إن
قصة يوسف - كما جاءت في هذه السورة - تمثل النموذج الكامل لمنهج الإسلام في الأداء الفني للقصة، بقدر ما تمثل النموذج الكامل لهذا المنهج في الأداء النفسي والعقيدي والتربوي والحركي أيضا.. ومع أن المنهج القرآني واحد في موضوعه وفي أدائه، إلا أن قصة
يوسف تبدو وكأنها المعرض المتخصص في عرض هذا المنهج من الناحية الفنية للأداء!
إن القصة تعرض شخصية
يوسف - عليه السلام - وهي الشخصية الرئيسية في القصة - عرضا كاملا في
[ ص: 1952 ] كل مجالات حياتها، بكل جوانب هذه الحياة، وبكل استجابات هذه الشخصية في هذه الجوانب وفي تلك المجالات. وتعرض أنواع الابتلاءات التي تعرضت لها تلك الشخصية الرئيسية في القصة; وهي ابتلاءات متنوعة في طبيعتها وفي اتجاهاتها.. ابتلاءات الشدة وابتلاءات الرخاء. وابتلاءات الفتنة بالشهوة، والفتنة بالسلطان. وابتلاءات الفتنة بالانفعالات والمشاعر البشرية تجاه شتى المواقف وشتى الشخصيات.. ويخرج العبد الصالح من هذه الابتلاءات والفتن كلها نقيا خالصا متجردا في وقفته الأخيرة، متجها إلى ربه بذلك الدعاء المنيب الخاشع كما أسلفنا في نهاية الفقرة السابقة.
وإلى جانب عرض الشخصية الرئيسية في القصة تعرض الشخصيات المحيطة بدرجات متفاوتة من التركيز. وفي مساحات متناسبة من رقعة العرض، وعلى أبعاد متفاوتة من مركز الرؤية، وفي أوضاع خاصة من الأضواء والظلال.. وتتعامل القصة مع النفس البشرية في واقعيتها الكاملة. متمثلة في نماذج متنوعة: نموذج يعقوب الوالد المحب الملهوف والنبي المطمئن الموصول.. ونموذج إخوة
يوسف وهواتف الغيرة والحسد والحقد والمؤامرة والمناورة، ومواجهة آثار الجريمة، والضعف والحيرة أمام هذه المواجهة، متميزا فيهم أحدهم بشخصية موحدة السمات في كل مراحل القصة ومواقفها.. ونموذج امرأة العزيز بكل غرائزها ورغائبها واندفاعاتها الأنثوية، كما تصنعها وتوجهها البيئة المصرية الجاهلية في بلاط الملوك، إلى جانب طابعها الشخصي الخاص الواضح في تصرفها وضوح انطباعات البيئة.. ونموذج النسوة من طبقة العلية في
مصر الجاهلية! والأضواء التي تلقيها على البيئة، ومنطقها كما يتجلى في كلام النسوة عن امرأة العزيز وفتاها، وفي إغرائهن كذلك ليوسف وتهديد امرأة العزيز له في مواجهتهن جميعا. وما وراء أستار القصور ودسائسها ومناوراتها، كما يتجلى في سجن
يوسف بصفة خاصة.. ونموذج "العزيز" وعليه ظلال طبقته وبيئته في مواجهة جرائم الشرف من خلال مجتمعه! .. ونموذج "الملك" في خطفة يتوارى بعدها كما توارى العزيز في منطقة الظلال بعيدا عن منطقة الأضواء في مجال العرض المتناسق.. وتبرز الملامح البشرية واضحة صادقة بواقعية كاملة في هذا الحشد من الشخصيات والبيئات، وهذا الحشد من المواقف والمشاهد، وهذا الحشد من الحركات والمشاعر..
ومع استيفاء القصة لكل ملامح "الواقعية" السليمة المتكاملة وخصائصها في كل شخصية وفي كل موقف وفي كل خالجة.. فإنها تمثل النموذج الكامل لمنهج الإسلام في الأداء الفني للقصة، ذلك الأداء الصادق، الرائع بصدقه العميق وواقعيته السليمة.. المنهج الذي لا يهمل خلجة بشرية واقعية واحدة، وفي الوقت ذاته لا ينشئ مستنقعا من الوحل يسميه "الواقعية" كالمستنقع الذي أنشأته "الواقعية" الغربية الجاهلية!
