صفحة جزء
أولئك الجاهلون بحكمة الخلق وبسنن الكون - وهم أفراد من هذا الإنسان القاصر الغافل اليؤوس الكفور الفرح الفخور - الذين لا يدركون حكمة إرسال الرسل من البشر فيطلبون أن يكون الرسول ملكا أو أن يصاحبه ملك; ولا يقدرون قيمة الرسالة فيطلبون أن يكون للرسول كنز! .. أولئك المكذبون المعاندون الذين يلجون في التكذيب والعناد.. ما تراك صانعا معهم أيها الرسول؟

فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا: لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك. إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل ..

ولعل هنا تحمل معنى الاستفهام. وهو ليس استفهاما خالصا، إنما يتلبس به أن المتوقع من النفس البشرية أن تضيق صدرا بهذا الجهل، وبهذا التعنت، وبهذه الاقتراحات السخيفة التي تكشف عن بعد كامل عن إدراك طبيعة الرسالة ووظيفتها. فهل سيضيق صدرك - يا محمد - وهل سيحملك هذا الضيق على أن تترك بعض ما أنزل إليك فلا تبلغه لهم، كي لا يقابلوه بما اعتادوا أن يقابلوا به نظائره فيما أخبرتهم من قبل؟

كلا. لن تترك بعض ما يوحى إليك ولن يضيق به صدرك من قولهم هذا:

إنما أنت نذير .. [ ص: 1861 ] فواجبك كله أن تنذرهم - وأبرز صفة النذير هنا؛ لأن المقام يستوجبها مع أمثال هؤلاء - فأد واجبك:

والله على كل شيء وكيل ..

فهو الموكل بهم، يصرفهم كيف يشاء وفق سنته، ويحاسبهم بعد ذلك على ما يكسبون. ولست أنت موكلا بكفرهم أو إيمانهم. إنما أنت نذير.

وهذه الآية تشي بجو تلك الفترة الحرجة في تاريخ الدعوة; وما كان يعتور صدر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الضيق. كما تشي بثقل المواجهة للجاهلية المتمردة المعاندة، في الوقت الذي هلك فيه العشير والنصير; وغمرت الوحشة قلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وغشى الكرب على قلوب المؤمنين القلائل في هذه الجاهلية المحيطة..

ومن بين كلمات الآية نحس جوا مكروبا تتنزل فيه هذه الكلمات الربانية بالبشاشة، وتسكب فيه الطمأنينة، وتريح الأعصاب والقلوب!

وقولة أخرى يقولونها. وقد قالوها مرارا: إن هذا القرآن مفترى. فتحدهم إذن أن يفتروا عشر سور كسوره، وليستعينوا بمن يشاءون في هذا الافتراء:

أم يقولون افتراه؟ قل: فأتوا بعشر سور مثله مفتريات. وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين ..

ولقد سبق أن تحداهم بسورة واحدة في سورة يونس، فما التحدي بعد ذلك بعشر سور؟

قال المفسرون القدامى: إن التحدي كان على الترتيب: بالقرآن كله، ثم بعشر سور، ثم بسورة واحدة. ولكن هذا الترتيب ليس عليه دليل. بل الظاهر أن سورة يونس سابقة والتحدي فيها بسورة واحدة، وسورة هود لاحقة والتحدي فيها بعشر سور. وحقيقة إن ترتيب الآيات في النزول ليس من الضروري أن يتبع ترتيب السور. فقد كانت تنزل الآية فتلحق بسورة سابقة أو لاحقة في النزول. إلا أن هذا يحتاج إلى ما يثبته. وليس في أسباب النزول ما يثبت أن آية يونس كانت بعد آية هود. والترتيب التحكمي في مثل هذا لا يجوز.

ولقد حاول السيد رشيد رضا في تفسير المنار أن يجد لهذا العدد "عشر سور" علة، فأجهد نفسه طويلا - رحمة الله عليه - ليقول: إن المقصود بالتحدي هنا هو القصص القرآني، وأنه بالاستقراء يظهر أن السور التي كان قد نزل بها قصص مطول إلى وقت نزول سورة هود كانت عشرا. فتحداهم بعشر.. لأن تحديهم بسورة واحدة فيه يعجزهم أكثر من تحديهم بعشر نظرا لتفرق القصص وتعدد أساليبه، واحتياج المتحدي إلى عشر سور كالتي ورد فيها ليتمكن من المحاكاة إن كان سيحاكي.. إلخ

ونحسب - والله أعلم - أن المسألة أيسر من كل هذا التعقيد. وأن التحدي كان يلاحظ حالة القائلين وظروف القول؛ لأن القرآن كان يواجه حالات واقعة محددة مواجهة واقعة محددة. فيقول مرة: ائتوا بمثل هذا القرآن. أو ائتوا بسورة، أو بعشر سور. دون ترتيب زمني. لأن الغرض كان هو التحدي في ذاته بالنسبة لأي شيء من هذا القرآن. كله أو بعضه أو سورة منه على السواء. فالتحدي كان بنوع هذا القرآن لا بمقداره. والعجز كان عن النوع لا عن المقدار. وعندئذ يستوي الكل والبعض والسورة. ولا يلزم ترتيب، إنما هو [ ص: 1862 ] مقتضى الحالة التي يكون عليها المخاطبون، ونوع ما يقولون عن هذا القرآن في هذه الحالة. فهو الذي يجعل من المناسب أن يقال سورة أو عشر سور أو هذا القرآن. ونحن اليوم لا نملك تحديد الملابسات التي لم يذكرها لنا القرآن.

وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين ..

ادعوا شركاءكم وفصحاءكم وبلغاءكم وشعراءكم وجنكم وإنسكم. وأتوا بعشر سور فقط مفتريات، إن كنتم صادقين في أن هذا القرآن مفترى من دون الله!

فإلم يستجيبوا لكم ..

ولم يقدروا على افتراء عشر سور؛ لأنهم عاجزون عن أن يقدموا لكم عونا في هذه المهمة المتعذرة! وعجزتم أنتم بطبيعة الحال؛ لأنكم لم تدعوهم لتستعينوا بهم إلا بعد عجزكم!

فاعلموا أنما أنزل بعلم الله ..

فهو وحده القادر على أن ينزله، وعلم الله وحده هو الكفيل بأن ينزله على هذا النحو الذي نزل به، متضمنا ما تضمنه من دلائل العلم الشامل بسنن الكون وأحوال البشر، وماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم، وما يصلح لهم في نفوسهم وفي معاشهم ...

وأن لا إله إلا هو ..

فهذا مستفاد كذلك من عجز آلهتكم عن تلبيتكم في تأليف عشر سور كالتي أنزلها الله. فلا بد أن يكون هناك إله واحد هو القادر وحده على تنزيل هذا القرآن.

ويعقب على هذا التقرير الذي لا مفر من الإقرار به بسؤال لا يحتمل إلا جوابا واحدا عند غير المكابرين المتعنتين. سؤال:

فهل أنتم مسلمون؟ ..

بعد هذا التحدي والعجز ودلالته التي لا سبيل إلى مواجهتها بغير التسليم؟.

ولكنهم ظلوا بعدها يكابرون!!!

لقد كان الحق واضحا ولكنهم كانوا يخافون على ما يتمتعون به في هذه الحياة الدنيا من منافع وسلطان، وتعبيد للناس كي لا يستجيبوا لداعي الحرية والكرامة والعدل والعزة.. داعي لا إله إلا الله.. لهذا يعقب السياق بما يناسب حالهم ويصور لهم عاقبة أمرهم فيقول:

من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون. أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار، وحبط ما صنعوا فيها، وباطل ما كانوا يعملون ..

إن للجهد في هذه الأرض ثمرته. سواء تطلع صاحبه إلى أفق أعلى أو توجه به إلى منافعه القريبة وذاته المحدودة. فمن كان يريد الحياة الدنيا وزينتها فعمل لها وحدها، فإنه يلقى نتيجة عمله في هذه الدنيا; ويتمتع بها كما يريد - في أجل محدود - ولكن ليس له في الآخرة إلا النار؛ لأنه لم يقدم للآخرة شيئا، ولم يحسب لها حسابا، فكل عمل الدنيا يلقاه في الدنيا. ولكنه باطل في الآخرة لا يقام له فيها وزن وحابط (من حبطت الناقة إذا انتفخ بطنها من المرض) وهي صورة مناسبة للعمل المنتفخ المتورم في الدنيا وهو مؤد إلى الهلاك!

ونحن نشهد في هذه الأرض أفرادا اليوم وشعوبا وأمما تعمل لهذه الدنيا، وتنال جزاءها فيها. ولدنياها [ ص: 1863 ] زينة، ولدنياها انتفاخ! فلا يجوز أن نعجب ولا أن نسأل: لماذا؟ لأن هذه هي سنة الله في هذه الأرض:

من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون .

ولكن التسليم بهذه السنة ونتائجها لا يجوز أن ينسينا أن هؤلاء كان يمكن أن يعملوا نفس ما عملوه - ونفوسهم تتطلع للآخرة وتراقب الله في الكسب والمتاع - فينالوا زينة الحياة الدنيا لا يبخسون منها شيئا، وينالوا كذلك متاع الحياة الأخرى.

