والقضية الأولى هي قضية الوحي، وقد أثيرت في صدر السورة، وهي تثار هنا مرة أخرى على نسق جديد.
أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى؟ إنما يتذكر أولو الألباب ..
إن المقابل لمن يعلم أن ما أنزل إليك من ربك هو الحق ليس هو من لا يعلم هذا، إنما المقابل هو الأعمى! وهو أسلوب عجيب في لمس القلوب وتجسيم الفروق، وهو الحق في الوقت ذاته لا مبالغة فيه ولا زيادة ولا تحريف، فالعمى وحده هو الذي ينشئ الجهل بهذه الحقيقة الكبرى الواضحة التي لا تخفى إلا على أعمى، والناس إزاء هذه الحقيقة الكبيرة صنفان: مبصرون فهم يعلمون، وعمي فهم لا يعلمون! والعمى عمى البصيرة، وانطماس المدارك، واستغلاق القلوب، وانطفاء قبس المعرفة في الأرواح، وانفصالها عن مصدر الإشعاع.
إنما يتذكر أولو الألباب .
الذين لهم عقول وقلوب مدركة تذكر بالحق فتتذكر، وتنبه إلى دلائله فتتفكر.
وهذه صفات أولي الألباب هؤلاء:
[ ص: 2057 ] الذين يوفون بعهد الله، ولا ينقضون الميثاق ..
وعهد الله مطلق يشمل كل عهد، وميثاق الله مطلق يشمل كل ميثاق، والعهد الأكبر الذي تقوم عليه العهود كلها هو عهد الإيمان; والميثاق الأكبر الذي تتجمع عليه المواثيق كلها هو ميثاق الوفاء بمقتضيات هذا الإيمان.
وعهد الإيمان قديم وجديد، قديم مع الفطرة البشرية المتصلة بناموس الوجود كله; المدركة إدراكا مباشرا لوحدة الإرادة التي صدر عنها الوجود، ووحدة الخالق صاحب الإرادة، وأنه وحده المعبود، وهو الميثاق المأخوذ على الذرية في ظهور بني آدم فيما ارتضيناه لها من تفسير.ثم هو جديد مع الرسل الذين بعثهم الله لا لينشئوا عهد الإيمان ولكن ليجددوه ويذكروا به ويفصلوه، ويبينوا مقتضياته من الدينونة لله وحده والانخلاع من الدينونة لسواه، مع العمل الصالح والسلوك القويم، والتوجه به إلى الله وحده صاحب الميثاق القديم.
ثم تترتب على العهد الإلهي والميثاق الرباني كل العهود والمواثيق مع البشر، سواء مع الرسول أو مع الناس، ذوي قرابة أو أجانب، أفرادا أم جماعات، فالذي يرعى العهد الأول يرعى سائر العهود، لأن رعايتها فريضة; والذي ينهض بتكاليف الميثاق الأول يؤدي كل ما هو مطلوب منه للناس، لأن هذا داخل في تكاليف الميثاق.
فهي القاعدة الضخمة الأولى التي يقوم عليها بنيان الحياة كله، يقررها في كلمات.
والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل، ويخشون ربهم، ويخافون سوء الحساب ..
هكذا في إجمال، فكل ما أمر الله به أن يوصل يصلونه، أي: أنها الطاعة الكاملة والاستقامة الواصلة، والسير على السنة ووفق الناموس بلا انحراف ولا التواء، لهذا ترك الأمر مجملا، ولم يفصل مفردات ما أمر الله به أن يوصل، لأن هذا التفصيل يطول، وهو غير مقصود، إنما المقصود هو تصوير الاستقامة المطلقة التي لا تلتوي، والطاعة المطلقة التي لا تتفلت، والصلة المطلقة التي لا تنقطع، ويلمح عجز الآية إلى الشعور المصاحب في نفوسهم لهذه الطاعة الكاملة:
ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب ..
فهي خشية الله ومخافة العقاب الذي يسوء في يوم لقائه الرهيب، وهم أولو الألباب الذين يتدبرون الحساب قبل يوم الحساب.
والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم ..
والصبر ألوان، وللصبر مقتضيات، صبر على تكاليف الميثاق، من عمل وجهاد ودعوة واجتهاد... إلخ. وصبر على النعماء والبأساء، وقل من يصبر على النعمة فلا يبطر ولا يكفر، وصبر على حماقات الناس وجهالاتهم وهي تضيق الصدور، وصبر وصبر وصبر، كله ابتغاء وجه ربهم، لا تحرجا من أن يقول الناس: جذعوا، ولا تجملا ليقول الناس: صبروا، ولا رجاء في نفع من وراء الصبر، ولا دفعا لضر يأتي به الجزع، ولا لهدف واحد غير ابتغاء وجه الله، والصبر على نعمته وبلواه، صبر التسليم لقضائه والاستسلام لمشيئته والرضا والاقتناع.
وأقاموا الصلاة ..