وقد ألمت القصة بألوان من الضعف البشري; بما فيها لحظة الضعف الجنسي، ودون أن تزور - أي تزوير - في تصوير النفس البشرية بواقعيتها الكاملة في هذه المواقف، ودون أن تغفل أية لمحة حقيقية من لمحات النفس أو الموقف، فإنها لم تسف قط لتنشئ ذلك المستنقع المقزز للفطرة السليمة، ذلك الذي يسمونه في جاهلية القرن العشرين "الواقعية" أو يسمونه أخيرا "الطبيعية!" .
وظلت القصة صورة نظيفة للأداء الواقعي الكامل مع تنوع الشخصيات وتنوع المواقف:
إخوة
يوسف .. والأحقاد الصغيرة في قلوبهم تكبر وتتضخم حتى تحجب عن ضمائرهم هول الجريمة وبشاعتها ونكارتها وضخامتها! ثم تزين لهم "المحلل الشرعي!" الذي يخرجون به من تلك الجريمة.. ملاحظا في هذا واقعيتهم في بيئتهم الدينية - وهم أولاد نبي الله
يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم - عليهم صلوات
[ ص: 1953 ] الله وسلامه - وانطباعات هذه البيئة في تفكيرهم ومشاعرهم وتقاليدهم، وحاجتهم النفسية - من ثم - إلى مبرر للجريمة، وإلى طريقة للتحلل من نكارتها وبشاعتها:
لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين. إذ قالوا: ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا - ونحن عصبة - إن أبانا لفي ضلال مبين! اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم، وتكونوا من بعده قوما صالحين! قال قائل منهم: لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابت الجب، يلتقطه بعض السيارة - إن كنتم فاعلين! - قالوا: يا أبانا، ما لك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون. أرسله معنا غدا يرتع ويلعب، وإنا له لحافظون! قال: إني ليحزنني أن تذهبوا به، وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون. قالوا: لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذا لخاسرون. فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابت الجب، وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون. وجاءوا أباهم عشاء يبكون، قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين وجاءوا على قميصه بدم كذب، قال: بل سولت لكم أنفسكم أمرا، فصبر جميل، والله المستعان على ما تصفون ..
ونحن نجدهم - هم هم - في كل مواقف القصة بعد ذلك - كما نجد موقف أحدهم الخاص من أول القصة إلى آخرها - فما إن يذهبوا بأخي
يوسف بعد ما طلبه منهم وهم لا يعرفونه، يحسبون أنه عزيز مصر الذي قدموا من بلادهم -
كنعان - ليشتروا منه القمح في سنوات الجدب العجاف، حيث يدبر الله ليوسف أن يأخذ أخاه منهم بحجة أنه وجد صواع الملك في رحله.. ما إن يروا هذا التدبير - وهم لا يعلمون ما وراءه - حتى ينفجر حقدهم القديم على
يوسف :
قالوا: إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل! فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم. قال: أنتم شر مكانا، والله أعلم بما تصفون ..
كذلك نجدهم - هم هم - بعد مواجهة أبيهم بالفجيعة الثانية في شيخوخته الحزينة، فما إن يروا تجدد حزنه على يوسف حتى ينفجر حقدهم القديم، دون مراعاة لشيخوخة أبيهم ونكبته الأليمة:
وتولى عنهم وقال: يا أسفى على يوسف! وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم. قالوا: تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين! ..
ومثلها عندما أرسل
يوسف قميصه إلى أبيه في النهاية - بعدما كشف لهم عن شخصيته - فلما رأوا أباهم يستنشق عبير
يوسف ، غاظهم هذا الاتصال الباطني الدال على عمق ما بينه وبين يوسف، فلم يملكوا أنفسهم أن يبكتوه ويؤنبوه:
ولما فصلت العير قال أبوهم: إني لأجد ريح يوسف، لولا أن تفندون! قالوا: تالله إنك لفي ضلالك القديم! ..
