إن الحركة هي العنصر المكون لذلك المجتمع. فالمجتمع المسلم وليد الحركة بالعقيدة الإسلامية..
أولا: تجيء العقيدة من مصدرها الإلهي متمثلة في تبليغ الرسول وعمله - على عهد النبوات - أو متمثلة في دعوة الداعية بما جاء من عند الله وما بلغه رسوله - على مدار الزمان بعد ذلك - فيستجيب للدعوة ناس; يتعرضون للأذى والفتنة من الجاهلية الحاكمة السائدة في أرض الدعوة. فمنهم من يفتن ويرتد، ومنهم من يصدق ما عاهد الله عليه فيقضي نحبه شهيدا ومنهم من ينتظر حتى يحكم الله بينه وبين قومه بالحق..
هؤلاء يفتح الله عليهم، ويجعل منهم ستارا لقدره، ويمكن لهم في الأرض تحقيقا لوعده بنصر من ينصره، والتمكين في الأرض له، ليقيم مملكة الله في الأرض - أي لينفذ حكم الله في الأرض - ليس له من هذا النصر والتمكين شيء; إنما هو نصر لدين الله، وتمكين لربوبية الله في العباد.
وهؤلاء لا يقفون بهذا الدين عند حدود أرض معينة; ولا عند حدود جنس معين; ولا عند حدود قوم أو لون أو لغة أو مقوم واحد من تلك المقومات البشرية الأرضية الهزيلة السخيفة ! إنما ينطلقون بهذه العقيدة الربانية ليحرروا "الإنسان" .. كل الإنسان: في "الأرض".. كل الأرض.. من العبودية لغير الله; وليرفعوه عن العبودية للطواغيت أيا كانت هذه الطواغيت.
[ ص: 2008 ] وفي أثناء الحركة بهذا الدين - وقد لاحظنا أنها لا تتوقف عند إقامة الدولة المسلمة في بقعة من الأرض، ولا تقف عند حدود أرض أو جنس أو قوم - تتميز أقدار الناس، وتتحدد مقاماتهم في المجتمع، ويقوم هذا التحديد وذلك التميز على موازين وقيم إيمانية، الجميع يتعارفون عليها، من البلاء في الجهاد، والتقوى والصلاح والعبادة والأخلاق والقدرة والكفاءة.. وكلها قيم يحكم عليها الواقع، وتبرزها الحركة، ويعرفها المجتمع ويعرف المتسمين بها.. ومن ثم لا يحتاج أصحابها أن يزكوا أنفسهم، ولا أن يطلبوا الإمارة أو مراكز الشورى والتوجيه على أساس هذه التزكية..
وفي المجتمع المسلم الذي نشأ هذه النشأة، وقام تركيبه العضوي على أساس التميز في أثناء الحركة بتلك القيم الإيمانية - كما حدث في المجتمع المسلم من تميز السابقين من
المهاجرين ثم
الأنصار وأهل بدر ، وأهل بيعة الرضوان ، ومن أنفق من قبل الفتح وقاتل - ثم ظل يتميز الناس فيه بحسن البلاء في الإسلام.. في هذا المجتمع لا يبخس الناس بعضهم بعضا، ولا ينكر الناس فضائل المتميزين - مهما غلب الضعف البشري أصحابه أحيانا فغلبتهم الأطماع - وعندئذ تنتفي الحاجة - من جانب آخر - إلى أن يزكي المتميزون أنفسهم ويطلبوا الإمارة أو مراكز الشورى والتوجيه على أساس هذه التزكية..
