وفي سبيل إنشاء تلك الحقائق الاعتقادية في الضمائر، وتثبيتها في النفوس، وتعميقها في الكيان البشري، وبث الحياة النابضة الدافعة فيها بحيث تستحيل قوة إيجابية موحية، مكيفة للمشاعر والتصورات والأعمال والحركات.. في سبيل إنشاء تلك الحقائق على هذا النحو وفي هذا المستوى يحتوي سياق السورة على شتى المؤثرات الموحية والإيقاعات التي تلمس أوتار الكيان البشري كلها في عمق واستجاشة، وهو يعرض هذه الحقائق ويفصلها..
يحتوي الكثير من الترغيب والترهيب.. الترغيب في خير الدنيا والآخرة لمن يستجيب لداعي الدينونة لله وحده بلا شريك، وما تحمله للبشرية من خير وصلاح ونماء.. والترهيب بالحرمان من خير الدنيا أو الآخرة; وبالعذاب في الدنيا أو في الآخرة لمن يعرضون عن هذا الداعي، ويسلكون طريق الطواغيت حيث يسلمونهم في الآخرة إلى جهنم، التي يقودون لها أتباعهم في الآخرة جزاء ما استسلم لقيادتهم، هؤلاء الأتباع في الدنيا ورضوا بالدينونة لهم دون الدينونة لله تعالى. وهذه نماذج من الترهيب والترغيب:
ويحتوي السياق ذلك القصص الطويل الذي يصدق ذلك الترغيب والترهيب في حركة العقيدة على مدار التاريخ; من مصارع المكذبين ونجاة المؤمنين - على النحو الذي سبق في بعض المقتطفات - ويبرز مشهد الطوفان بصفة خاصة; ويبلغ نبض السورة أعلى مستواه في ثنايا هذا المشهد الكوني الفريد:
ويحتوي بعض صور النفس البشرية في مواجهة الأحداث الجارية بالنعماء والبأساء; فيرفع للمكذبين المستعجلين بالعذاب، المتحدين للنذر في استهتار.. يرفع لهم صور أنفسهم وهم في مواجهة ما يستعجلون به حين يحل بهم; وفي الحسرات التي تصيب أنفسهم على تقلب الأحداث بهم; وفوت النعمة وإفلاتها من أيديهم; وفي البطر والغرور والانخداع بكشف الضر وفيض النعمة من جديد:
ويحتوي شيئا من مشاهد القيامة; وصور المكذبين فيها; ومواجهتهم لربهم الذي كذبوا بوحيه وتولوا عن رسله; وما يجدونه يومئذ من خزي; لا ينصرهم منه أرباب ولا شفعاء:
ومن المؤثرات التي ترتجف لها القلوب ما يصوره السياق من حضور الله سبحانه واطلاعه على ما يخفي البشر من ذوات الصدور; بينما هم غارون لا يستشعرون حضوره سبحانه، ولا علمه المحيط; ولا يحسون قهره للخلائق وإحاطته بها جميعا، وهم - الذين يكذبون - في قبضته كسائر الخلائق; من حيث لا يشعرون:
ومن المؤثرات الموحية في سياق السورة كذلك، استعراض موكب الإيمان. بقيادة الرسل الكرام، على مدار الزمان. وكل منهم يواجه الجاهلية الضالة بكلمة الحق الواحدة الحاسمة الجازمة، في صراحة وفي صرامة، وفي ثقة وطمأنينة ويقين.. وقد مر جانب من هذا الاستعراض في المقتطفات السابقة، والبقية ستأتي في موضعها في تفسير السورة. ومما لا شك فيه أن وحدة موقف الرسل الكرام، ووحدة الحقيقة التي يواجهون بها الجاهلية على مدار الزمان; ووحدة العبارات المحكية عنهم التي تتضمن هذه الحقيقة.. يحمل في طياته ما يحمل من قوة وإيقاع وإيحاء..
وحسبنا في تقديم السورة هذه الإشارات المجملة حتى نلتقي بنصوص السورة مفصلة ...