وامرأة العزيز.. في صرع الشهوة التي تعمي عن كل شيء في اندفاعها الهائج الكاسح، فلا تحفل حياء أنثويا ولا كبرياء ذاتيا، كما لا تحفل مركزا اجتماعيا ولا فضيحة عائلية.. والتي تستخدم - مع ذلك - كل مكر الأنثى وكيدها، سواء في تبرئة نفسها أو حماية من تهوى من جرائر التهمة التي ألصقتها به، وتحديد عقوبة لا تودي بحياته! أو رد الكيد للنسوة من ثغرة الضعف الغريزي الشهوي الذي تعرفه فيهن من معرفتها لنفسها! أو التبجح بشهوانيتها أمام انكشاف ضعف عزيمتها وكبريائها أمام من تهوى، ووقوف نسوتها معها على أرض واحدة، حيث تبدو فيها الأنثى متجردة من كل تجمل المرأة وحيائها، الأنثى التي لا تحس في
[ ص: 1954 ] إرواء هواتفها الأنثوية أمرا يعاب أصلا! ومع صدق التصوير والتعبير عن هذا النموذج البشري الخاص بكل واقعيته، وعن هذه اللحظة الخاصة بكل طبيعيتها، فإن الأداء القرآني - الذي ينبغي أن يكون هو النموذج الأعلى للأداء الفني الإسلامي - لم يتخل عن طابعه النظيف مرة واحدة - حتى وهو يصور لحظة التعري النفسي والجسدي الكامل بكل اندفاعها وحيوانيتها - لينشئ ذلك المستنقع الكريه الذي يتمرغ في وحله كتاب "القصة الواقعية" وكتاب "القصة الطبيعية" في هذه الجاهلية النكدة بحجة الكمال الفني في الأداء!
وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته: أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا. وكذلك مكنا ليوسف في الأرض، ولنعلمه من تأويل الأحاديث، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون. ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما، وكذلك نجزي المحسنين. وراودته التي هو في بيتها عن نفسه، وغلقت الأبواب وقالت: هيت لك! قال: معاذ الله! إنه ربي أحسن مثواي، إنه لا يفلح الظالمون. ولقد همت به وهم بها، لولا أن رأى برهان ربه. كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء، إنه من عبادنا المخلصين. واستبقا الباب، وقدت قميصه من دبر، وألفيا سيدها لدى الباب، قالت: ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم؟! قال: هي راودتني عن نفسي، وشهد شاهد من أهلها: إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين. وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين. فلما رأى قميصه قد من دبر قال: إنه من كيدكن، إن كيدكن عظيم! يوسف أعرض عن هذا، واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين! .. وقال نسوة في المدينة :امرأت العزيز تراود فتاها عن نفسه! قد شغفها حبا! إنا لنراها في ضلال مبين! فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن، وأعتدت لهن متكأ، وآتت كل واحدة منهن سكينا، وقالت: اخرج عليهن! فلما رأينه أكبرنه، وقطعن أيديهن، وقلن: حاش لله! ما هذا بشرا، إن هذا إلا ملك كريم. قالت: فذلكن الذي لمتنني فيه! ولقد راودته عن نفسه فاستعصم، ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين. قال: رب، السجن أحب إلي مما يدعونني إليه، وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين. فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن، إنه هو السميع العليم ..