[ ص: 2058 ] وهي داخلة في الوفاء بعهد الله وميثاقه، ولكنه يبرزها لأنها الركن الأول لهذا الوفاء، ولأنها مظهر التوجه الخالص الكامل لله، ولأنها الصلة الظاهرة بين العبد والرب، الخالصة له ليس فيها من حركة ولا كلمة لسواه.
وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ..
وهي داخلة في وصل ما أمر الله به أن يوصل، وفي الوفاء بتكاليف الميثاق، ولكنه يبرزها لأنها الصلة بين عباد الله، التي تجمعهم في الله وهم في نطاق الحياة، والتي تزكي نفس معطيها من البخل، وتزكي نفس آخذها من الغل; وتجعل الحياة في المجتمع المسلم لائقة بالبشر المتعاونين المتضامنين الكرام على الله، والإنفاق سرا وعلانية، السر حيث تصان الكرامة وتطلب المروءة، وتتحرج النفس من الإعلان، والعلانية حيث تطلب الأسوة، وتنفذ الشريعة، ويطاع القانون، ولكل موضعه في الحياة.
ويدرءون بالحسنة السيئة ..
والمقصود أنهم يقابلون السيئة بالحسنة في التعاملات اليومية لا في دين الله، ولكن التعبير يتجاوز المقدمة إلى النتيجة، فمقابلة السيئة بالحسنة تكسر شره النفوس، وتوجهها إلى الخير; وتطفئ جذوة الشر، وترد نزغ الشيطان، ومن ثم تدرأ السيئة وتدفعها في النهاية؛ فعجل النص بهذه النهاية وصدر بها الآية ترغيبا في مقابلة السيئة بالحسنة وطلبا لنتيجتها المرتقبة..
ثم هي إشارة خفية إلى مقابلة السيئة بالحسنة عندما يكون في هذا درء السيئة ودفعها لا إطماعها واستعلاؤها! فأما حين تحتاج السيئة إلى القمع، ويحتاج الشر إلى الدفع، فلا مكان لمقابلتها بالحسنة، لئلا ينتفش الشر ويتجرأ ويستعلي.
ودرء السيئة بالحسنة يكون غالبا في المعاملة الشخصية بين المتماثلين. فأما في دين الله فلا، إن المستعلي الغاشم لا يجدي معه إلا الدفع الصارم، والمفسدون في الأرض لا يجدي معهم إلا الأخذ الحاسم، والتوجيهات القرآنية متروكة لتدبر المواقف، واستشارة الألباب، والتصرف بما يرجح أنه الخير والصواب.
أولئك لهم عقبى الدار: جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب. سلام عليكم بما صبرتم، فنعم عقبى الدار ..
"أولئك" في مقامهم العالي لهم عقبى الدار: جنات عدن للإقامة والقرار.
في هذه الجنات يأتلف شملهم مع الصالحين من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم، وهؤلاء يدخلون الجنة بصلاحهم واستحقاقهم، ولكنهم يكرمون بتجمع شتاتهم، وتلاقي أحبابهم، وهي لذة أخرى تضاعف لذة الشعور بالجنان.
وفي جو التجمع والتلاقي يشترك الملائكة في التأهيل والتكريم، في حركة رائحة غادية:
يدخلون عليهم من كل باب ..
ويدعنا السياق نرى المشهد حاضرا وكأنما نشهده ونسمع الملائكة أطوافا أطوافا:
سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار ..
فهو مهرجان حافل باللقاء والسلام والحركة الدائبة والإكرام.
وعلى الضفة الأخرى أولئك الذين لا ألباب لهم فيتذكروا، ولا بصيرة لهم فيبصروا، وهم على النقيض في كل شيء مع أولي الألباب:
[ ص: 2059 ] والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه، ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل، ويفسدون في الأرض. أولئك لهم اللعنة، ولهم سوء الدار ..
إنهم ينقضون عهد الله المأخوذ على الفطرة في صورة الناموس الأزلي; وينقضون من بعده كل عهد، فمتى نقض العهد الأول فكل عهد قائم عليه منقوض من الأساس، والذي لا يرعى الله لا يبقي على عهد ولا ميثاق، ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل على وجه العموم والإطلاق، ويفسدون في الأرض في مقابل صبر أولئك وإقامتهم للصلاة وإنفاقهم سرا وعلانية ودرء السيئة بالحسنة، فالإفساد في الأرض يقابل هذا كله، وترك شيء من هذا كله إنما هو إفساد أو دافع إلى الإفساد.
أولئك .. المبعدون المطرودون
لهم اللعنة والطرد في مقابل التكريم هناك
ولهم سوء الدار ولا حاجة إلى ذكرها، فقد عرفت بمقابلها هناك!
أولئك فرحوا بالحياة الدنيا ومتاعها الزائل فلم يتطلعوا إلى الآخرة ونعيمها المقيم، مع أن الله هو الذي يقدر الرزق فيوسع فيه أو يضيق فالأمر كله إليه في الأولى والآخرة على السواء، ولو ابتغوا الآخرة ما حرمهم الله متاع الأرض، وهو الذي أعطاهم إياه:
الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر. وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع ..