ولقد سبقت الإشارة إلى الفارق الضخم بين من يعلم أن ما أنزل إلى الرسول من ربه هو الحق، ومن هو أعمى؛ فالآن يحكي السياق شيئا عن العمي الذين لا يرون آيات الله في الكون، والذين لا يكفيهم هذا القرآن، فإذا هم يطلبون آية، وقد حكى السياق شيئا كهذا في شطر السورة الأول، وعقب عليه بأن الرسول ليس إلا منذرا والآيات عند الله.وهو الآن يحكيه ويعقب عليه ببيان أسباب الهدى وأسباب الضلال، ويضع إلى جواره صورة القلوب المطمئنة بذكر الله، لا تقلق ولا تطلب خوارق لتؤمن وهذا القرآن بين أيديها، هذا القرآن العميق التأثير، حتى لتكاد تسير به الجبال وتقطع به الأرض، ويكلم به الموتى لما فيه من سلطان وقوة ودفعة وحيوية، وينهي الحديث عن هؤلاء الذين يتطلبون القوارع والخوارق بتيئيس المؤمنين منهم، وبتوجيههم إلى المثلات من قبلهم، وإلى ما يحل بالمكذبين من حولهم بين الحين والحين:
ويقول الذين كفروا: لولا أنزل عليه آية من ربه! قل: إن الله يضل من يشاء، ويهدي إليه من أناب: الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله. ألا بذكر الله تطمئن القلوب. الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك، وهم يكفرون بالرحمن قل: هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت، وإليه متاب ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى. بل لله الأمر جميعا. أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا. ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم حتى يأتي وعد الله. إن الله لا يخلف الميعاد. ولقد استهزئ برسل من قبلك، فأمليت للذين كفروا ثم أخذتهم. فكيف كان عقاب؟ ..
[ ص: 2060 ] إن الرد على طلبهم آية خارقة، أن الآيات ليست هي التي تقود الناس إلى الإيمان، فللإيمان دواعيه الأصيلة في النفوس، وأسبابه المؤدية إليه من فعل هذه النفوس:
قل: إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب ..
فالله يهدي من ينيبون إليه، فالإنابة إلى الله هي التي جعلتهم أهلا لهداه، والمفهوم إذن أن الذين لا ينيبون هم الذين يستأهلون الضلال، فيضلهم الله؛ فهو استعداد القلب للهدى وسعيه إليه وطلبه، أما القلوب التي لا تتحرك إليه فهو عنها بعيد..
ثم يرسم صورة شفيفة للقلوب المؤمنة، في جو من الطمأنينة والأنس والبشاشة والسلام:
الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ..
تطمئن بإحساسها بالصلة بالله، والأنس بجواره، والأمن في جانبه وفي حماه؛ تطمئن من قلق الوحدة، وحيرة الطريق، بإدراك الحكمة في الخلق والمبدإ والمصير، وتطمئن بالشعور بالحماية من كل اعتداء ومن كل ضر ومن كل شر إلا بما يشاء، مع الرضا بالابتلاء والصبر على البلاء، وتطمئن برحمته في الهداية والرزق والستر في الدنيا والآخرة:
ألا بذكر الله تطمئن القلوب ..
ذلك الاطمئنان بذكر الله في قلوب المؤمنين حقيقة عميقة يعرفها الذين خالطت بشاشة الإيمان قلوبهم، فاتصلت بالله؛ يعرفونها ولا يملكون بالكلمات أن ينقلوها إلى الآخرين الذين لم يعرفوها، لأنها لا تنقل بالكلمات، إنما تسري في القلب فيستروحها ويهش لها ويندى بها ويستريح إليها، ويستشعر الطمأنينة والسلام، ويحس أنه في هذا الوجود ليس مفردا بلا أنيس، فكل ما حوله صديق، إذ كل ما حوله من صنع الله الذي هو في حماه.
وليس أشقى على وجه هذه الأرض ممن يحرمون طمأنينة الأنس إلى الله، ليس أشقى ممن ينطلق في هذه الأرض مبتوت الصلة بما حوله في الكون، لأنه انفصم من العروة الوثقى التي تربطه بما حوله في الله خالق الكون. ليس أشقى ممن يعيش لا يدري لم جاء؟ ولم يذهب؟ ولم يعان ما يعاني في الحياة؟ ليس أشقى ممن يسير في الأرض يوجس من كل شيء خيفة لأنه لا يستشعر الصلة الخفية بينه وبين كل شيء في هذا الوجود، ليس أشقى في الحياة ممن يشق طريقه فريدا وحيدا شاردا في فلاة، عليه أن يكافح وحده بلا ناصر ولا هاد ولا معين.
وإن هناك للحظات في الحياة لا يصمد لها بشر إلا أن يكون مرتكنا إلى الله، مطمئنا إلى حماه، مهما أوتي من القوة والثبات والصلابة والاعتداد.. ففي الحياة لحظات تعصف بهذا كله، فلا يصمد لها إلا المطمئنون بالله:
ألا بذكر الله تطمئن القلوب ..
هؤلاء المنيبون إلى الله، المطمئنون بذكر الله، يحسن الله مآبهم عنده، كما أحسنوا الإنابة إليه وكما أحسنوا العمل في الحياة:
الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب ..
