والآن نحن في مجلس الملك، وقد رأى رؤيا أهمته، فهو يطلب تأويلها من رجال الحاشية ومن الكهنة والمتصلين بالغيبيات:
وقال الملك: إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف ، وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات. [ ص: 1993 ] يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي، إن كنتم للرؤيا تعبرون . قالوا: أضغاث أحلام، وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين ..
طلب الملك تأويل رؤياه. فعجز الملأ من حاشيته و من الكهنة عن تأويلها، أو أحسوا أنها تشير إلى سوء لم يريدوا أن يواجهوا به الملك على طريقة رجال الحاشية في إظهار كل ما يسر الحكام وإخفاء ما يزعجهم. وصرف الحديث عنه ! فقالوا: إنها
أضغاث أحلام أي أخلاط أحلام مضطربة وليست رؤيا كاملة تحتمل التأويل.
وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين .. إذا كانت أضغاثا مختلطة لا تشير إلى شيء!
والآن لقد مرت بنا رؤى ثلاث: رؤيا
يوسف ، ورؤيا صاحبي السجن، ورؤيا الملك. وطلب تأويلها في كل مرة، والاهتمام بها يعطينا صورة من جو العصر كله في مصر وخارج مصر - كما أسلفنا - وأن الهبة اللدنية التي وهبها
يوسف كانت من روح العصر وجوه، على ما نعهد في معجزات الأنبياء، فهل كانت هذه هي معجزة
يوسف ؟ ولكن هذا بحث ليس مكانه هذه الظلال. فنكمل حديث رؤيا الملك الآن!
هنا تذكر أحد صاحبيه في السجن، الذي نجا منهما وأنساه الشيطان ذكر ربه، وذكر يوسف في دوامة القصر والحاشية والعصر والخمر والشراب.. هنا تذكر الرجل الذي أول له رؤياه ورؤيا صاحبه، فتحقق التأويل:
وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة : أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون ! أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون.. ويسدل الستار هنا، ليرفع في السجن على
يوسف وصاحبه هذا يستفتيه:
يوسف - أيها الصديق - أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف: وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات، لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون ..
والساقي يلقب يوسف بالصديق، أي الصادق الكثير الصدق. وهذا ما جربه في شأنه من قبل..
أفتنا في سبع بقرات سمان ... ..
ونقل ألفاظ الملك التي قالها كاملة، لأنه يطلب تأويلها، فكان دقيقا في نقلها، وأثبتها السياق مرة أخرى ليبين هذه الدقة أولا، وليجيء تأويلها ملاصقا في السياق لذكرها.
ولكن كلام
يوسف هنا ليس هو التأويل المباشر المجرد، إنما هو التأويل والنصح بمواجهة عواقبه. وهذا أكمل:
قال: تزرعون سبع سنين دأبا ..
أي.. متوالية متتابعة. وهي السنوات السبع المخصبة المرموز لها بالبقرات السمان.
فما حصدتم فذروه في سنبله ..
أي فاتركوه في سنابله لأن هذا يحفظه من السوس والمؤثرات الجوية.
إلا قليلا مما تأكلون ..
[ ص: 1994 ] فجردوه من سنابله، واحتفظوا بالبقية للسنوات الأخرى المجدبة المرموز لها بالبقرات العجاف.
ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد ..
لا زرع فيهن.
يأكلن ما قدمتم لهن ..
وكأن هذه السنوات هي التي تأكل بذاتها كل ما يقدم لها لشدة نهمها وجوعها !
إلا قليلا مما تحصنون ..
أي إلا قليلا مما تحفظونه وتصونونه من التهامها !
ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون ..
أي ثم تنقضي هذه السنوات الشداد العجاف المجدبة، التي تأتي على ما خزنتم وادخرتم من سنوات الخصب. تنقضي ويعقبها عام رخاء، يغاث الناس فيه بالزرع والماء، وتنمو كرومهم فيعصرونها خمرا، وسمسمهم وخسهم وزيتونهم فيعصرونه زيتا..
وهنا نلحظ أن هذا العام الرخاء لا يقابله رمز في رؤيا الملك; فهو إذن من العلم اللدني الذي علمه الله
يوسف . فبشر به الساقي ليبشر الملك والناس بالخلاص من الجدب والجوع بعام رخي رغيد.