وكذلك حين نلتقي بها مرة أخرى بعدما دخل
يوسف السجن بسبب كيدها وكيد النسوة; وبقي هناك حتى رأى الملك رؤياه، وتذكر الفتى الذي كان سجينا معه أن يوسف هو وحده الذي يعرف تأويل الرؤيا، فطلب الملك أن يأتوه به، فأبى حتى يحقق قضيته، ويبرئ ساحته، فاستدعاها الملك مع النسوة. وإذا بها ما تزال المرأة المحبة، مع التغير الطبيعي الواقعي الذي يحدثه الزمن والعمر والأحداث والظروف; ومع تسرب الإيمان الذي تعرفه من يوسف من خلال تلك المشاعر والمؤثرات جميعا:
وقال الملك: ائتوني به. فلما جاءه الرسول قال: ارجع إلى ربك فاسأله: ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن؟ إن ربي بكيدهن عليم. قال: ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه؟ قلن: حاش لله! ما علمنا عليه من سوء. قالت امرأت العزيز: الآن حصحص الحق، أنا راودته عن نفسه، وإنه لمن الصادقين. ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب، وأن الله لا يهدي كيد الخائنين. وما أبرئ نفسي، إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي، إن ربي غفور رحيم ..
ويوسف .. العبد الصالح - الإنسان - لم يزور الأداء القرآني في شخصيته الإنسانية لمحة واحدة; وهو يواجه الفتنة بكل بشريته - مع نشأته في بيت النبوة وتربيته ودينه - وبشريته مع نشأته وتربيته ودينه تمثل بمجموعها واقعيته بكل جوانبها.. لقد ضعف حين همت به حتى هم بها; ولكن الخيط الآخر شده وأنقذه
[ ص: 1955 ] من السقوط فعلا. ولقد شعر بضعفه إزاء كيد النسوة. ومنطق البيئة، وجو القصور، ونسوة القصور أيضا! ولكنه تمسك بالعروة الوثقى.. ليست هنالك لمحة واحدة مزورة في واقعية الشخصية وطبيعيتها; وليس هنالك رائحة من مستنقعات الجاهلية ووحلها الفني! ذلك أن هذا هو الواقع السليم بكل جوانبه..
والعزيز.. وشخصيته بطبيعتها الخاصة، وبطبيعة سمت الإمارة; ثم بضعف النخوة، وغلبة الرياء الاجتماعي وستر الظواهر وإنقاذها! وفيه تتمثل كل خصائص بيئته:
فلما رأى قميصه قد من دبر، قال: إنه من كيدكن، إن كيدكن عظيم. يوسف أعرض عن هذا، واستغفري لذنبك، إنك كنت من الخاطئين! ..
والنسوة.. نسوة هذا المجتمع بكل ملامحه.. اللغط بسيرة امرأة العزيز وفتاها الذي راودته عن نفسه، بعدما شغفها حبا! والاستنكار الذي تبدو فيه غيرة النسوة من امرأة العزيز أكثر مما يبدو فيه استنكار الفعلة! ثم وهلتهن أمام طلعة
يوسف . ثم إقرارهن الأنثوي العميق بموقف المرأة التي كن يلغطن بقصتها ويستنكرن موقفها; وإحساس هذه المرأة بهذا الإقرار الذي يشجعها على الاعتراف الكامل، وهي آمنة في ظل استسلامهن لأنوثتهن كما تصنعها بيئتهن الخاصة وتوجهها. ثم ميلهن كلهن على
يوسف بالإغراء والإغواء، رغم ما أنطقتهن به الوهلة الأولى من نظافته وطهارته البادية من قولهن:
حاش لله! ما هذا بشرا، إن هذا إلا ملك كريم ..
نأخذ ذلك من قولة
يوسف عليه السلام:
قال: رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه، وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين ..
فلم تعد امرأة العزيز وحدها تراوده; ولكن عادت نسوة تلك الطبقة بجملتها تطارده!
والبيئة.. التي تتجلى سماتها من خلال ذلك كله. ثم من خلال ذلك التصرف في أمر
يوسف ، على الرغم مما بدا من براءته. ذلك التصرف المقصود به مواراة الفضيحة ودفن معالمها; ولا يهم أن يذهب بريء
كيوسف ضحيتها:
ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين ..
فإذا تابعنا شخصية
يوسف - عليه السلام - فإننا لا نفتقد في موقف واحد من مواقف القصة ملامح هذه الشخصية، المنبثقة من مقوماتها الذاتية البيئية الواقعية، المتمثلة في كونه "العبد الصالح - الإنسان - بكل بشريته، مع نشأته في بيت النبوة وتربيته ودينه" ..
