها بالانعزال عن المجتمع الجاهلي; وتزاول فيها عبادتها لربها على نهج صحيح; وتزاول بالعبادة ذاتها نوعا من التنظيم في جو العبادة الطهور.
واتجه
موسى - عليه السلام - إلى ربه، وقد يئس من
فرعون وملئه أن يكون فيهم خير، وأن تكون قد بقيت فيهم بقية، وأن يرجى لهم صلاح اتجه إليه يدعو على
فرعون وملئه، الذين يملكون المال والزينة، تضعف إزاءهما قلوب الكثيرين، فتنتهي إلى التهاوي أمام الجاه والمال، وإلى الضلال.. اتجه
موسى إلى ربه يدعوه أن يدمر هذه الأموال، وأن يشد على قلوب أهلها فلا يؤمنوا إلا حيث لا ينفعهم إيمان. فاستجاب الله الدعاء:
[ ص: 1817 ] وقال موسى: ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا. ربنا ليضلوا عن سبيلك. ربنا اطمس على أموالهم، واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم. قال: قد أجيبت دعوتكما، فاستقيما، ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون ..
ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ..
ينشأ عنها إضلال الناس عن سبيلك، إما بالإغراء الذي يحدثه مظهر النعمة في نفوس الآخرين. وإما بالقوة التي يمنحها المال لأصحابه فيجعلهم قادرين على إذلال الآخرين أو إغوائهم. ووجود النعمة في أيدي المفسدين لا شك يزعزع كثيرا من القلوب التي لا يبلغ من يقينها بالله أن تدرك أن هذه النعمة ابتلاء واختبار، وأنها كذلك ليست شيئا ذا قيمة إلى جانب فضل الله في الدنيا والآخرة.
وموسى يتحدث هنا عن الواقع المشهود في عامة الناس. ويطلب لوقف هذا الإضلال، ولتجريد القوة الباغية المضلة من وسائل البغي والإغراء، أن يطمس الله على هذه الأموال بتدميرها والذهاب بها، بحيث لا ينتفع بها أصحابها. أما دعاؤه بأن يشد الله على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم، فهو دعاء من يئس من صلاح هذه القلوب، ومن أن يكون لها توبة أو إنابة. دعاء بأن يزيدها الله قسوة واستغلاقا حتى يأتيهم العذاب، وعندئذ لن يقبل منهم الإيمان; لأن الإيمان عند حلول العذاب لا يقبل، ولا يدل على توبة حقيقية باختيار الإنسان.
قال: قد أجيبت دعوتكما ..
كتبت لها الإجابة وقضي الأمر.
فاستقيما ..
في طريقكما وعلى هداكما حتى يأتي الأجل:
ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون ..
فيخبطوا على غير علم، ويترددوا في الخطط والتدبيرات، ويقلقوا على المصير، ولا يعرفوا إن كانوا يسيرون في الطريق الهادي أم هم ضلوا السبيل.