[ ص: 1949 ] (12)
سورة يوسف مكية
وآياتها إحدى عشرة ومائة
بسم الله الرحمن الرحيم
هذه السورة مكية، نزلت بعد سورة هود، في تلك الفترة الحرجة التي تحدثنا عنها في تقديم سورة يونس وفي تقديم سورة هود.. بين عام الحزن بموت
أبي طالب nindex.php?page=showalam&ids=10640وخديجة سندي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين بيعة العقبة الأولى ثم الثانية التي جعل الله فيهما لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وللعصبة المسلمة معه وللدعوة الإسلامية فرجا ومخرجا بالهجرة إلى
المدينة .. وعلى هذا فالسورة واحدة من السور التي نزلت في تلك الفترة الحرجة في تاريخ الدعوة وفي حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - والعصبة المسلمة معه في
مكة ..
والسورة مكية بجملتها، على خلاف ما ورد في المصحف الأميري من أن الآيات (1، 2، 3، 7) منها مدنية. ذلك أن الآيات الثلاث الأولى هذا نصها:
الر تلك آيات الكتاب المبين. إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون. نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن، وإن كنت من قبله لمن الغافلين ..
وهذه الآيات هي مقدمة طبيعية لما جاء بعدها مباشرة من البدء في قصة
يوسف عليه السلام.. ونص الآية التالية في السياق هو:
إذ قال يوسف لأبيه: يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر. رأيتهم لي ساجدين ... .
ثم تمضي القصة بعد ذلك في طريقها إلى النهاية.
فالتقديم لهذه القصة بقول الله تعالى:
نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين يبدو هو التقديم الطبيعي المصاحب لنزول القصة..
وكذلك هذه الأحرف المقطعة (الر) وتقرير أنها آيات الكتاب المبين. ثم تقرير أن الله أنزل هذا الكتاب قرآنا عربيا.. هو كذلك من جو القرآن المكي، ومواجهة المشركين في
مكة بعربية القرآن الذي كانوا يدعون أن أعجميا يعلمه لرسول الله صلى الله عليه وسلم! وتقرير أنه وحي من الله كان النبي صلى الله عليه وسلم من الغافلين عن اتجاهه وموضوعاته.
ثم إن هذا التقديم يتناسق مع التعقيب على القصة في نهايتها، وهو قول الله تعالى:
ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك، وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون ..
[ ص: 1950 ] فهناك حبكة بين التقدمة للقصة والتعقيب عليها; ظاهر منها نزول التقدمة مع القصة والتعقيب.
أما الآية السابعة فالسياق لا يستقيم بدونها أصلا; ولا يتأتى أن تكون السورة قد نزلت في
مكة وهي ليست من سياقها ثم أضيفت إليها في
المدينة! ذلك أن في الآية الثامنة ضميرا يعود على
يوسف وإخوته في هذه الآية السابعة، بحيث لا يستقيم نزول الآية الثامنة دون أن تكون معها الآية السابقة. وهذا نصها:
لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين. إذ قالوا: ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة، إن أبانا لفي ضلال مبين ..
مما يقطع بأن الآيتين نزلتا معا، في سياق السورة الموصول.
والسورة كلها لحمة واحدة عليها الطابع المكي واضحا في موضوعها وفي جوها وفي ظلالها وفي إيحاءاتها. بل إن عليها طابع هذه الفترة الحرجة الموحشة بصفة خاصة.. ففي الوقت الذي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعاني من الوحشة والغربة والانقطاع في جاهلية
قريش - منذ عام الحزن - وتعاني معه الجماعة المسلمة هذه الشدة، كان الله - سبحانه - يقص على نبيه الكريم قصة أخ له كريم -
يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم - عليهم صلوات الله وسلامه أجمعين - وهو يعاني صنوفا من المحن والابتلاءات: محنة كيد الإخوة. ومحنة الجب والخوف والترويع فيه. ومحنة الرق وهو ينتقل كالسلعة من يد إلى يد على غير إرادة منه، ولا حماية ولا رعاية من أبويه ولا من أهله. ومحنة كيد امرأة العزيز والنسوة، وقبلها ابتلاء الإغراء والشهوة والفتنة! ومحنة السجن بعد رغد العيش وطراوته في قصر العزيز. ثم محنة الرخاء والسلطان المطلق في يديه، وهو يتحكم في أقوات الناس وفي رقابهم، وفي يديه لقمة الخبز التي تقوتهم! ومحنة المشاعر البشرية وهو يلقى بعد ذلك إخوته الذين ألقوه في الجب وكانوا السبب الظاهر لهذه المحن والابتلاءات كلها.. هذه المحن والابتلاءات التي صبر عليها
يوسف - عليه السلام - وزاول دعوته إلى الإسلام من خلالها، وخرج منها كلها متجردا خالصا، آخر توجهاته، وآخر اهتماماته، في لحظة الانتصار على المحن جميعا وفي لحظة لقاء أبويه ولم شمله; وفي لحظة تأويل رؤياه وتحققها كما رآها:
إذ قال يوسف لأبيه: يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر. رأيتهم لي ساجدين .. آخر توجهاته وآخر اهتماماته في هذه اللحظة هي التوجه المخلص المتجرد المنيب إلى ربه، منخلعا من هذا كله بكليته كما يصوره القرآن الكريم:
فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه، وقال: ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين. ورفع أبويه على العرش، وخروا له سجدا. وقال: يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا، وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن، وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي، إن ربي لطيف لما يشاء، إنه هو العليم الحكيم.. رب قد آتيتني من الملك، وعلمتني من تأويل الأحاديث، فاطر السماوات والأرض. أنت وليي في الدنيا والآخرة، توفني مسلما، وألحقني بالصالحين ..