فهو في السجن وظلماته - مع الظلم وظلماته! - لا يغفل عن الدعوة لدينه، في كياسة وتلطف - مع الحزم والفصل - وفي إدراك لطبيعة البيئة ومداخل النفوس فيها.. كما أنه لا يغفل عن حسن تمثيله بشخصه وأدبه وسلوكه لدينه هذا الذي يدعو إليه في سجنه:
ودخل معه السجن فتيان. قال أحدهما: إني أراني أعصر خمرا، وقال الآخر: إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه. نبئنا بتأويله، إنا نراك من المحسنين. قال: لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما، ذلكما مما علمني ربي، إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون. واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب، ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء، ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس، ولكن أكثر الناس لا يشكرون. يا صاحبي السجن، أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار؟ ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنـزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله [ ص: 1956 ] أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون يا صاحبي السجن، أما أحدكما فيسقي ربه خمرا، وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه، قضي الأمر الذي فيه تستفتيان ..
وهو - مع هذا كله - بشر، فيه ضعف البشر. فهو يتطلب الخلاص من سجنه، بمحاولة إيصال خبره إلى الملك، لعله يكشف المؤامرة الظالمة التي جاءت به إلى السجن المظلم. وإن كان الله - سبحانه - شاء أن يعلمه أن يقطع الرجاء إلا منه وحده:
وقال للذي ظن أنه ناج منهما: اذكرني عند ربك. فأنساه الشيطان ذكر ربه. فلبث في السجن بضع سنين ... .
ثم تطالعنا ملامح هذه الشخصية كذلك بعد بضع سنين، وقد رأى الملك رؤياه، فحار في تأويلها الكهنة والسدنة; حتى تذكر صاحب السجن
يوسف - بعدما تمت التربية الربانية للعبد الصالح، فاطمأن إلى قدر الله به واطمأن إلى مصيره - حتى إذا ما طلب الملك - بعد تأويله لرؤياه - أن يأتوه به، أجاب في هدوء المطمئن الواثق; وتمنع عن مغادرة سجنه إلا بعد تحقيق تهمته وتبرئة سمعته:
وقال الملك: إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف، وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات. يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي، إن كنتم للرؤيا تعبرون. قالوا: أضغاث أحلام، وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين. وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة: أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون. يوسف أيها الصديق، أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات، لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون. قال: تزرعون سبع سنين دأبا، فما حصدتم فذروه في سنبله، إلا قليلا مما تأكلون. ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن. إلا قليلا مما تحصنون. ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون.. وقال الملك: ائتوني به.. فلما جاءه الرسول قال: ارجع إلى ربك فاسأله: ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن؟ إن ربي بكيدهن عليم. قال: ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه؟ قلن: حاش لله! ما علمنا عليه من سوء. قالت امرأت العزيز: الآن حصحص الحق، أنا راودته عن نفسه، وإنه لمن الصادقين. ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب، وأن الله لا يهدي كيد الخائنين. وما أبرئ نفسي، إن النفس لأمارة بالسوء، إلا ما رحم ربي، إن ربي غفور رحيم.. وقال الملك: ائتوني به أستخلصه لنفسي، فلما كلمه قال: إنك اليوم لدينا مكين أمين. قال: اجعلني على خزائن الأرض، إني حفيظ عليم ..
ومنذ هذه اللحظة التي تجلت فيها شخصية
يوسف مكتملة ناضجة واعية، مطمئنة ساكنة واثقة، نجد هذه الشخصية تتفرد على مسرح الأحداث، وتتوارى تماما شخصيات الملك والعزيز والنسوة والبيئة. ويمهد السياق القرآني لهذا التحول في القصة وفي الواقع بقوله:
وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء، نصيب برحمتنا من نشاء. ولا نضيع أجر المحسنين، ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون ..
ومنذ هذه اللحظة نجد هذه الشخصية تواجه ألوانا أخرى من الابتلاءات، تختلف في طبيعتها عن الألوان الأولى; وتواجهها بذلك الاكتمال الناضج الواعي، وبتلك الطمأنينة الساكنة الواثقة.
