ثم يمضي السياق في تعريف البشر بربهم، وإطلاعهم على آثار قدرته وحكمته في خلق السماوات والأرض بنظام خاص في أطوار أو آماد محكمة; لحكمة كذلك خاصة يبرز منها السياق هنا ما يناسب البعث والحساب والعمل والجزاء:
وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام، وكان عرشه على الماء، ليبلوكم أيكم أحسن عملا. ولئن قلت: إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا: إن هذا إلا سحر مبين ..
وخلق السماوات والأرض في ستة أيام تحدثنا عنه في سورة يونس .. وهو يساق هنا للربط بين النظام الذي يقوم عليه الكون والنظام الذي تقوم عليه حياة الناس.
ليبلوكم أيكم أحسن عملا .
والجديد هنا في خلق السماوات والأرض هو الجملة المعترضة:
وكان عرشه على الماء وما تفيده من أنه عند خلق السماوات والأرض؛ أي إبرازهما إلى الوجود في شكلهما الذي انتهيا إليه كان هناك الماء; وكان عرش الله سبحانه على الماء..
أما كيف كان هذا الماء، وأين كان، وفي أية حالة من حالاته كان. وأما كيف كان عرش الله على هذا الماء.. فزيادات لم يتعرض لها النص، وليس لمفسر يدرك حدوده أن يزيد شيئا على مدلول النص، في هذا الغيب الذي ليس لنا من مصدر لعلمه إلا هذا النص وفي حدوده.
وليس لنا أن نتلمس للنصوص القرآنية مصداقا من النظريات التي تسمى "العلمية" - حتى ولو كان ظاهر النص يتفق مع النظرية وينطبق - فالنظريات "العلمية" قابلة دائما للانقلاب رأسا على عقب، كلما اهتدى
[ ص: 1858 ] العلماء إلى فرض جديد، وامتحنوه فوجدوه أقرب إلى تفسير الظواهر الكونية من الفرض القديم الذي قامت عليه النظرية الأولى. والنص القرآني صادق بذاته، اهتدى العلم إلى الحقيقة التي يقررها أم لم يهتد. وفرق بين الحقيقة العلمية والنظرية العلمية. فالحقيقة العلمية قابلة للتجربة - وإن كانت دائما احتمالية وليست قطعية - أما النظرية العلمية فهي قائمة على فرض يفسر ظاهرة كونية أو عدة ظواهر، وهي قابلة للتغيير والتبديل والانقلاب.. ومن ثم لا يحمل القرآن عليها ولا تحمل هي على القرآن، فلها طريق غير طريق القرآن، ومجال غير مجال القرآن.
وتلمس موافقات من النظريات "العلمية" للنصوص القرآنية هو هزيمة لجدية الإيمان بهذا القرآن واليقين بصحة ما فيه، وأنه من لدن حكيم خبير. هزيمة ناشئة من الفتنة "بالعلم" وإعطائه أكثر من مجاله الطبيعي الذي لا يصدق ولا يوثق به إلا في دائرته. فلينتبه إلى دبيب الهزيمة في نفسه من يحسب أنه بتطبيق القرآن على "العلم" يخدم القرآن ويخدم العقيدة، ويثبت الإيمان! إن الإيمان الذي ينتظر كلمة العلم البشري المتقلبة ليثبت لهو إيمان يحتاج إلى إعادة النظر فيه! إن القرآن هو الأصل والنظريات العلمية توافقه أو تخالفه سواء. أما الحقائق العلمية التجريبية فمجالها غير مجال القرآن. وقد تركها القرآن للعقل البشري يعمل فيها بكامل حريته، ويصل إلى النتائج التي يصل إليها بتجاربه، ووكل نفسه بتربية هذا العقل على الصحة والاستقامة والسلامة، وتحريره من الوهم والأسطورة والخرافة. كما عمل على إقامة نظام للحياة يكفل لهذا العقل أن يستقيم، وأن يتحرر، وأن يعيش في سلام ونشاط.. ثم تركه بعد ذلك يعمل في دائرته الخاصة. ويصل إلى الحقائق الجزئية الواقعية بتجاربه. ولم يتعرض لذكر شيء من الحقائق العلمية إلا نادرا. مثل أن الماء أصل الحياة والعنصر المشترك في جميع الأحياء. ومثل أن جميع الأحياء أزواج حتى النبات الذي يلقح من نفسه فهو يحتوي على خلايا التذكير والتأنيث ... وأمثال هذه الحقائق. التي صرحت بها النصوص القرآنية .