[ ص: 2061 ] طوبى (على وزن "كبرى" من طاب يطيب) للتفخيم والتعظيم، وحسن مآب إلى الله الذي أنابوا إليه في الحياة
أما أولئك الذين يطلبون آية فلم يستشعروا طمأنينة الإيمان فهم في قلق يطلبون الخوارق والمعجزات، ولست أول رسول جاء لقومه بمثل ما جئت به حتى يكون الأمر عليهم غريبا، فقد خلت من قبلهم الأمم وخلت من قبلهم الرسل. فإذا كفروا هم فلتمض على نهجك ولتتوكل على الله:
كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم، لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك، وهم يكفرون بالرحمن. قل: هو ربي لا إله إلا هو، عليه توكلت وإليه متاب ..
والعجيب أنهم يكفرون بالرحمن، العظيم الرحمة، الذي تطمئن القلوب بذكره، واستشعار رحمته الكبرى، وما عليك إلا أن تتلو عليهم الذي أوحينا إليك، فلهذا أرسلناك.فإن يكفروا فأعلن لهم أن اعتمادك على الله وحده، وأنك تائب إليه وراجع، لا تتجه إلى أحد سواه.
وإنما أرسلناك لتتلو عليهم هذا القرآن، هذا القرآن العجيب، الذي لو كان من شأن قرآن أن تسير به الجبال أو تقطع به الأرض، أو يكلم به الموتى، لكان في هذا القرآن من الخصائص والمؤثرات، ما تتم معه هذه الخوارق والمعجزات، ولكنه جاء لخطاب المكلفين الأحياء، فإذا لم يستجيبوا فقد آن أن ييأس منهم المؤمنون، وأن يدعوهم حتى يأتي وعد الله للمكذبين:
ولو أن قرآنا سيرت به الجبال، أو قطعت به الأرض، أو كلم به الموتى. بل لله الأمر جميعا. أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا. ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم حتى يأتي وعد الله. إن الله لا يخلف الميعاد ..
ولقد صنع هذا القرآن في النفوس التي تلقته وتكيفت به أكثر من تسيير الجبال وتقطيع الأرض وإحياء الموتى، لقد صنع في هذه النفوس وبهذه النفوس خوارق أضخم وأبعد آثارا في أقدار الحياة، بل أبعد أثرا في شكل الأرض ذاته، فكم غير الإسلام والمسلمون من وجه الأرض، إلى جانب ما غيروا من وجه التاريخ؟!.
وإن طبيعة هذا القرآن ذاتها، طبيعته في دعوته وفي تعبيره، طبيعته في موضوعه وفي أدائه، طبيعته في حقيقته وفي تأثيره، إن طبيعة هذا القرآن لتحتوي على قوة خارقة نافذة، يحسها كل من له ذوق وبصر وإدراك للكلام، واستعداد لإدراك ما يوجه إليه ويوحي به، والذين تلقوه وتكيفوا به سيروا ما هو أضخم من الجبال، وهو تاريخ الأمم والأجيال; وقطعوا ما هو أصلب من الأرض، وهو جمود الأفكار وجمود التقاليد؛ وأحيوا ما هو أخمد من الموتى، وهو الشعوب التي قتل روحها الطغيان والأوهام، والتحول الذي تم في نفوس العرب وحياتهم فنقلهم تلك النقلة الضخمة دون أسباب ظاهرة إلا فعل هذا الكتاب،ومنهجه في النفوس والحياة، أضخم بكثير من تحول الجبال عن رسوخها، وتحول الأرض عن جمودها، وتحول الموتى عن الموات!.
بل لله الأمر جميعا ..
وهو الذي يختار نوع الحركة وأداتها في كل حال.
فإذا كان قوم بعد هذا القرآن لم تتحرك قلوبهم فما أجدر المؤمنين الذين يحاولون تحريكها أن ييأسوا من القوم; وأن يدعوا الأمر لله، فلو شاء لخلق الناس باستعداد واحد للهدى، فلهدى الناس جميعا على نحو
[ ص: 2062 ] خلقه الملائكة لو كان يريد، أو لقهرهم على الهدى بأمر قدري منه، ولكن لم يرد هذا ولا ذاك؛ لأنه خلق هذا الإنسان لمهمة خاصة يعلم –سبحانه - أنها تقتضي خلقته على هذا النحو الذي كان.
فليدعوهم إذن لأمر الله، وإذا كان الله قد قدر ألا يهلكهم هلاك استئصال في جيل كبعض الأقوام قبلهم، فإن قارعة من عنده بعد قارعة تنزل بهم فتصيبهم بالضر والكرب، وتهلك من كتب عليه منهم الهلاك.
أو تحل قريبا من دارهم ..
فتروعهم وتدعهم في قلق وانتظار لمثلها; وقد تلين بعض القلوب وتحركها وتحييها.
حتى يأتي وعد الله ..
الذي أعطاهم إياه، وأمهلهم إلى انتهاء أجله:
إن الله لا يخلف الميعاد ..
فهو آت لا ريب فيه، فملاقون فيه ما وعدوه.
والأمثلة حاضرة، وفي مصارع الغابرين عبرة، بعد الإنظار والإمهال.
ولقد استهزئ برسل من قبلك، فأمليت للذين كفروا ثم أخذتهم، فكيف كان عقاب؟ .
وهو سؤال لا يحتاج إلى جواب، فلقد كان عقابا تتحدث به الأجيال!!!