نجد
يوسف وهو يواجه - للمرة الأولى - إخوته بعدما فعلوا به تلك الفعلة القديمة; وهو في الموقف الأعلى بالقياس إليهم والأقوى.. ولكننا نجد سمة الضبط واضحة في انفعالاته وتصرفاته:
[ ص: 1957 ] وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون. ولما جهزهم بجهازهم قال: ائتوني بأخ لكم من أبيكم، ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنزلين؟ فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون. قالوا: سنراود عنه أباه وإنا لفاعلون. وقال لفتيانه: اجعلوا بضاعتهم في رحالهم لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون ..
ونجده وهو يدبر - بتدبير الله له - كيف يأخذ أخاه. فنلمح الشخصية الناضجة الواعية الحكيمة المطمئنة، الضابطة الصابرة:
ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه: قال: إني أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون. فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه ثم أذن مؤذن: أيتها العير إنكم لسارقون. قالوا - وأقبلوا عليهم - ماذا تفقدون؟ قالوا: نفقد صواع الملك، ولمن جاء به حمل بعير، وأنا به زعيم. قالوا: تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض، وما كنا سارقين. قالوا: فما جزاؤه إن كنتم كاذبين؟ قالوا: جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه، كذلك نجزي الظالمين. فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه، ثم استخرجها من وعاء أخيه.. كذلك كدنا ليوسف، ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك، إلا أن يشاء الله، نرفع درجات من نشاء، وفوق كل ذي علم عليم. قالوا: إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل! فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم، قال: أنتم شر مكانا، والله أعلم بما تصفون. قالوا: يا أيها العزيز، إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه، إنا نراك من المحسنين. قال: معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده، إنا إذا لظالمون
..
ثم نلتقي به وقد استوفت المحنة بيعقوب أجلها، وقدر الله أن تنقضي الابتلاءات التي نزلت به وببيته، وحن يوسف إلى أبويه وأهله، ورق لإخوته والضر باد بهم، فكشف لهم عن نفسه، في عتاب رقيق، وفي عفو كريم، يجيء في أوانه، وكل الملابسات توحي به، وتتوقعه من هذه الشخصية بسماتها تلك:
فلما دخلوا عليه قالوا: يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر، وجئنا ببضاعة مزجاة. فأوف لنا الكيل وتصدق علينا، إن الله يجزي المتصدقين. قال: هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون؟ قالوا: أإنك لأنت يوسف؟ قال: أنا يوسف، وهذا أخي، قد من الله علينا، إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين. قالوا: تالله لقد آثرك الله علينا، وإن كنا لخاطئين. قال: لا تثريب عليكم اليوم، يغفر الله لكم، وهو أرحم الراحمين. اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا، وأتوني بأهلكم أجمعين ..
وفي النهاية يجيء ذلك الموقف الجليل الرائع.. موقف اللقاء الجامع
ويوسف في أوج سلطانه وأوج تأويل رؤياه وتحقق أحلامه.. وإذا به ينسلخ من هذا كله وينتحي جانبا ينفرد بربه، ويناجيه خالصا له، وذلك كله مطروح وراءه:
رب قد آتيتني من الملك، وعلمتني من تأويل الأحاديث. فاطر السماوات والأرض. أنت وليي في الدنيا والآخرة. توفني مسلما وألحقني بالصالحين ..
إنها شخصية موحدة متكاملة، بكل واقعيتها الممثلة لمقوماتها الواقعية في نشأتها وبيئتها.
ويعقوب.. الوالد المحب الملهوف، والنبي المطمئن الموصول، وهو يواجه بالاستبشار والخوف معا تلك الرؤيا الواعدة التي رآها يوسف; وهو يرى فيها بشائر مستقبل مرموق، بينما هو يتوجس خيفة من الشيطان وفعله في نفوس بنيه. فتتجلى شخصيته بواقعيتها الكاملة في كل جوانبها:
إذ قال يوسف لأبيه: يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين. قال: [ ص: 1958 ] يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا. إن الشيطان للإنسان عدو مبين. وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث، ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق، إن ربك عليم حكيم .