ونعود من هذا الاستطراد إلى النص القرآني نتملاه في مجاله الأصيل. مجال بناء العقيدة وتصريف الحياة:
وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام - وكان عرشه على الماء - ليبلوكم أيكم أحسن عملا ..
خلق السماوات والأرض في ستة أيام .. وهنا فقرات كثيرة محذوفة يشير إليها ما بعدها فيغني عنها.. خلقها في هذا الأمد، لتكون صالحة ومجهزة لحياة هذا الجنس البشري، وخلقكم وسخر لكم الأرض وما يفيدكم من السماوات.. وهو سبحانه مسيطر على الكون كله..
ليبلوكم أيكم أحسن عملا .. والسياق يظهر كأن خلق السماوات والأرض في ستة أيام - مع سيطرة الله سبحانه على مقاليده - كان من أجل ابتلاء الإنسان.
ليعظم هذا الابتلاء ويشعر الناس بأهميتهم وبجدية ابتلائهم.
وكما جهز الخالق هذه الأرض وهذه السماوات بما يصلح لحياة هذا الجنس، جهز هذا الجنس كذلك باستعدادات وطاقات; وبنى فطرته على ذات القانون الذي يحكم الكون; وترك له جانبا اختياريا في حياته، يملك معه أن يتجه إلى الهدى فيعينه الله عليه ويهديه، أو أن يتجه إلى الضلال فيمد الله له فيه، وترك الناس يعملون، ليبلوهم أيهم أحسن عملا. يبلوهم لا للعلم فهو يعلم. ولكن يبلوهم ليظهر المكنون من أفعالهم، فيتلقوا جزاءهم عليها كما اقتضت إرادة الله وعدله.
[ ص: 1859 ] ومن ثم يبدو التكذيب بالبعث والحساب والجزاء عجيبا غريبا في هذا الجو. بعدما يذكر أن الابتلاء مرتبط بتكوين السماوات والأرض، أصيل في نظام الكون وسنن الوجود.
ويبدو المكذبون به غير معقولين وغير مدركين للحقائق الكبيرة في تكوين هذا الوجود، وهم يعجبون لهذه الحقائق وبها يفاجئون:
ولئن قلت: إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا: إن هذا إلا سحر مبين ..
فما أعجبها قولة، وما أغربها، وما أكذبها في ظل هذا البيان الذي تقدمها!
شأنهم في التكذيب بالبعث، وجهلهم بارتباطه بناموس الكون، هو شأنهم في مسألة العذاب الدنيوي، فهم يستعجلونه ويتساءلون عن سبب تأخيره، إذا ما اقتضت الحكمة الأزلية أن يتأخر عنهم فترة من الوقت:
ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن: ما يحبسه؟ ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم، وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون .
لقد كانت القرون الأولى تهلك بعذاب من عند الله يستأصلها، بعد أن يأتيهم رسولهم بالخوارق التي يطلبونها ثم يمضون هم في التكذيب. ذلك أنها كانت رسالات مؤقتة لأمة من الناس، ولجيل واحد من هذه الأمة. والمعجزة كذلك لا يشهدها إلا هذا الجيل، ولا تبقى لتشاهدها أجيال أخرى لعلها تؤمن بها أكثر مما آمن الجيل الذي شهدها أول مرة.
