[ ص: 2038 ] (13)
سورة الرعد مكية
وآياتها ثلاث وأربعون
بسم الله الرحمن الرحيم
كثيرا ما أقف أمام النصوص القرآنية وقفة المتهيب أن أمسها بأسلوبي البشري القاصر; المتحرج أن أشوبها بتعبيري البشري الفاني!
وهذه السورة كلها - شأنها شأن سورة الأنعام من قبلها - من بين هذه النصوص التي لا أكاد أجرؤ على مسها بتفسير أو إيضاح.
ولكن ماذا أصنع ونحن في جيل لا بد أن يقدم له القرآن مع الكثير من الإيضاح لطبيعته ولمنهجه ولموضوعه كذلك ووجهته، بعد ما ابتعد الناس عن الجو الذي تنزل فيه القرآن. وعن الاهتمامات والأهداف التي تنزل لها، وبعد ما انماعت وذبلت في حسهم وتصورهم مدلولاته وأبعادها الحقيقية، وبعد ما انحرفت في حسهم مصطلحاته عن معانيها.. وهم يعيشون في جاهلية كالتي نزل القرآن ليواجهها، بينما هم لا يتحركون بهذا القرآن في مواجهة الجاهلية كما كان الذين تنزل عليهم القرآن أول مرة يتحركون.. وبدون هذه الحركة لم يعد الناس يدركون من أسرار هذا القرآن شيئا. فهذا القرآن لا يدرك أسراره قاعد، ولا يعلم مدلولاته إلا إنسان يؤمن به ويتحرك به في وجه الجاهلية لتحقيق مدلوله ووجهته.
ومع هذا كله يصيبني رهبة ورعشة كلما تصديت للترجمة عن هذا القرآن!
إن إيقاع هذا القرآن المباشر في حسي محال أن أترجمه في ألفاظي وتعبيراتي. ومن ثم أحس دائما بالفجوة الهائلة بين ما أستشعره منه وما أترجمه للناس في هذه "الظلال" ! وإنني لأدرك الآن - بعمق - حقيقة الفارق بين جيلنا الذي نعيش فيه والجيل الذي تلقى مباشرة هذا القرآن. لقد كانوا يخاطبون بهذا القرآن مباشرة; ويتلقون إيقاعه في حسهم، وصوره وظلاله، وإيحاءاته وإيماءاته. وينفعلون بها انفعالا مباشرا، ويستجيبون لها استجابة مباشرة. وهم يتحركون به في وجه الجاهلية لتحقيق مدلولاته في تصورهم. ومن ثم كانوا يحققون في حياة البشر القصيرة تلك الخوارق التي حققوها، بالانقلاب المطلق الذي تم في قلوبهم ومشاعرهم وحياتهم، ثم بالانقلاب الآخر الذي حققوه في الحياة من حولهم، وفي أقدار العالم كله يومذاك، وفي خط سير التاريخ إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
لقد كانوا ينهلون مباشرة من معين هذا القرآن بلا وساطة. ويتأثرون بإيقاعه في حسهم فما لأذن. وينضجون
[ ص: 2039 ] بحرارته وإشعاعه وإيحائه; ويتكيفون بعد ذلك وفق حقائقه وقيمه وتصوراته.
أما نحن اليوم فنتكيف وفق تصورات فلان وفلان عن الكون والحياة والقيم والأوضاع. وفلان وفلان من البشر القاصرين أبناء الفناء!
ثم ننظر نحن إلى ما حققوه في حياتهم من خوارق في ذات أنفسهم وفي الحياة من حولهم، فنحاول تفسيرها وتعليلها بمنطقنا الذي يستمد معاييره من قيم وتصورات ومؤثرات غير قيمهم وتصوراتهم ومؤثراتهم. فنخطئ ولا شك في تقدير البواعث وتعليل الدوافع وتفسير النتائج.. لأنهم هم خلق آخر من صنع هذا القرآن..