ثم نجد هذه الشخصية كذلك بكل واقعيتها البشرية النبوية، وبنوه يراودونه عن
يوسف ثم وهم يفاجئونه بالفجيعة:
قالوا: يا أبانا ما لك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون. أرسله معنا غدا يرتع ويلعب، وإنا له لحافظون. قال: إني ليحزنني أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون. قالوا: لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذا لخاسرون. فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابت الجب، وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون. وجاءوا أباهم عشاء يبكون، قالوا: يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب، وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين. وجاءوا على قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون ..
ثم نلتقي بهذه الشخصية - بكل واقعيتها تلك - وبنوه يراودونه مرة أخرى على السلوة الباقية له.. أخي
يوسف .. وقد طلبه منهم عزيز مصر - يوسف - الذي لا يعرفونه! في مقابل أن يعطيهم كيلا يقتاتون به في السنوات العجاف!
فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا: يا أبانا منع منا الكيل، فأرسل معنا أخانا نكتل وإنا له لحافظون: قال: هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل؟ فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين. ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم، قالوا: يا أبانا ما نبغي، هذه بضاعتنا ردت إلينا، ونمير أهلنا ونحفظ أخانا، ونزداد كيل بعير، ذلك كيل يسير. قال: لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقا من الله: لتأتنني به إلا أن يحاط بكم. فلما آتوه موثقهم قال: الله على ما نقول وكيل.. وقال: يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة، وما أغني عنكم من الله من شيء، إن الحكم إلا لله، عليه توكلت، وعليه فليتوكل المتوكلون. ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغني عنهم من الله من شيء، إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها، وإنه لذو علم لما علمناه، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ..
ثم نلتقي به في فجيعته الثانية.. والدا ملهوفا ونبيا موصولا.. ذلك بعد أن دبر الله
ليوسف كيف يأخذ أخاه. فيتخلف أحد أبناء
يعقوب - صاحب الشخصية الخاصة فيهم، متوافيا مع سماته التي صاحبت مواقفه كلها في القصة، مشفقا أن يقابل أباه بعد الموثق الذي آتاه إياه. إلا أن يأذن له أبوه أو يحكم له الله - :
فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا، قال كبيرهم: ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله، ومن قبل ما فرطتم في يوسف؟ فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي، أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين. ارجعوا إلى أبيكم فقولوا: يا أبانا إن ابنك سرق! وما شهدنا إلا بما علمنا، وما كنا للغيب حافظين . واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها، وإنا لصادقون. قال: بل سولت لكم أنفسكم أمرا، فصبر جميل، عسى الله أن يأتيني بهم جميعا إنه هو العليم الحكيم. وتولى عنهم وقال: يا أسفى على يوسف! وابيضت عيناه من الحزن فهو. كظيم. قالوا: تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين! قال: إنما أشكو بثي وحزني إلى الله، وأعلم من الله ما لا تعلمون. يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه، ولا تيأسوا من روح الله. إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ..
[ ص: 1959 ] وفي آخر مواقف المحنة الطويلة للشيخ المبتلى نجد ذات الملامح وذات الواقعية. وهو يشم ريح
يوسف في قميصه، ويواجه غيظ بنيه وتبكيتهم فلا يشك في صدق ظنه بربه:
ولما فصلت العير قال أبوهم: إني لأجد ريح يوسف، لولا أن تفندون. قالوا: تالله إنك لفي ضلالك القديم. فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا. قال: ألم أقل لكم: إني أعلم من الله ما لا تعلمون؟ قالوا: يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين. قال: سوف أستغفر لكم ربي، إنه هو الغفور الرحيم
إنها الشخصية الموحدة الخصائص والملامح، الواقعية المشاعر والتصرفات، الممثلة لكل واقعية ذاتها وظروفها وبيئتها بلا تزوير ولا نقص ولا تحريف!