ثم يأخذ السياق في جولة جديدة في واد آخر، موصول بذلك الوادي الذي كنا فيه، واد تجتمع فيه مناظر الطبيعة ومشاعر النفس، متداخلة متناسقة في الصورة والظل والإيقاع.وتخيم عليه الرهبة والضراعة والجهد والإشفاق، وتظل النفس فيه في ترقب وحذر، وفي تأثر وانفعال:
هو الذي يريكم البرق. خوفا وطمعا، وينشئ السحاب الثقال. ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته، ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء، وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال، له دعوة الحق، والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه، وما هو ببالغه، وما دعاء الكافرين إلا في ضلال. ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها، وظلالهم، بالغدو والآصال. قل: من رب السماوات والأرض؟ قل: الله. قل: أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا؟ قل: هل يستوي الأعمى والبصير. أم هل تستوي الظلمات والنور؟ أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم؟ قل: الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار ..
والبرق والرعد والسحاب مشاهد معروفة، وكذلك الصواعق التي تصاحبها في بعض الأحيان، وهي بذاتها مشاهد ذات أثر في النفس - سواء عند الذين يعرفون الكثير عن طبيعتها والذين لا يعرفون عن الله شيئا!. والسياق يحشدها هنا; ويضيف إليها الملائكة والظلال والتسبيح والسجود والخوف والطمع، والدعاء الحق والدعاء الذي لا يستجاب، ويضم إليها هيئة أخرى: هيئة ملهوف يتطلب الماء، باسطا كفيه ليبلغه، فاتحا فاه يتلقف منه قطرة.
هذه كلها لا تتجمع في النص اتفاقا أو جزافا، إنما تتجمع لتلقي كلها ظلالها على المشهد، وتلفه في جو من الرهبة والترقب، والخوف والطمع، والضراعة والارتجاف، في سياق تصوير سلطان الله المتفرد بالقهر والنفع والضر، نفيا للشركاء المدعاة، وإرهابا من عقبى الشرك بالله.
هو الذي يريكم البرق، خوفا وطمعا، ..
هو الله الذي يريكم هذه الظاهرة الكونية، فهي ناشئة من طبيعة الكون التي خلقها هو على هذا النحو الخاص، وجعل لها خصائصها وظواهرها، ومنها البرق الذي يريكم إياه وفق ناموسه، فتخافونه لأنه بذاته يهز الأعصاب، ولأنه قد يتحول إلى صاعقة، ولأنه قد يكون نذيرا بسبيل مدمر كما علمتكم تجاربكم، وتطمعون في الخير من ورائه، فقد يعقبه المطر المدرار المحيي للموات، المجري للأنهار.
وينشئ السحاب الثقال ..
[ ص: 2051 ] وهو كذلك الذي ينشئ السحاب - والسحاب اسم جنس واحدته سحابة - الثقال بالماء.فوفق ناموسه في خلقه هذا الكون وتركيبه تتكون السحب، وتهطل الأمطار.ولو لم يجعل خلقه الكون على هذا النحو ما تكونت سحب ولا هطلت أمطار، ومعرفة كيف تتكون السحب، وكيفية هطول الأمطار لا تفقد هذه الظاهرة الكونية شيئا من روعتها، ولا شيئا من دلالتها؛ فهي تتكون وفق تركيب كوني خاص لم يصنعه أحد إلا الله، ووفق ناموس معين يحكم هذا التركيب لم يشترك في سنه أحد من عبيد الله!. كما أن هذا الكون لم يخلق نفسه، ولا هو الذي ركب في ذاته ناموسه!.
والرعد الظاهرة الثالثة لجو المطر والبرق والرعد، هذا الصوت المقرقع المدوي؛ إنه أثر من آثار الناموس الكوني، الذي صنعه الله - أيا كانت طبيعته وأسبابه - فهو رجع صنع الله في هذا الكون، فهو حمد وتسبيح بالقدرة التي صاغت هذا النظام، كما أن كل مصنوع جميل متقن يسبح ويعلن عن حمد الصانع والثناء عليه بما يحمله من آثار صنعته من جمال وإتقان، وقد يكون المدلول المباشر للفظ يسبح هو المقصود فعلا، ويكون الرعد "يسبح" فعلا بحمد الله.فهذا الغيب الذي زواه الله عن البشر لا بد أن يتلقاه البشر بالتصديق والتسليم وهم لا يعلمون من أمر هذا الكون ولا من أمر أنفسهم إلا القليل!