وهكذا كانت طلبته الأخيرة.. بعد ذلك كله وهو في غمرة السلطان والرخاء ولمة الشمل.. أن يتوفاه ربه مسلما، وأن يلحقه بالصالحين.. وذلك بعد الابتلاء والمحنة، والصبر الطويل والانتصار الكبير..
فلا عجب أن تكون هذه السورة. بما احتوته من قصة ذلك النبي الكريم، ومن التعقيبات عليها بعد ذلك، مما يتنزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والجماعة المسلمة معه في
مكة ، في هذه الفترة بالذات، تسلية وتسرية، وتطمينا كذلك وتثبيتا للمطاردين المغتربين الموحشين!
لا بل إن الخاطر ليذهب بي اللحظة إلى الإحساس بالإيحاء البعيد بالإخراج من
مكة إلى دار أخرى يكون
[ ص: 1951 ] فيها النصر والتمكين; مهما بدا أن الخروج كان إكراها تحت التهديد! كما أخرج
يوسف من حضن أبيه، ليواجه هذه الابتلاءات كلها. ثم لينتهي بعد ذلك إلى النصر والتمكين:
وكذلك مكنا ليوسف في الأرض، ولنعلمه من تأويل الأحاديث، والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ..
ولقد كان ذلك وهو يضع أقدامه في
مصر في قصر العزيز.. حتى وهو ما يزال فتى يباع بيع الرقيق..!
وما يذهب بي الخاطر إليه اللحظة يجعلني أتذوق مذاقا خاصا - أشير إليه ولا أملك التعبير عنه! - ذلك التعقيب الذي أعقب القصة:
وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى، أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم، ولدار الآخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون؟ حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء، ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين. لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب، ما كان حديثا يفترى، ولكن تصديق الذي بين يديه، وتفصيل كل شيء، وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ..
إنه الإيحاء بمجرى سنة الله عندما يستيئس الرسل - كما استيأس
يوسف في محنته الطويلة - والتلميح بالمخرج المكروه الذي يليه الفرج المرغوب! .. الإيجاء والتلميح اللذان تدركهما القلوب المؤمنة، وهي في مثل هذه الفترة تعيش، وفي جوها تتنفس، فتتذوق وتستشرف وتلمح الإيحاء والتلميح من بعيد..
والسورة ذات طابع متفرد في احتوائها على قصة
يوسف كاملة. فالقصص القرآني - غير قصة
يوسف - يرد حلقات، تناسب كل حلقة منها أو مجموعة حلقات موضوع السورة واتجاهها وجوها. وحتى القصص الذي ورد كاملا في سورة واحدة كقصص
هود وصالح ولوط وشعيب ورد مختصرا مجملا. أما قصة
يوسف فوردت بتمامها وبطولها في سورة واحدة. وهو طابع متفرد في السور القرآنية جميعا.
هذا الطابع الخاص يتناسب مع طبيعة القصة; ويؤديها أداء كاملا.. ذلك أنها تبدأ برؤيا
يوسف ، وتنتهي بتأويلها. بحيث لا يناسبها أن تكون حلقة منها أو جملة حلقات في سورة وتكون بقيتها في سورة أخرى.
وهذا الطابع كفل لها الأداء الكامل من جميع الوجوه; فوق تحقيقه للهدف الأصيل الذي من أجله سيقت القصة، والتعقيبات التي تلتها.
وسنحتاج أن نقول كلمة مفصلة - بعض الشيء - عن هذا الأداء الكامل، تكشف عن ذلك المنهج القرآني الفريد.
.. وبالله التوفيق..