إن العمل للحياة الأخرى لا يقف في سبيل العمل للحياة الدنيا. بل إنه هو هو مع الاتجاه إلى الله فيه. ومراقبة الله في العمل لا تقلل من مقداره ولا تنقص من آثاره; بل تزيد وتبارك الجهد والثمر، وتجعل الكسب طيبا والمتاع به طيبا. ثم تضيف إلى متاع الدنيا متاع الآخرة. إلا أن يكون الغرض من متاع الدنيا هو الشهوات الحرام. وهذه مردية لا في الأخرى فحسب، بل كذلك في الدنيا ولو بعد حين. وهي ظاهرة في حياة الأمم وفي حياة الأفراد. وعبر التاريخ شاهدة على مصير كل أمة اتبعت الشهوات على مدار القرون.

بعد ذلك يلتفت السياق إلى موقف المشركين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما جاءه من الحق; وإلى هذا القرآن الذي يشهد له بأنه على بينة من ربه، وأنه مرسل من عنده; كما يشهد له كتاب موسى من قبله. يلتفت السياق إلى هذا الحشد من الأدلة المحيطة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وبدعوته ورسالته. ذلك ليثبت بهذه الالتفاتة قلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والقلة المؤمنة معه. ثم ليوعد الذين يكفرون به من أحزاب المشركين بالنار; وليعرضهم في مشهد من مشاهد العذاب يوم القيامة يجلله الخزي والعار جزاء العتو والاستكبار; وليقرر أن هؤلاء المتبجحين بالباطل، المعاندين في الحق أعجز من أن يفلتوا من عذاب الله; وأعجز من أن يجدوا لهم من دون الله أولياء.. لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون .. وليعقد بينهم وبين المؤمنين موازنة في صورة حسية مشهودة; تصور الفارق البعيد بين الفريقين في طبيعتهما، وفي موقفهما وحالهما في الدنيا وفي الآخرة سواء:

أفمن كان على بينة من ربه، ويتلوه شاهد منه، ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة؟ أولئك يؤمنون به، ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده، فلا تك في مرية منه، إنه الحق من ربك، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون.

ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أولئك يعرضون على ربهم ويقول الأشهاد: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم، ألا لعنة الله على الظالمين. الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا، وهم بالآخرة هم كافرون. أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض، وما كان لهم من دون الله من أولياء، يضاعف لهم العذاب. ما كانوا يستطيعون السمع، وما كانوا يبصرون. أولئك الذين خسروا أنفسهم، وضل عنهم ما كانوا يفترون. لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون. إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون.

مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع، هل يستويان مثلا؟ أفلا تذكرون؟ ..

إن طول هذه الجملة، وتنوع الإشارات والإيحاءات فيها، وتنوع اللفتات والإيقاعات أيضا.. إن هذا كله يشيء بما كانت تواجهه القلة المؤمنة، في تلك الفترة الحرجة من تاريخ الدعوة ويصور لنا حاجة الموقف إلى هذه المعركة التقريرية الإيحائية; كما يصور لنا طبيعة هذا القرآن الحركية; وهو يواجه ذلك الواقع ويجاهده جهادا كبيرا.

[ ص: 1864 ] إن هذا القرآن لا يتذوقه إلا من يخوض مثل هذه المعركة; ويواجه مثل تلك المواقف التي تنزل فيها ليواجهها ويوجهها. والذين يتلمسون معاني القرآن ودلالاته وهم قاعدون. يدرسونه دراسة بيانية أو فنية لا يملكون أن يجدوا من حقيقته شيئا في هذه القعدة الباردة الساكنة; بعيدا عن المعركة وبعيدا عن الحركة.. إن حقيقة هذا القرآن لا تتكشف للقاعدين أبدا، وإن سره لا يتجلى لمن يؤثرون السلامة والراحة مع العبودية لغير الله، والدينونة للطاغوت من دون الله!

أفمن كان على بينة من ربه، ويتلوه شاهد منه، ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة؟ أولئك يؤمنون به، ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده، فلا تك في مرية منه، إنه الحق من ربك، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون ..