ولقد يخيل للناس الآن أن هذه خاصية متفردة للمجتمع المسلم الأول بسبب نشأته التاريخية! ولكنهم ينسون أن أي مجتمع مسلم لن يوجد إلا بمثل هذه النشأة.. لن يوجد اليوم أو غدا، إلا أن تقوم دعوة لإدخال الناس في هذا الدين من جديد ، وإخراجهم من الجاهلية التي صاروا إليها.. وهذه نقطة البدء.. ثم تعقبها الفتنة والابتلاء - كما حدث أول مرة - فأما ناس فيفتنون ويرتدون! وأما ناس فيصدقون ما عاهدوا الله عليه فيقضون نحبهم ويموتون شهداء. وأما ناس فيصبرون ويصابرون ويصرون على الإسلام، ويكرهون أن يعودوا إلى الجاهلية كما يكره أحدهم أن يلقى في النار; حتى يحكم الله بينهم وبين قومهم بالحق، ويمكن لهم في الأرض - كما مكن للمسلمين أول مرة - فيقوم في أرض من أرض الله نظام إسلامي.. ويومئذ تكون الحركة من نقطة البدء إلى قيام النظام الإسلامي قد ميزت المجاهدين المتحركين إلى طبقات إيمانية، وفق الموازين والقيم الإيمانية.. ويومئذ لن يحتاج هؤلاء إلى ترشيح أنفسهم وتزكيتها، لأن مجتمعهم الذي جاهد كله معهم يعرفهم ويزكيهم ويرشحهم!
ولقد يقال بعد هذا: ولكن هذا يكون في المرحلة الأولى. فإذا استقر المجتمع بعد ذلك؟ وهذا سؤال من لا يعرف طبيعة هذا الدين! إن هذا الدين يتحرك دائما ولا يكف عن الحركة.. يتحرك لتحرير "الإنسان".
كل الإنسان.. في "الأرض" .. كل الأرض.. من العبودية لغير الله; وليرفعه عن العبودية للطواغيت; بلا حدود من الأرض أو الجنس أو القوم أو أي مقوم من المقومات البشرية الأرضية الهزيلة السخيفة !
وإذن فستظل الحركة - التي هي طبيعة هذا الدين الأصيلة - تميز أصحاب البلاء وأصحاب الكفايات والمواهب; ولا تقف أبدا ليركد هذا المجتمع ويأسن - إلا أن ينحرف عن الإسلام - وسيظل الحكم الفقهي - الخاص بتحريم تزكية النفس وطلب العمل على أساس هذه التزكية - قائما وعاملا في محيطه الملائم.. ذات المحيط الذي نشأ أول مرة وعمل فيه.
ثم يقال: ولكن المجتمع حين يتسع لا يعرف الناس بعضهم بعضا; ويصبح الأكفاء الموهوبون في حاجة إلى الإعلان عن أنفسهم وتزكيتها وطلب العمل على أساس هذه التزكية!
وهذا القول كذلك وهم ناشئ من التأثر بواقع المجتمعات الجاهلية الحاضرة .. إن المجتمع المسلم يكون
[ ص: 2009 ] أهل كل محلة فيه متعارفين متواصلين متكافلين - كما هي طبيعة التربية والتكوين والتوجيه، والالتزام في المجتمع المسلم - ومن ثم يكون أهل كل محلة عارفين بأصحاب الكفايات والمواهب فيهم; موزونة هذه الكفايات والمواهب بموازين وقيم إيمانية; فلا يعز عليهم أن ينتدبوا هم من بينهم أهل البلاء والتقوى والكفاية.. سواء لمجلس الشورى أو للشؤون المحلية. أما الإمارات العامة فيختار لها الإمام - الذي اختارته الأمة بعد ترشيح أهل الحل والعقد - أو أهل الشورى - له.. يختار لها من بين مجموعة الرجال المختارين الذين ميزتهم الحركة . والحركة دائبة كما قلنا في المجتمع المسلم، والجهاد ماض إلى يوم القيامة.
إن الذين يفكرون في النظام الإسلامي اليوم وتشكيلاته - أو يكتبون - يدخلون في متاهة ! ذلك أنهم يحاولون تطبيق قواعد النظام الإسلامي وأحكامه الفقهية المدونة في فراغ ! يحاولون تطبيقها في هذا المجتمع الجاهلي القائم، بتركيبه العضوي الحاضر! وهذا المجتمع الجاهلي الحاضر يعتبر - بالقياس إلى طبيعة النظام الإسلامي وأحكامه الفقهية - فراغا لا يمكن أن يقوم فيه هذا النظام ولا أن تطبق فيه هذه الأحكام.. إن تركيبه العضوي مناقض تماما للتركيب العضوي للمجتمع المسلم. فالمجتمع المسلم - كما قلنا - يقوم تركيبه العضوي على أساس ترتيب الشخصيات والفئات كما ترتبها الحركة لإقرار هذا النظام في عالم الواقع، ولمجاهدة الجاهلية لإخراج الناس منها إلى الإسلام. مع تحمل ضغوط الجاهلية وما توجهه من فتنة وإيذاء وحرب على هذه الحركة، والصبر على الابتلاء وحسن البلاء من نقطة البدء إلى نقطة الفصل في نهاية المطاف. أما المجتمع الجاهلي الحاضر فهو مجتمع راكد، قائم على قيم لا علاقة لها بالإسلام، ولا بالقيم الإيمانية.. وهو - من ثم - يعد بالقياس إلى النظام الإسلامي وأحكامه الفقهية فراغا لا يعيش فيه هذا النظام ولا تقوم فيه هذه الأحكام !
هؤلاء الكاتبون الباحثون عن حل لتطبيق قواعد النظام وتشكيلاته وأحكامه الفقهية يحيرهم - أول ما يحيرهم - طريقة اختيار أهل الحل والعقد - أو أهل الشورى - من غير ترشيح من أنفسهم ولا تزكية ! كيف يمكن هذا في مثل هذه المجتمعات التي نعيش فيها والناس لا يعرف بعضهم بعضا ولا يزنون كذلك بموازين الكفاية والنزاهة والأمانة ! كذلك تحيرهم طريقة اختيار الإمام؟ أيكون الاختيار من عامة الشعب أم يكون من ترشيح أهل الحل والعقد؟ وإذا كان الإمام سيختار أهل الحل والعقد - متابعة لعدم تزكيتهم لأنفسهم أو ترشيحها - فكيف يعودون هم فيختارون الإمام؟ ألا يؤثر هذا في ميزانهم ؟ ثم إذا كانوا هم الذين سيعودون فيرشحون الإمام؟ ألا تكون لهم ولاية عليه وهو الإمام الأعظم؟ ثم ألا يجعله هذا يختار أشخاصا يضمن ولاءهم له ، ويكون هذا هو العنصر الأول في اعتباره ؟...
وأسئلة أخرى كثيرة لا يجدون لها جوابا في هذه المتاهة !
أنا أعرف نقطة البدء في هذه المتاهة.. إنها هي افتراض أن هذا المجتمع الجاهلي الذي نعيش فيه مجتمع مسلم وأن قواعد النظام الإسلامي وأحكامه الفقهية سيجاء بها لتطبق على هذا المجتمع الجاهلي بتركيبه العضوي الحاضر، وبقيمه وأخلاقه الحاضرة !
هذه نقطة البدء في المتاهة.. ومتى بدأ منها الباحث فإنه يبدأ في فراغ، ويوغل في هذا الفراغ، حتى يبعد في التيه، وحتى يأخذه الدوار !
إن هذا المجتمع الجاهلي الذي نعيش فيه ليس هو المجتمع المسلم، ومن ثم لن يطبق فيه النظام الإسلامي ولن تطبق فيه الأحكام الفقهية الخاصة بهذا النظام.. لن تطبق لاستحالة هذا التطبيق الناشئة من أن قواعد النظام
[ ص: 2010 ] الإسلامي وأحكامه الفقهية لا يمكن أن تتحرك في فراغ ; لأنها بطبيعتها لم تنشأ في فراغ ، ولم تتحرك في فراغ كذلك!
إن المجتمع الإسلامي ينشأ بتركيب عضوي آخر غير التركيب العضوي للمجتمع الجاهلي.. ينشأ من أشخاص ومجموعات وفئات جاهدت - في وجه الجاهلية - لإنشائه; وتحددت أقدارها وتميزت مقاماتها في ثنايا تلك الحركة.
إنه مجتمع جديد.. ومجتمع وليد.. ومجتمع متحرك دائما في طريقه لتحرير "الإنسان" ،.. كل الإنسان.. في "الأرض" .. كل الأرض.. من العبودية لغيرالله، ولرفع هذا الإنسان عن ذلة العبودية للطواغيت.. أيا كانت هذه الطواغيت..
ومثل قضية التزكية وطلب الإمارة، واختيار الإمام، واختيار أهل الشورى ... وما إليها ... قضايا كثيرة تثار، ويطرقها الباحثون في الإسلام.. في الفراغ.. في هذا المجتمع الجاهلي الذي نعيش فيه.. بتركيبه العضوي المختلف تماما عن التركيب العضوي للمجتمع المسلم.. وبقيمه وموازينه واعتباراته وأخلاقه ومشاعره وتصوراته المختلفة تماما عن قيم المجتمع المسلم وموازينه واعتباراته وأخلاقه ومشاعره وتصوراته..
أعمال البنوك وأساسها الربوي.. شركات التأمين وقاعدتها الربوية.. تحديد النسل وما أدري ماذا؟! إلى آخر هذه "المشكلات" التي يشغل "الباحثون" بها أنفسهم أو يجيبون فيها عن استفتاءات توجه إليهم..
إنهم جميعا - مع الأسف - يبدءون من نقطة البدء في المتاهة! يبدءون من افتراض أن قواعد النظام الإسلامي وأحكامه سيجاء بها لتطبق على هذه المجتمعات الجاهلية الحاضرة بتركيبها العضوي الحاضر; فتنتقل هذه المجتمعات إذن - متى طبقت عليها أحكام الإسلام - إلى الإسلام!
وهي تصورات مضحكة لولا أنها محزنة!
إن الفقه الإسلامي بكل أحكامه ليس هو الذي أنشأ المجتمع المسلم. إنما المجتمع المسلم بحركته - في مواجهة الجاهلية ابتداء - ثم بحركته في مواجهة حاجة الحياة الحقيقية ثانيا، هو الذي أنشأ الفقه الإسلامي مستمدا من أصول الشريعة الكلية.. والعكس لا يمكن أن يكون أصلا!
إن الفقه الإسلامي لا ينشأ في فراغ، ولا يعيش في فراغ كذلك.. لا ينشأ في الأدمغة والأوراق; إنما ينشأ في واقع الحياة. وليست أية حياة. إنما هي حياة المجتمع المسلم على وجه التحديد.. ومن ثم لا بد أن يوجد المجتمع المسلم أولا بتركيبه العضوي الطبيعي; فيكون هو الوسط الذي ينشأ فيه الفقه الإسلامي ويطبق.. وعندئذ تختلف الأمور جدا..
وساعتها قد يحتاج ذلك المجتمع الخاص - بعد نشأته في مواجهة الجاهلية وتحركه في مواجهة الحياة - إلى البنوك وشركات التأمين وتحديد النسل ... الخ وقد لا يحتاج! ذلك أننا لا نملك سلفا أن نقدر أصل حاجته، ولا حجمها، ولا شكلها، حتى نشرع لها سلفا! كما أن ما لدينا من أحكام هذا الدين لا يطابق حاجات المجتمعات الجاهلية ولا يلبيها.. ذلك أن هذا الدين لا يعترف ابتداء بشرعية وجود هذه المجتمعات الجاهلية ولا يرضى ببقائها. ومن ثم فهو لا يعني نفسه بالاعتراف بحاجاتها الناشئة من جاهليتها ولا بتلبيتها كذلك!
إن المحنة الحقيقية لهؤلاء الباحثين أنهم يتصورون أن هذا الواقع الجاهلي هو الأصل، الذي يجب على دين الله أن يطابق نفسه عليه! ولكن الأمر غير ذلك تماما.. إن دين الله هو الأصل الذي يجب على البشرية
[ ص: 2011 ] أن تطابق نفسها عليه; وأن تحور من واقعها الجاهلي وتغير حتى تتم هذه المطابقة.. ولكن هذا التحور وهذا التغير لا يتمان عادة إلا عن طريق واحد.. هو التحرك - في وجه الجاهلية - لتحقيق ألوهية الله في الأرض وربوبيته وحده للعباد، وتحرير الناس من العبودية للطاغوت، بتحكيم شريعة الله وحدها في حياتهم.. وهذه الحركة لا بد أن تواجه الفتنة والأذى والابتلاء. فيفتن من يفتن ويرتد من يرتد، ويصدق الله من يصدقه فيقضي نحبه ويستشهد، ويصبر من يصبر ويمضي في حركته حتى يحكم الله بينه وبين قومه بالحق، وحتى يمكن الله له في الأرض، وعندئذ فقط يقوم النظام الإسلامي، وقد انطبع المتحركون لتحقيقه بطابعه، وتميزوا بقيمه.. وعندئذ تكون لحياتهم مطالب وحاجات تختلف في طبيعتها وفي طرق تلبيتها عن حاجات المجتمعات الجاهلية ومطالبها وطرق تلبيتها.. وعلى ضوء واقع المجتمع المسلم يومذاك تستنبط الأحكام; وينشأ فقه إسلامي حي متحرك - لا في فراغ - ولكن في وسط واقعي محدد المطالب والحاجات والمشكلات..
ومن ذا الذي يدرينا اليوم مثلا أن يكون الناس في مجتمع مسلم تجبى فيه الزكاة وتنفق في مصارفها، ويقوم فيه التراحم والتكافل بين أهل كل محلة، ثم بين كل أفراد الأمة، وتقوم حياة الناس فيه على غير السرف والترف والمخيلة والتكاثر.. إلى آخر مقومات الحياة الإسلامية.. من يدرينا أن مجتمعا كهذا سيكون في حاجة إلى شركات تأمين أصلا؟! وعنده كل تلك التأمينات والضمانات مع تلك الملابسات والقيم والتصورات؟! وإذا احتاج إلى نوع من التأمين فمن يدرينا أنه سيكون هو هذا النوع المعروف في المجتمع الجاهلي، المنبثق من حاجات هذا المجتمع الجاهلي وملابساته وقيمه وتصوراته؟!
وكذلك من يدرينا أن المجتمع المسلم المتحرك المجاهد سيكون في حاجة إلى تحديد النسل مثلا؟ .. وهكذا..
وإذا كنا لا نملك افتراض أصل حاجات المجتمع حين يكون مسلما ولا حجم هذه الحاجات أو شكلها، بسبب اختلاف تركيبه العضوي عن تركيب المجتمع الجاهلي، واختلاف تصوراته ومشاعره وقيمه وموازينه.. فما هذا الضنى في محاولة تحوير وتطوير وتغيير الأحكام المدونة لكي تطابق حاجات هي في ضمير الغيب، شأنها شأن وجود المجتمع المسلم ذاته!
إن نقطة البدء في المتاهة - كما قلنا - هي افتراض أن هذه المجتمعات القائمة هي المجتمعات الإسلامية; وأنه سيجاء بأحكام الفقه الإسلامي من الأوراق لتطبق عليها، وهي بهذا التركيب العضوي ذاته، وبالتصورات والمشاعر والقيم والموازين ذاتها.
كما أن أصل المحنة هو الشعور بأن واقع هذه المجتمعات الجاهلية وتركيبها الحاضر هو الأصل الذي يجب على دين الله أن يطابق نفسه عليه. وأن يحور ويطور ويغير في أحكامه ليلاحق حاجات هذه المجتمعات ومشكلاتها.. حاجاتها ومشكلاتها المنبثقة أصلا من مخالفتها للإسلام ومن خروج حياتها جملة من إطاره!
ونحسب أنه قد آن للإسلام أن يستعلي في نفوس دعاته، فلا يجعلوه مجرد خادم للأوضاع الجاهلية، والمجتمعات الجاهلية، والحاجات الجاهلية. وأن يقولوا للناس - وللذين يستفتونهم بوجه خاص - تعالوا أنتم أولا إلى الإسلام، وأعلنوا خضوعكم سلفا لأحكامه، أو بعبارة أخرى تعالوا أنتم أولا فادخلوا في دين الله، وأعلنوا عبوديتكم لله وحده، واشهدوا أن لا إله إلا الله بمدلولها الذي لا يقوم الإيمان والإسلام إلا به. وهو إفراد الله بألوهيته في الأرض كإفراده بالألوهية في السماء; وتقرير ربوبيته - أي حاكميته وسلطانه - وحده في حياة الناس بجملتها. وتنحية ربوبية العباد للعباد، بتنحية حاكمية العباد للعباد، وتشريع العباد للعباد.
[ ص: 2012 ] وحين يستجيب الناس - أو الجماعة منهم - لهذا القول، فإن المجتمع المسلم يكون قد بدأ أولى خطواته في الوجود. وهذا المجتمع يكون حينئذ هو الوسط الواقعي الحي الذي ينشأ فيه الفقه الإسلامي الحي وينمو، لمواجهة حاجات ذلك المجتمع المستسلم لشريعة الله فعلا..
فأما قبل قيام هذا المجتمع فالعمل في حقل الفقه والأحكام التنظيمية هو مجرد خداع للنفس، باستنبات البذور في الهواء، ولن ينبت الفقه الإسلامي في الفراغ، كما أنه لن تنبت البذور في الهواء!
إن العمل في الحقل "الفكري للفقه الإسلامي عمل مريح لأنه لا خطر فيه ولكنه ليس عملا للإسلام; ولا هو من منهج هذا الدين ولا من طبيعته وخير للذين ينشدون الراحة والسلامة أن يشتغلوا بالأدب وبالفن أو بالتجارة أما الاشتغال بالفقه الآن على ذلك النحو بوصفه عملا للإسلام في هذه الفترة فأحسب - والله أعلم - أنه مضيعة للعمر وللأجر أيضا
إن دين الله يأبى أن يكون مجرد مطية ذلول، ومجرد خادم مطيع، لتلبية هذا المجتمع الجاهلي الآبق منه، المتنكر له، الشارد عنه.. الذي يسخر منه الحين بعد الحين باستفتائه في مشكلاته وحاجاته; وهو غير خاضع لشريعته وسلطانه
إن فقه هذا الدين وأحكامه لا تنشأ في فراغ، ولا تعمل في فراغ، وإن المجتمع المسلم الخاضع لسلطان الله ابتداء هو الذي صنع هذا الفقه وليس الفقه هو الذي صنع ذلك المجتمع ولن تنعكس الآية أبدا.
إن خطوات النشأة الإسلامية ومراحلها هي دائما واحدة ، والانتقال من الجاهلية إلى الإسلام لن يكون يوما ما سهلا ولا يسيرا. ولن يبدأ أبدا من صياغة الأحكام الفقهية في الفراغ، لتكون معدة جاهزة يوم يقوم المجتمع الإسلامي والنظام الإسلامي. ولن يكون وجود هذه الأحكام المفصلة على "الجاهز" والناشئة في الفراغ هي نقطة البدء في التحول من الجاهلية إلى الإسلام. وليس الذي ينقص هذه المجتمعات الجاهلية لكي تتحول إلى الإسلام هو الأحكام الفقهية "الجاهزة"! وليست الصعوبة في ذلك التحول ناشئة عن قصور أحكام الفقه الإسلامي الحاضرة عن ملاحقة حاجات المجتمعات المتطورة.. إلى آخر ما يخادع به بعضهم، وينخدع به بعضهم الآخر!
كلا! إن الذي يحول دون تحول هذه المجتمعات الجاهلية إلى النظام الإسلامي هو وجود الطواغيت التي تأبى أن تكون الحاكمية لله; فتأبى أن تكون الربوبية في حياة البشر والألوهية في الأرض لله وحده. وتخرج بذلك من الإسلام خروجا كاملا. يعد الحكم عليه من المعلوم من الدين بالضرورة.. ثم هو بعد ذلك وجود جماهير من البشر تعبد أولئك الطواغيت من دون الله - أي تدين لها وتخضع وتتبع - فتجعلها بذلك أربابا متفرقة معبودة مطاعة. وتخرج هذه الجماهير بهذه العبادة من التوحيد إلى الشرك.. فهذا هو أخص مدلولات الشرك في نظر الإسلام..
وبهذا وذلك تقوم الجاهلية نظاما في الأرض; وتعتمد على ركائز من ضلال التصور بقدر ما تعتمد على ركائز من القوة المادية:
وصياغة أحكام الفقه لا تواجه هذه الجاهلية - إذن - بوسائل مكافئة. إنما الذي يواجهها دعوة إلى الدخول في الإسلام مرة أخرى; وحركة تواجه الجاهلية بكل ركائزها; ثم يكون ما يكون من شأن كل دعوة للإسلام في وجه الجاهلية. ثم يحكم الله بين من يسلمون لله وبين قومهم بالحق.. وعندئذ فقط يجيء دور أحكام الفقه، التي تنشأ نشأة طبيعية في هذا الوسط الواقعي الحي، وتواجه حاجات الحياة الواقعية المتجددة
[ ص: 2013 ] في هذا المجتمع الوليد، وفق حجم هذه الحاجات يومئذ وشكلها وملابساتها، وهي أمور كلها في ضمير الغيب - كما أسلفنا - ولا يمكن التكهن بها سلفا، ولا يمكن الاشتغال بها من اليوم على سبيل الجد المناسب لطبيعة هذا الدين!
إن هذا لا يعني - بحال - أن الأحكام الشرعية المنصوص عليها في الكتاب والسنة ليست قائمة الآن فعلا من الوجهة الشرعية. ولكنه يعني فقط أن المجتمع الذي شرعت هذه الأحكام له، والذي لا تطبق هذه الأحكام إلا فيه - بل الذي لا تعيش هذه الأحكام إلا به - ليس قائما الآن فعلا. ومن ثم يصبح وجودها الفعلي معلقا بقيام ذلك المجتمع.. ويبقى الالتزام بها قائما في عنق كل من يسلم من ذلك المجتمع الجاهلي ويتحرك في وجه الجاهلية لإقامة النظام الإسلامي; ويتعرض لما يتعرض له من يتحرك بهذا الدين في وجه الجاهلية وطواغيتها المتألهة وجماهيرها الخاضعة للطواغيت الراضية بالشرك في الربوبية.
إن إدراك طبيعة النشأة الإسلامية على هذا النحو الذي لا يتغير، كلما قامت الجاهلية وقامت في وجهها محاولة إسلامية.. هو نقطة البدء في العمل الحقيقي البناء لإعادة هذا الدين إلى الوجود الفعلي، بعد أن انقطع هذا الوجود منذ أن حلت شرائع البشر محل شريعة الله في خلال القرنين الأخيرين; وخلا وجه الأرض من الوجود الحقيقي للإسلام; وإن بقيت المآذن والمساجد، والأدعية والشعائر; تخدر مشاعر الباقين على الولاء العاطفي الغامض لهذا الدين; وتوهمهم أنه لا يزال بخير; وهو يمحى من الوجود محوا!
إن المجتمع المسلم وجد قبل أن توجد الشعائر، وقبل أن توجد المساجد.. وجد من يوم أن قيل للناس: اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، فعبدوه. ولم تكن عبادتهم له ممثلة في الشعائر، فالشعائر لم تكن بعد قد فرضت. إنما كانت عبادتهم له ممثلة في الدينونة له وحده - من ناحية المبدإ فلم تكن بعد قد نزلت شرائع! - وحين أصبح لهؤلاء الذين قرروا الدينونة لله وحده سلطان مادي في الأرض تنزلت الشرائع; وحين واجهوا الحاجات الحقيقية لحياتهم هم استنبطت بقية أحكام الفقه، إلى جانب ما ورد بنصه في الكتاب والسنة..
وهذا هو الطريق وحده; وليس هنالك طريق آخر..
وليت هنالك طريقا سهلا عن طريق تحول الجماهير بجملتها إلى الإسلام منذ أول وهلة في الدعوة باللسان، وببيان أحكام الإسلام! ولكن هذه إنما هي "الأماني" ! فالجماهير لا تتحول أبدا من الجاهلية وعبادة الطواغيت، إلى الإسلام وعبادة الله وحده إلا عن ذلك الطريق الطويل البطيء الذي سارت فيه دعوة الإسلام في كل مرة.. والذي يبدؤه فرد، ثم تتبعه طليعة، ثم تتحرك هذه الطليعة في وجه الجاهلية لتعاني ما تعاني حتى يحكم الله بينها وبين قومها بالحق ويمكن لها في الأرض.. ثم.. يدخل الناس في دين الله أفواجا.. ودين الله هو منهجه وشرعه ونظامه الذي لا يرضى من الناس دينا غيره: "
ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه "..
ولعل هذا البيان أن يكشف لنا عن حقيقة الحكم في موقف
يوسف - عليه السلام.
إنه لم يكن يعيش في مجتمع مسلم تنطبق عليه قاعدة عدم تزكية النفس عند الناس وطلب الإمارة على أساس هذه التزكية. كما أنه كان يرى أن الظروف تمكن له من أن يكون حاكما مطاعا لا خادما في وضع جاهلي. وكان الأمر كما توقع فتمكن بسيطرته من الدعوة لدينه ونشره في
مصر في أيام حكمه. وقد توارى العزيز وتوارى الملك تماما..