والآن نقف وقفات قصيرة أمام الحقائق البارزة التي تعرضها قصة الرسل مع الجاهلية. وهي الحقائق التي
[ ص: 2100 ] أشرنا إليها إشارات سريعة في أثناء استعراض السياق القرآني، ونرى أنها تحتاج إلى وقفات أخرى أمامها مستقلة:
إننا نقف من هذه القصة على حقيقة أولية بارزة يقصها علينا الحكيم الخبير.. إن موكب الإيمان منذ فجر التاريخ الإنساني موكب واحد موصول، يقوده رسل الله الكرام، داعين بحقيقة واحدة، جاهرين بدعوة واحدة، سائرين على منهج واحد.. كلهم
يدعو إلى ألوهية واحدة، وربوبية واحدة; وكلهم لا يدعو مع الله أحدا، ولا يتوكل على أحد غيره، ولا يلجأ إلى ملجأ سواه، ولا يعرف له سندا إلا إياه.
وأمر الاعتقاد في الله الواحد - إذن - ليس كما يزعم "علماء الدين المقارن" أنه تطور وترقى من التعديد إلى التثنية إلى التوحيد; ومن عبادة الطواطم والأرواح والنجوم والكواكب إلى عبادة الله الواحد; وأنه تطور وترقى كذلك بتطور وترقي التجربة البشرية والعلم البشري، وبتطور وترقي الأنظمة السياسية وانتهائها إلى الأوضاع الموحدة تحت سلطان واحد ...
إن الاعتقاد في الله الواحد جاءت به الرسالات منذ فجر التاريخ; ولم تتغير هذه الحقيقة ولم تتبدل في رسالة واحدة من الرسالات; ولا في دين واحد من الأديان السماوية. كما يقص علينا الحكيم الخبير.
ولو قال أولئك "العلماء" : إن قابلية البشرية لعقيدة التوحيد التي جاء بها الرسل كانت تترقى من عهد رسول; إلى عهد رسول وإن الوثنيات الجاهلية كانت تتأثر بعقائد التوحيد المتوالية التي كان موكب الرسل الكرام يواجه بها هذه الوثنيات حينا بعد حين. حتى جاء زمان كانت عقيدة التوحيد أكثر قبولا لدى جماهير الناس مما كانت، بفعل توالي رسالات التوحيد; وبفعل العوامل الأخرى التي يفردونها بالتأثير ... لو قال أولئك "العلماء" قولا كهذا لساغ.. ولكنهم إنما يتأثرون بمنهج في البحث يقوم ابتداء على قاعدة من العداء الدفين القديم للكنيسة في أوربا - حتى ولو لم يلحظه العلماء المعاصرون! - ومن الرغبة الخفية - الواعية أو غير الواعية - في تحطيم المنهج الديني في التفكير; وإثبات أن الدين لم يكن قط وحيا من عند الله; إنما كان اجتهادا من البشر، ينطبق عليه ما ينطبق على تطورهم في التفكير والتجربة والمعرفة العلمية سواء بسواء.. ومن ذلك العداء القديم ومن هذه الرغبة الخفية ينبثق منهج علم الأديان المقارن; ويسمى مع ذلك "علما" ينخدع به الكثيرون!
وإذا جاز أن يخدع أحد بمثل هذا "العلم" فإنه لا ينبغي لمسلم يؤمن بدينه، ويحترم منهج هذا الدين في تقرير مثل هذه الحقيقة أن يخدع لحظة واحدة; وأن يدلي بقول يصطدم اصطداما مباشرا مع مقررات دينه، ومع منهجه الواضح في هذا الشان الخطير ..
هذا الموكب الكريم من الرسل واجه البشرية الضالة - إذن - بدعوة واحدة، وعقيدة واحدة، وكذلك واجهت الجاهلية ذلك الموكب الكريم، وهذه الدعوة الواحدة بالعقيدة الواحدة، مواجهة واحدة - كما يعرضها السياق القرآني مغضيا عن الزمان والمكان، مبرزا للحقيقة الواحدة الموصولة من وراء الزمان والمكان - وكما أن دعوة الرسل لم تتبدل، فكذلك مواجهة الجاهلية لم تتبدل!
إنها حقيقة تستوقف النظر حقا! .. إن الجاهلية هي الجاهلية على مدار الزمان.. إن الجاهلية ليست فترة تاريخية ولكنها وضع واعتقاد وتصور وتجمع عضوي على أساس هذه المقومات..
[ ص: 2101 ] والجاهلية تقوم ابتداء على أساس من دينونة العباد للعباد; ومن تأليه غير الله. أو من ربوبية غير الله - وكلاهما سواء في إنشاء الجاهلية - فسواء كان الاعتقاد قائما على تعدد الآلهة; أو كان قائما على توحيد الإله مع تعدد الأرباب - أي: المتسلطين - فهو ينشئ الجاهلية بكل خصائصها الثانوية الأخرى!
ودعوة الرسل إنما تقوم على توحيد الله وتنحية الأرباب الزائفة، وإخلاص الدين لله - أي إخلاص الدينونة لله وإفراده سبحانه بالربوبية، أي: الحاكمية والسلطان - ومن ثم تصطدم اصطداما مباشرا بالقاعدة التي تقوم عليها الجاهلية; وتصبح بذاتها خطرا على وجود الجاهلية. وبخاصة حين تتمثل دعوة الإسلام في تجمع خاص، يأخذ أفراده من التجمع الجاهلي; وينفصل بهم عن الجاهلية من ناحية الاعتقاد، ومن ناحية القيادة، ومن ناحية الولاء.. الأمر الذي لا بد منه للدعوة الإسلامية في كل مكان وفي كل زمان..
وعندما يشعر التجمع الجاهلي - بوصفه كيانا عضويا واحدا متساندا - بالخطر الذي يتهدد قاعدة وجوده من الناحية الاعتقادية; كما يتهدد وجوده ذاته بتمثل الاعتقاد الإسلامي في تجمع آخر منفصل عنه ومواجه له.. فعندئذ يسفر التجمع الجاهلي عن حقيقة موقفه تجاه دعوة الإسلام!
إنها المعركة بين وجودين لا يمكن أن يكون بينهما تعايش أو سلام! المعركة بين تجمعين عضويين كل منهما يقوم على قاعدة مناقضة تماما للقاعدة التي يقوم عليها التجمع الآخر. فالتجمع الجاهلي يقوم على قاعدة تعدد الآلهة، أو تعدد الأرباب، ومن ثم يدين فيه العباد للعباد. والتجمع الإسلامي يقوم على قاعدة وحدانية الألوهية ووحدانية الربوبية; ومن ثم لا يمكن فيه دينونة العباد للعباد..
ولما كان التجمع الإسلامي إنما يأكل في كل يوم من جسم التجمع الجاهلي، في أول الأمر وهو في دور التكوين، ثم بعد ذلك لا بد له من مواجهة التجمع الجاهلي لتسلم القيادة منه، وإخراج الناس كافة من العبودية للعباد إلى العبودية لله وحده.. لما كانت هذه كلها حتميات لا بد منها متى سارت الدعوة الإسلامية في طريقها الصحيح، فإن الجاهلية لا تطيق منذ البدء دعوة الإسلام.. ومن هنا ندرك لماذا كانت مواجهة الجاهلية واحدة لدعوة الرسل الكرام! .. إنها مواجهة الدفاع عن النفس في وجه الاجتياح; ومواجهة الدفاع عن الحاكمية المغتصبة وهي من خصائص الألوهية التي يغتصبها في الجاهلية العباد!
وإذ كان هذا هو شعور الجاهلية بخطر الدعوة الإسلامية عليها، فقد واجهت هذه الدعوة في معركة حياة أو موت، لا هوادة فيها ولا هدنة ولا تعايش ولا سلام! .. إن الجاهلية لم تخدع نفسها في حقيقة المعركة; وكذلك لم يخدع الرسل الكرام - صلوات الله وسلامه عليهم - أنفسهم ولا المؤمنين بهم في حقيقة المعركة..
وقال الذين كفروا لرسلهم: لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا ..
فهم لا يقبلون من الرسل والذين آمنوا معهم، أن يتميزوا وينفصلوا بعقيدتهم وبقيادتهم وبتجمعهم الخاص. إنما يطلبون إليهم أن يعودوا في ملتهم، ويندمجوا في تجمعهم، ويذوبوا في هذا التجمع. أو أن يطردوهم بعيدا وينفوهم من أرضهم..
ولم يقبل الرسل الكرام أن يندمجوا في التجمع الجاهلي، ولا أن يذوبوا فيه، ولا أن يفقدوا شخصية تجمعهم الخاص.. هذا التجمع الذي يقوم على قاعدة أخرى غير القاعدة التي يقوم عليها التجمع الجاهلي.. ولم يقولوا - كما يقول ناس ممن لا يدركون حقيقة الإسلام.. ولا حقيقة التركيب العضوي للمجتمعات - : حسنا! فلنندمج في ملتهم كي نزاول دعوتنا ونخدم عقيدتنا من خلالهم!!!
[ ص: 2102 ] إن تميز المسلم بعقيدته في المجتمع الجاهلي، لا بد أن يتبعه حتما تميزه بتجمعه الإسلامي وقيادته وولائه.. وليس في ذلك اختيار.. إنما هي حتمية من حتميات التركيب العضوي للمجتمعات.. هذا التركيب الذي يجعل التجمع الجاهلي حساسا بالنسبة لدعوة الإسلام القائمة على قاعدة عبودية الناس لله وحده; وتنحية الأرباب الزائفة عن مراكز القيادة والسلطان. كما يجعل كل عضو مسلم يتميع في المجتمع الجاهلي خادما للتجمع الجاهلي لا خادما لإسلامه كما يظن بعض الأغرار!
ثم تبقى الحقيقة القدرية التي ينبغي ألا يغفل عنها الدعاة إلى الله في جميع الأحوال. وهي أن تحقيق وعد الله لأوليائه بالنصر والتمكين; والفصل بينهم وبين قومهم بالحق، لا يقع ولا يكون، إلا بعد تميز أصحاب الدعوة وتحيزهم; وإلا بعد مفاصلتهم لقومهم على الحق الذي معهم.. فذلك الفصل من الله لا يقع وأصحاب الدعوة متميعون في المجتمع الجاهلي، ذائبون في أوضاعه عاملون في تشكيلاته.. وكل فترة تميع على هذا النحو هي فترة تأخير وتأجيل لوعد الله بالنصر والتمكين.. وهي تبعة ضخمة هائلة يجب أن يتدبرها أصحاب الدعوة إلى الله، وهم واعون مقدرون..
وأخيرا.. نقف أمام الجمال الباهر الذي يعرض فيه القرآن الكريم موكب الإيمان، وهو يواجه الجاهلية الضالة على مدار الزمان.. جمال الحق الفطري البسيط الواضح العميق، الواثق المطمئن، الرصين المكين:
قالت رسلهم: أفي الله شك فاطر السماوات والأرض، يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم، ويؤخركم إلى أجل مسمى؟ ..
... قالت لهم رسلهم: إن نحن إلا بشر مثلكم، ولكن الله يمن على من يشاء من عباده، وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله، وعلى الله فليتوكل المؤمنون. وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا، ولنصبرن على ما آذيتمونا، وعلى الله فليتوكل المتوكلون ..
وهذا الجمال الباهر إنما ينشأ من هذا العرض الذي يجعل الرسل موكبا موحدا في مواجهة الجاهلية الموحدة; ويصور الحقيقة الباقية من وراء الملابسات المتغيرة; ويبرز المعالم المميزة للدعوة التي يحملها الرسل وللجاهلية التي تواجههم، من وراء الزمان والمكان، ومن وراء الأجناس والأقوام!
ثم يتجلى هذا الجمال في كشف الصلة بين الحق الذي تحمله دعوة الرسل الكرام، والحق الكامن في كيان هذا الوجود:
قالت رسلهم: أفي الله شك فاطر السماوات والأرض؟ وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا؟ ألم تر أن الله خلق السماوات والأرض بالحق، إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد، وما ذلك على الله بعزيز ..
وهكذا تتجلى العلاقة العميقة بين الحق في هذه الدعوة، والحق الكامن في الوجود كله. ويبدو أنه حق واحد موصول بالله الحق، ثابت وطيد عميق الجذور:
كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء .. وأن ما عداه هو الباطل الزائل
كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار ..
[ ص: 2103 ] كذلك يتمثل ذلك الجمال في شعور الرسل بحقيقة الله ربهم; وفي حقيقة الألوهية كما تتجلى في قلوب تلك العصبة المختارة من عباده:
وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا، ولنصبرن على ما آذيتمونا، وعلى الله فليتوكل المتوكلون ..
وكلها لمحات من ذلك الجمال الباهر لا يملك التعبير البشري إلا أن يشير إليها كما يشار إلى النجم البعيد، لا تبلغ الإشارة مداه، ولكنها فقط تلفت العين إلى سناه ...