وردت روايات شتى فيما هو المقصود بقوله تعالى: أفمن كان على بينة من ربه .. وفي قوله تعالى: ويتلوه شاهد منه . وفي عائد هذه الضمائر في: "ربه" وفي "يتلوه" وفي "منه" .. وأرجحها - كما يبدو لي - هو أن المقصود بقوله تعالى: أفمن كان على بينة من ربه هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبالتبعية له كل من يؤمن بما جاء به - وأن المقصود بقوله تعالى: ويتلوه شاهد منه أي ويتبعه شاهد من ربه على نبوته ورسالته. وهو هذا القرآن الذي يشهد بذاته أنه وحي من الله لا يقدر عليه بشر. ومن قبله - أي من قبل هذا الشاهد وهو القرآن; كتاب موسى يشهد كذلك بصدق النبي - صلى الله عليه وسلم - سواء بما تضمنه من البشارة به; أو بموافقة أصله لما جاء به محمد من بعده.

والذي يرجح هذا عندي هو وحده التعبير القرآني في السورة - في تصوير ما بين الرسل الكرام وربهم، من بينة يجدونها في أنفسهم، يستيقنون معها أن الله هو الذي يوحي إليهم، ويجدون بها ربهم في قلوبهم وجودا مستيقنا واضحا لا يخالجهم معه شك ولا ريبة فنوح - عليه السلام - يقول لقومه: يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم، أنلزمكموها وأنتم لها كارهون؟ .. وصالح عليه السلام يقول الكلمة ذاتها: قال: يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة فمن ينصرني من الله إن عصيته؟ فما تزيدونني غير تخسير .. وشعيب عليه السلام يقولها كذلك: قال: يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي، ورزقني منه رزقا.. فهو تعبير موحد عن حال واحدة للرسل الكرام مع ربهم، تصور حقيقة ما يجدونه في أنفسهم من رؤية قلبية مستيقنة لحقيقة الألوهية في نفوسهم; ولصدق اتصال ربهم بهم عن طريق الوحي أيضا.. وهذا التوحيد في التعبير عن الحال الواحدة مقصود قصدا في سياق السورة - كما أسلفنا في التعريف بها - لإثبات أن شأن النبي - صلى الله عليه وسلم - مع ربه ومع الوحي الذي تنزل عليه شأن سائر الرسل الكرام قبله; مما يبطل دعاوى المشركين المفتراة عليه - صلى الله عليه وسلم - وكذلك لتثبيته هو والقلة المؤمنة معه على الحق الذي معهم; فهو الحق الواحد الذي جاء به الرسل جميعا، والذي أسلم عليه المسلمون من أتباع الرسل جميعا.

ويكون المعنى الكلي للآية: أفهذا النبي الذي تتضافر الأدلة والشواهد على صدقه وصحة إيمانه ويقينه..

حيث يجد في نفسه بينة واضحة مستيقنة من ربه. وحيث يتبعه - أو يتبع يقينه هذا - شاهد من ربه هو هذا القرآن الدال بخصائصه على مصدره الرباني. وحيث يقوم على تصديقه شاهد آخر قبله، هو كتاب موسى الذي جاء إماما لقيادة بني إسرائيل ورحمة من الله تنزلت عليهم. وهو يصدق رسول الله - صلى الله عليه [ ص: 1865 ] وسلم - بما تضمنه من التبشير به، كما يصدقه بما فيه من مطابقة للأصول الاعتقادية التي يقوم عليها دين الله كله..

يقول: أفمن كان هذا شأنه يكون موضعا للتكذيب والكفر والعناد كما تفعل الأحزاب التي تناوئه من شتى فئات المشركين؟ إنه لأمر مستنكر إذن في مواجهة هذه الشواهد المتضافرة من شتى الجهات..

ثم يعرض مواقف الذين يؤمنون بهذا القرآن والذين يكفرون به من الأحزاب، وما ينتظر هؤلاء من جزاء في الآخرة. ويعرج على تثبيت الرسول - صلى الله عليه وسلم - والذين يؤمنون بما معه من الحق; فلا يقلقهم شأن المكذبين الكافرين، وهم كثرة الناس في ذلك الحين:

أولئك يؤمنون به، ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده، فلا تك في مرية منه، إنه الحق من ربك، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون ..

وقد وجد بعض المفسرين إشكالا في قوله تعالى: أولئك يؤمنون به إذا كان المقصود بقوله تعالى: أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه هو شخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما أسلفنا.. فإن "أولئك" تعني جماعة يؤمنون بهذا الوحي وبتلك البينة.. ولا إشكال هناك. فالضمير في قوله تعالى أولئك يؤمنون به يعود على "شاهد" وهو القرآن. وكذلك الضمير في قوله تعالى ومن قبله فإنه يعود على القرآن كما أسلفنا.. فلا إشكال في أن يقول: أولئك يؤمنون به - أي بهذا الشاهد أي بهذا القرآن - والرسول - صلى الله عليه وسلم - هو أول من آمن بما أنزل إليه، ثم تبعه المؤمنون: آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون. كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ... كما جاء في آية البقرة.. والآية هنا تشير إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتدمج معه المؤمنين الذين آمنوا بما آمن به هو وبلغهم إياه.. وهو أمر مألوف في التعبير القرآني، ولا إشكال فيه.

ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده ..

وهو موعد لا يخلف، والله سبحانه هو الذي قدره ودبره!

فلا تك في مرية منه، إنه الحق من ربك، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون ..

وما شك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما أوحي إليه، ولا امترى - وهو على بينة من ربه - ولكن هذا التوجيه الرباني عقب حشد هذه الدلائل والشواهد يشي بما كان يخالج نفس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ضيق وتعب ووحشة من جراء تجمد الدعوة وكثرة المعاندين، تحتاج كلها إلى التسرية عنه بهذا التوجيه والتثبيت وكذلك ما كان يخالج قلوب القلة المسلمة من ضيق وكرب يحتاج إلى برد اليقين يتنزل عليهم من ربهم الرحيم.

وما أحوج طلائع البعث الإسلامي; وهي تواجه مثل تلك الحال في كل مكان; ويتآزر عليها الصد والإعراض، والسخرية والاستهزاء، والتعذيب والإيذاء; والمطاردة بكل صورها المادية والمعنوية; وتتضافر عليها كل قوى الجاهلية في الأرض من محلية وعالمية; وتسلط عليها أبشع ألوان الحرب وأنكدها; ثم تدق الطبول وتنصب الرايات لمن يحاربونها هذه الحرب ومن يطاردونها هذه المطاردة ...

ما أحوج هذه الطلائع إلى تدبر هذه الآية بكل فقرة فيها، وبكل إشارة، وبكل لمحة فيها وكل إيماءة!

ما أحوجها إلى اليقين الذي يحمله التوكيد الرباني الحكيم:

[ ص: 1866 ] فلا تك في مرية منه، إنه الحق من ربك، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون ..

وما أحوجها إلى أن تجد في نفوسها ظلالا لما كان يجده الرسل الكرام صلوات الله عليهم وسلامه من بينة من ربهم، ومن رحمة لا يخطئونها ولا يشكون فيها لحظة; ومن التزام بالمضي في الطريق مهما تكن عقبات الطريق:

قال: يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة فمن ينصرني من الله إن عصيته؟ فما تزيدونني غير تخسير ..

إن هذه الطلائع تتصدى لمثل ما كان يتصدى له ذلك الرهط الكريم من الرسل - صلوات الله وسلامه عليهم جميعا - وتجد من الجاهلية مثلما كانوا يجدون.. لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى البشرية كلها بهذا الدين; فواجهته بجاهليتها التي صارت إليها بعد الإسلام الذي جاءها به من قبل إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط ويوسف وموسى وهارون وداود وسليمان ويحيى وعيسى ، وسائر النبيين!

إنها الجاهلية التي تعترف بوجود الله - سبحانه - أو لا تعترف. ولكنها تقيم للناس أربابا في الأرض يحكمونهم بغير ما أنزل الله; ويشرعون لهم من القيم والتقاليد والأوضاع ما يجعل دينونتهم لهذه الأرباب لا لله.. ثم هي الدعوة الإسلامية للناس كافة أن ينحوا هذه الأرباب الأرضية عن حياتهم وأوضاعهم ومجتمعاتهم وقيمهم وشرائعهم، وأن يعودوا إلى الله وحده يتخذونه ربا لا أرباب معه; ويدينون له وحده. فلا يتبعون إلا شرعه ونهجه، ولا يطيعون إلا أمره ونهيه.. ثم هي بعد هذه وتلك المعركة القاسية بين الشرك والتوحيد، وبين الجاهلية والإسلام. وبين طلائع البعث الإسلامي وهذه الطواغيت في أرجاء الأرض والأصنام!

ومن ثم لا بد لهذه الطلائع من أن تجد نفسها وموقفها كله في هذا القرآن في مثل هذا الأوان.. وهذا بعض ما نعنيه حين نقول: "إن هذا القرآن لا يتذوقه إلا من يخوض مثل هذه المعركة. ويواجه مثل تلك المواقف التي تنزل فيها ليواجهها ويوجهها، وإن الذين يتلمسون معاني القرآن ودلالاته وهم قاعدون يدرسونه دراسة بيانية أو فنية لا يملكون أن يجدوا من حقيقته شيئا في هذه القعدة الباردة الساكنة، بعيدا عن المعركة، وبعيدا عن الحركة ..." .

التالي السابق


الخدمات العلمية