وقد اختار التعبير أن ينص على تسبيح الرعد بالحمد اتباعا لمنهج التصوير القرآني في مثل هذا السياق، وخلع سمات الحياة وحركاتها على مشاهد الكون الصامتة لتشارك في المشهد بحركة من جنس حركة المشهد كله - كما فصلت هذا في كتاب التصوير الفني في القرآن - والمشهد هنا مشهد أحياء في جو طبيعي. وفيه الملائكة تسبح من خيفته، وفيه دعاء لله، ودعاء للشركاء.وفيه باسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه، ففي وسط هذا المشهد الداعي العابد المتحرك اشترك الرعد ككائن حي بصوته في التسبيح والدعاء.
ثم يكمل جو الرهبة والابتهال والبرق والرعد والسحاب الثقال؛ بالصواعق يرسلها فيصيب بها من يشاء.
والصواعق ظاهرة طبيعية ناشئة من تركيب الكون على هذا المنوال; والله يصيب بها أحيانا من غيروا ما بأنفسهم واقتضت حكمته ألا يمهلهم، لعلمه أن لا خير في إمهالهم، فاستحقوا الهلاك..
والعجيب أنه في هول البرق والرعد والصواعق، وفي زحمة تسبيح الرعد بحمده والملائكة من خيفته وزمجرة العواصف بغضبه، في هذا الهول ترتفع أصوات بشرية بالجدل في الله صاحب كل هذه القوى وباعث كل هذه الأصوات التي ترتفع على كل جدال وكل محال:
وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال !.وهكذا تضيع أصواتهم الضعيفة في غمرة هذا الهول المتجاوب بالدعاء والابتهال والرعد والقرقعة والصواعق، الناطقة كلها بوجود الله - الذي يجادلون فيه - وبوحدانيته واتجاه التسبيح والحمد إليه وحده من أضخم مجالي الكون الهائل، ومن الملائكة الذين يسبحون من خيفته (وللخوف إيقاعه في هذا المجال) فأين من هذا كله أصوات الضعاف من البشر وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال؟!.
وهم يجادلون في الله وينسبون إليه شركاء يدعونهم معه، ودعوة الله هي وحدها الحق وما عداها باطل ذاهب، لا ينال صاحبه منه إلا العناء:
له دعوة الحق، والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء، إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه، وما دعاء الكافرين إلا في ضلال ..
والمشهد هنا ناطق متحرك جاهد لاهف، فدعوة واحدة هي الحق، وهي التي تحق، وهي التي تستجاب.
[ ص: 2052 ] إنها دعوة الله والتوجه إليه والاعتماد عليه وطلب عونه ورحمته وهداه، وما عداها باطل وما عداها ضائع وما عداها هباء؛ ألا ترون حال الداعين لغيره من الشركاء؟ انظروا هذا واحد منهم، ملهوف ظمآن يمد ذراعيه ويبسط كفيه، وفمه مفتوح يلهث بالدعاء، يطلب الماء ليبلغ فاه فلا يبلغه، وما هو ببالغه، بعد الجهد واللهفة والعناء، وكذلك دعاء الكافرين بالله الواحد حين يدعون الشركاء:
وما دعاء الكافرين إلا في ضلال .
وفي أي جو لا يبلغ هذا الداعي اللاهف اللاهث قطرة من ماء؟ في جو البرق والرعد والسحاب الثقال، التي تجري هناك بأمر الله الواحد القهار!.
وفي الوقت الذي يتخذ هؤلاء الخائبون آلهة من دون الله، ويتوجهون إليهم بالرجاء والدعاء، إذا كل من في الكون يعنو لله، وكلهم محكومون بإرادته، خاضعون لسنته، مسيرون وفق ناموسه. المؤمن منهم يخضع طاعة وإيمانا، وغير المؤمن يخضع أخذا وإرغاما، فما يملك أحد أن يخرج على إرادة الله، ولا أن يعيش خارج ناموسه الذي سنه للحياة:
ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها، وظلالهم، بالغدو والآصال .
ولأن الجو جو عبادة ودعاء، فإن السياق يعبر عن الخضوع لمشيئة الله بالسجود وهو أقصى رمز للعبودية، ثم يضم إلى شخوص من في السماوات والأرض، ظلالهم كذلك، ظلالهم بالغدو في الصباح، وبالآصال عند انكسار الأشعة وامتداد الظلال، يضم هذه الظلال إلى الشخوص في السجود والخضوع والامتثال، وهي في ذاتها حقيقة، فالظلال تبع للشخوص؛ ثم تلقي هذه الحقيقة ظلها على المشهد، فإذا هو عجب، وإذا السجود مزدوج: شخوص وظلال! وإذا الكون كله بما فيه من شخوص وظلال جاثية خاضعة عن طريق الإيمان أو غير الإيمان سواء، كلها تسجد لله، وأولئك الخائبون يدعون آلهة من دون الله!
وفي جو هذا المشهد العجيب يتوجه إليهم بالأسئلة التهكمية، فما يجدر بالمشرك بالله في مثل هذا الجو إلا التهكم، وما يستحق إلا السخرية والاستهزاء:
قل: من رب السماوات والأرض؟ قل: الله. قل: أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا؟ قل: هل يستوي الأعمى والبصير؟ أم هل تستوي الظلمات والنور؟ أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم؟ قل: الله خالق كل شيء، وهو الواحد القهار ..
سلهم - وكل من في السماوات والأرض مأخوذ بقدرة الله وإرادته - رضي أم كره:
من رب السماوات والأرض؟ .. وهو سؤال لا ليجيبوا عنه، فقد أجاب السياق من قبل، إنما ليسمعوا الجواب ملفوظا وقد رأوه مشهودا:
قل: الله .. ثم سلهم:
أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا؟. .. سلهم للاستنكار فهم بالفعل قد اتخذوا أولئك الأولياء، سلهم والقضية واضحة، والفرق بين الحق والباطل واضح وضوح الفارق بين الأعمى والبصير، وبين الظلمات والنور، وفي ذكر الأعمى والبصير إشارة إليهم وإلى المؤمنين; فالعمى وحده هو الذي يصدهم عن رؤية الحق الواضح الجاهر الذي يحس بأثره كل من في السماوات والأرض.وفي ذكر الظلمات والنور إشارة إلى حالهم وحال المؤمنين، فالظلمات التي تحجب الرؤية هي التي تلفهم وتكفهم عن الإدراك للحق المبين.
أم ترى هؤلاء الشركاء الذين اتخذوهم من دون الله، خلقوا مخلوقات كالتي خلقها الله؛ فتشابهت على القوم هذه المخلوقات وتلك، فلم يدروا أيها من خلق الله وأيها من خلق الشركاء؟ فهم معذورون إذن إن
[ ص: 2053 ] كان الأمر كذلك، في اتخاذ الشركاء، فلهم من صفات الله تلك القدرة على الخلق، التي بها يستحق المعبود العبادة; وبدونها لا تقوم شبهة في عدم استحقاقه!.
وهو التهكم المر على القوم يرون كل شيء من خلق الله، ويرون هذه الآلهة المدعاة لم تخلق شيئا، وما هي بخالقة شيئا، إنما هي مخلوقة.وبعد هذا كله يعبدونها ويدينون لها في غير شبهة، وذلك أسخف وأحط ما تصل العقول إلى دركه من التفكير.
والتعقيب على هذا التهكم اللاذع، حيث لا معارضة ولا جدال، بعد هذا السؤال:
قل: الله خالق كل شيء. وهو الواحد القهار ..
فهي الوحدانية في الخلق، وهي الوحدانية في القهر - أقصى درجات السلطان - وهكذا تحاط قضية الشركاء في مطلعها بسجود من في السماوات والأرض وظلالهم طوعا وكرها لله; وفي ختامها بالقهر الذي يخضع له كل شيء في الأرض أو في السماء، وقد سبقته من قبل بروق ورعود وصواعق وتسبيح وتحميد عن خوف أو طمع، فأين القلب الذي يصمد لهذا الهول، إلا أن يكون أعمى مطموسا يعيش في الظلمات، حتى يأخذه الهلاك؟!.
وقبل أن نغادر هذا الوادي نشير إلى التقابلات الملحوظة في طريقة الأداء، بين
خوفا وطمعا وبين البرق الخاطف والسحاب الثقال - و
الثقال هنا، بعد إشارتها إلى الماء، تشارك في صفة التقابل مع البرق الخفيف الخاطف - وبين تسبيح الرعد بحمده وتسبيح الملائكة من خيفته، وبين دعوة الحق ودعوة الجهد الضائع، وبين السماوات والأرض، وسجود من فيهن طوعا وكرها، وبين الشخوص والظلال، وبين الغدو والآصال، وبين الأعمى والبصير، وبين الظلمات والنور، وبين الخالق القاهر والشركاء الذين لا يخلقون شيئا، ولا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا، وهكذا يمضي السياق على نهجه في دقة ملحوظة ولألاء باهر وتنسيق عجيب،