وإنني لأهيب بقراء هذه الظلال، ألا تكون هي هدفهم من الكتاب. إنما يقرءونها ليدنوا من القرآن ذاته. ثم ليتناولوه عند ذلك في حقيقته، ويطرحوا عنهم هذه الظلال. وهم لن يتناولوه في حقيقته إلا إذا وقفوا حياتهم كلها على تحقيق مدلولاته وعلى خوض المعركة مع الجاهلية باسمه وتحت رايته.
وبعد فهذا استطراد اندفعت إليه وأمامي هذه السورة - سورة الرعد - وكأنما أقرؤها لأول مرة، وقد قرأتها من قبل وسمعتها ما لا أحصيه من المرات. ولكن هذا القرآن يعطيك بمقدار ما تعطيه; ويتفتح عليك في كل مرة بإشعاعات وإشراقات وإيحاءات وإيقاعات بقدر ما تفتح له نفسك; ويبدو لك في كل مرة جديدا كأنك تتلقاه اللحظة، ولم تقرأه أو تسمعه أو تعالجه من قبل!
وهذه السورة من أعاجيب السور القرآنية التي تأخذ في نفس واحد، وإيقاع واحد ، وجو واحد، وعطر واحد من بدئها إلى نهايتها; والتي تفعم النفس، وتزحم الحس بالصور والظلال والمشاهد والخوالج، والتي تأخذ النفس من أقطارها جميعا، فإذا هي في مهرجان من الصور والمشاعر والإيقاعات والإشراقات; والتي ترتاد بالقلب آفاقا وأكوانا وعوالم وأزمانا، وهو مستيقظ، مبصر، مدرك، شاعر بما يموج حوله من المشاهد والموحيات.
إنها ليست ألفاظا وعبارات، إنما هي مطارق وإيقاعات: صورها. ظلالها. مشاهدها. موسيقاها. لمساتها الوجدانية التي تكمن وتتوزع هنا وهناك!
إن موضوعها الرئيسي ككل موضوع السور المكية كلها على وجه التقريب - هو العقيدة وقضاياها.. هو توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية، وتوحيد الدينونة لله وحده في الدنيا والآخرة جميعا; ومن ثم قضية الوحي وقضية البعث.. وما إليها ...
ولكن هذا الموضوع الواحد ذا القضايا الواحدة، لم يتكرر عرضه قط بطريقة واحدة في كل تلك السور
[ ص: 2040 ] المكية وفي غيرها من السور المدنية. فهو في كل مرة يعرض بطريقة جديدة; وفي ضوء جديد ويتناول عرضه مؤثرات وموحيات ذات إيقاع جديد وإيحاء جديد!
إن هذه القضايا لا تعرض عرضا جدليا باردا يقال في كلمات وينتهي كأية قضية ذهنية باردة إنما تعرض وحولها إطار، هو هذا الكون كله بكل ما فيه من عجائب هي براهين هذه القضايا وآياتها في الإدراك البشري البصير المفتوح. وهذه العجائب لا تنفد; ولا تبلى جدتها. لأنها تنكشف كل يوم عن جديد يصل إليه الإدراك، وما كشف منها من قبل يبدو جديدا في ضوء الجديد الذي يكشف! ومن ثم تبقى تلك القضايا حية في مهرجان العجائب الكونية التي لا تنفد ولا تبلى جدتها!
وهذه السورة تطوف بالقلب البشري في مجالات وآفاق وآماد وأعماق; وتعرض عليه الكون كله في شتى مجالاته الأخاذة: في السماوات المرفوعة بغير عمد. وفي الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى. وفي الليل يغشاه النهار. وفي الأرض الممدودة وما فيها من رواس نابتة وأنهار جارية، وجنات وزرع ونخيل مختلف الأشكال والطعوم والألوان، ينبت في قطع من الأرض متجاورات ويسقى بماء واحد. وفي البرق يخيف ويطمع، والرعد يسبح ويحمد، والملائكة تخاف وتخشع، والصواعق يصيب بها من يشاء، والسحاب الثقال والمطر في الوديان، والزبد الذي يذهب جفاء، ليبقى في الأرض ما ينفع الناس.
وهي تلاحق ذلك القلب أينما توجه: تلاحقه بعلم الله النافذ الكاشف الشامل، يلم بالشارد والوارد، والمستخفي والسارب، ويتعقب كل حي ويحصي عليه الخواطر والخوالج.
والغيب المكنون الذي لا تدركه الظنون، مكشوفا لعلم الله، وما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد.
إنها تقرب لمدارك البشر شيئا من حقيقة القوة الكبرى المحيطة بالكون ظاهره وخافيه، جليله ودقيقه، حاضره وغيبه. وهذا القدر الذي يمكن لمدارك البشر تصوره هائل مخيف، ترجف له القلوب.
وذلك إلى الأمثال المصورة تتمثل في مشاهد حية حافلة بالحركة والانفعال، إلى مشاهد القيامة، وصور النعيم والعذاب، وخلجات الأنفس في هذا وذاك، إلى وقفات على مصارع الغابرين، وتأملات في سير الراحلين، وفي سنة الله التي مشت عليهم فإذا هم داثرون..
هذا عن موضوعات السورة وقضاياها، وعن آفاقها الكونية وآمادها، ووراءها خصائص الأداء الفنية العجيبة.فالإطار العام الذي تعرض فيه قضاياها هو الكون كما أسلفنا ومشاهده وعجائبه في النفس وفي الآفاق.وهذا الإطار ذو جو خاص:
إنه جو المشاهد الطبيعية المتقابلة: من سماء وأرض وشمس وقمر، وليل ونهار وشخوص وظلال، وجبال راسية وأنهار جارية، وزبد ذاهب وماء باق، وقطع من الأرض متجاورات مختلفات، ونخيل صنوان وغير صنوان، ومن ثم تطرد هذه التقابلات في كل المعاني وكل الحركات وكل المصائر في السورة، فيتناسق التقابل المعنوي في السورة مع التقابلات الحسية، وتتسق في الجو العام، ومن ثم يتقابل الاستعلاء في الاستواء على العرش مع تسخير الشمس والقمر.ويتقابل ما تغيض الأرحام مع ما تزداد، ويتقابل من أسر القول مع من جهر به ومن هو مستخف بالليل مع من هو سارب بالنهار، ويتقابل الخوف مع الطمع تجاه البرق.ويتقابل تسبيح الرعد حمدا مع تسبيح الملائكة خوفا، وتتقابل دعوة الحق لله مع دعوة الباطل
[ ص: 2041 ] للشركاء، ويتقابل من يعلم مع من هو أعمى، ويتقابل الذين يفرحون من أهل الكتاب بالقرآن مع من ينكر بعضه، ويتقابل المحو مع الإثبات في الكتاب، وبالإجمال تتقابل المعاني، وتتقابل الحركات، وتتقابل الاتجاهات، تنسيقا للجو العام في الأداء!.
وظاهرة أخرى من ظواهر التناسق في جو الأداء، فلأنه جو الطبيعة من سماء وأرض، وشمس وقمر، ورعد وبرق، وصواعق وأمطار، وحياة وإنبات؛ يجيء الحديث عما تكنه الأرحام من حيوان; ويجيء معها:
وما تغيض الأرحام وما تزداد .. ويتناسق غيض الأرحام وازديادها مع سيل الماء في الأودية ومع الإنبات، وذلك من بدائع التناسق في هذا القرآن.
ذلك طرف من الأسباب التي من أجلها أقف أمام هذه السورة - كما وقفت من قبل كثيرا أمام غيرها - متهيبا أن أمسها بأسلوبي البشري القاصر، متحرجا أن أشوبها بتعبيري البشري الفاني
ولكنها ضرورة الجيل، الجيل الذي لا يعيش في جو هذا القرآن، نستعين عليها بالله، والله المستعان .