فأما
الرسالة المحمدية فقد كانت خاتمة الرسالات، ولجميع الأقوام وجميع الأجيال، وكانت المعجزة التي صاحبتها معجزة غير مادية، فهي قابلة للبقاء، قابلة لأن تتدبرها أجيال وأجيال، وتؤمن بها أجيال وأجيال، ومن ثم اقتضت الحكمة ألا تؤخذ هذه الأمة بعذاب الاستئصال. وأن يقع العذاب على أفراد منها في وقت معلوم.. وكذلك كان الحال في الأمم الكتابية قبلها من اليهود والنصارى، فلم يعم فيهم عذاب الاستئصال.
ولكن المشركين في جهلهم بنواميس الله الخاصة بخلق الإنسان على هذا النحو من القدرة على الاختيار والاتجاه; وخلق السماوات والأرض على نحو يسمح له بالعمل والنشاط والبلاء ينكرون البعث. وفي جهلهم بسنن الله في الرسالات والمعجزات والعذاب يتساءلون إذا ما أخر عنهم إلى أمة من السنوات أو الأيام - أي مجموعة منها - ما يحبسه؟ وما يؤخره؟ فلا يدركون حكمة الله ولا رحمته. وهو يوم يأتيهم لا يصرف عنهم، بل يحيط بهم، جزاء لاستهزائهم الذي يدل عليه سؤالهم واستهتارهم:
ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون .
إن عذاب الله لا تستعجله نفس مؤمنة ولا نفس جادة. وإذا ما أبطأ فهي حكمة ورحمة. ليؤمن من يتهيأ للإيمان.
وفي فترة التأجيل التي صرف الله العذاب فيها عن مشركي قريش، كم آمن منهم من رجال حسن إسلامهم وأبلوا أحسن البلاء. وكم ولد لكفارهم من ذرية نشأت فيما بعد في الإسلام.. وهذه وتلك بعض الحكم الظاهرة والله يعلم ما بطن. ولكن البشر القاصرين العجولين لا يعلمون..
[ ص: 1860 ] وبمناسبة استعجال العذاب يجول السياق جولة في نفس هذا المخلوق الإنساني العجيب، الذي لا يثبت ولا يستقيم إلا بالإيمان:
ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليئوس كفور، ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن: ذهب السيئات عني، إنه لفرح فخور. إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات، أولئك لهم مغفرة وأجر كبير ..
إنها صورة صادقة لهذا الإنسان العجول القاصر، الذي يعيش في لحظته الحاضرة، ويطغى عليه ما يلابسه; فلا يتذكر ما مضى ولا يفكر فيما يلي. فهو يؤوس من الخير، كفور بالنعمة بمجرد أن تنزع منه. مع أنها كانت هبة من الله له. وهو فرح بطر بمجرد أن يجاوز الشدة إلى الرخاء. لا يحتمل في الشدة ويصبر ويؤمل في رحمة الله ويرجو فرجه; ولا يقتصد في فرحه وفخره بالنعمة أو يحسب لزوالها حسابا..
إلا الذين صبروا ..
صبروا على النعمة كما صبروا على الشدة، فإن كثيرا من الناس يصبرون على الشدة تجلدا وإباء أن يظهر عليهم الضعف والخور، ولكن القلة هي التي تصبر على النعمة فلا تغتر ولا تبطر..
وعملوا الصالحات ..
في الحالين. في الشدة بالاحتمال والصبر، وفي النعمة بالشكر والبر.
أولئك لهم مغفرة وأجر كبير ..
بما صبروا على الضراء وبما شكروا في السراء.
إن الإيمان الجاد المتمثل في العمل الصالح هو الذي يعصم النفس البشرية من اليأس الكافر في الشدة; كما يعصمها من البطر الفاجر في الرخاء. وهو الذي يقيم القلب البشري على سواء في البأساء والنعماء; ويربطه بالله في حاليه، فلا يتهاوى ويتهافت تحت مطارق البأساء. ولا يتنفج ويتعالى عندما تغمره النعماء.. وكلا حالي المؤمن خير. وليس ذلك إلا للمؤمن كما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم.