[ ص: 2125 ] بسم الله الرحمن الرحيم
الر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين (1)
ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين (2)
ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون (3)
وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم (4)
ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون (5)
وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون (6)
لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين (7)
ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين (8)
إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (9)
ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين (10)
وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون (11)
كذلك نسلكه في قلوب المجرمين (12)
لا يؤمنون به وقد خلت سنة الأولين (13)
ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون (14)
لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون (15)
هذا المقطع الأول في سياق السورة، يتحدث عن طبيعة الكتاب الذي يكذب به المشركون.. ويهددهم بيوم يتمنون فيه لو كانوا مسلمين! كما يكشف لهم عن سبب إرجاء هذا اليوم عنهم، فهو موقوت بأجل معلوم.. ويذكر تحدياتهم واستهزاءهم وطلبهم الملائكة، ثم يهددهم بأن نزول الملائكة يكون معه الهلاك والتدمير! وأخيرا يكشف عن العلة الحقيقية للتكذيب.. إنها ليست نقص الدليل ولكنه العناد الأصيل! ..
ألف. لام. را..
تلك آيات الكتاب وقرآن مبين ..
هذه الأحرف ونظائرها هي الكتاب وهي القرآن. هذه الأحرف التي في متناول الجميع، هي "تلك" الآيات العالية الأفق البعيدة المتناول، المعجزة التنسيق. هذه الأحرف التي لا مدلول لها في ذاتها هي القرآن الواضح الكاشف المبين.
فإذا كان قوم يكفرون بآيات الكتاب المعجز ويكذبون بهذا القرآن المبين فسيأتي يوم يودون فيه لو كانوا; غير ما كانوا ويتمنون فيه لو آمنوا واستقاموا:
ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين ..
[ ص: 2126 ] ربما.. ولكن حيث لا ينفع التمني ولا تجدي الودادة.. ربما.. وفيها التهديد الخفي، والاستهزاء الملفوف; وفيها كذلك الحث على انتهاز الفرصة المعروضة للإسلام والنجاة قبل أن تضيع، ويأتي اليوم الذي يودون فيه لو كانوا مسلمين فما ينفعهم يومئذ أنهم يودون!
وتهديد آخر ملفوف:
ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون ..
ذرهم فيما هم فيه من حياة حيوانية محضة للأكل والمتاع. لا تأمل فيها ولا تدبر ولا استطلاع. ذرهم في تلك الدوامة: الأمل يلهي والمطامع تغر، والعمر يمضي والفرصة تضيع. ذرهم فلا تشغل نفسك بهؤلاء الهالكين، الذين ضلوا في متاهة الأمل الغرور، يلوح لهم ويشغلهم بالأطماع، ويملي لهم فيحسبون أن أجلهم ممدود، وأنهم محصلون ما يطمعون لا يردهم عنه راد، ولا يمنعهم منه مانع. وأن ليس وراءهم حسيب; وأنهم ناجون في النهاية بما ينالون مما يطعمون!
وصورة الأمل الملهي صورة إنسانية حية. فالأمل البراق ما يزال يخايل لهذا الإنسان، وهو يجري وراءه، وينشغل به، ويستغرق فيه، حتى يجاوز المنطقة المأمونة; وحتى يغفل عن الله، وعن القدر، وعن الأجل; وحتى ينسى أن هنالك واجبا، وأن هنالك محظورا; بل حتى لينسى أن هنالك إلها، وأن هنالك موتا، وأن هناك نشورا.
وهذا هو الأمل القاتل الذي يؤمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يدعهم له..
فسوف يعلمون ..
حيث لا ينفع العلم بعد فوات الأوان.. وهو أمر فيه تهديد لهم، وفيه كذلك لمسة عنيفة لعلهم يصحون من الأمل الخادع الذي يلهيهم عن المصير المحتوم.
وإن سنة الله لماضية لا تتخلف; وهلاك الأمم مرهون بأجلها الذي قدره الله لها; مترتب على سلوكها الذي تنفذ به سنة الله ومشيئته:
وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم، ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون ..
فلا يغرنهم تخلف العذاب عنهم فترة من الوقت، فإنما هي سنة الله تمضي في طريقها المعلوم. ولسوف يعلمون.
وذلك الكتاب المعلوم والأجل المقسوم، يمنحه الله للقرى والأمم، لتعمل، وعلى حسب العمل يكون المصير. فإذا هي آمنت وأحسنت وأصلحت وعدلت مد الله في أجلها، حتى تنحرف عن هذه الأسس كلها، ولا تبقى فيها بقية من خير يرجى، عندئذ تبلغ أجلها، وينتهي وجودها، إما نهائيا بالهلاك والدثور، وإما وقتيا بالضعف والذبول.
ولقد يقال: إن أمما لا تؤمن ولا تحسن ولا تصلح ولا تعدل. وهي مع ذلك قوية ثرية باقية. وهذا وهم. فلا بد من بقية من خير في هذه الأمم. ولو كان هو خير العمارة للأرض، وخير العدل في حدوده الضيقة بين أبنائها، وخير الإصلاح المادي والإحسان المحدود بحدودها. فعلى هذه البقية من الخير تعيش حتى تستنفدها فلا تبقى فيها من الخير بقية. ثم تنتهي حتما إلى المصير المعلوم.
إن سنة الله لا تتخلف. ولكل أمة أجل معلوم:
ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون ..
[ ص: 2127 ] ويحكي السياق سوء أدبهم مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقد جاءهم بالكتاب والقرآن المبين، يوقظهم من الأمل الملهي، ويذكرهم بسنة الله، فإذا هم يسخرون منه ويتوقحون:
وقالوا: يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون. لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين! ..
وتبدو السخرية في ندائهم:
يا أيها الذي نزل عليه الذكر ..
فهم ينكرون الوحي والرسالة; ولكنهم يتهكمون على الرسول الكريم بهذا الذي يقولون.
ويبدو سوء الأدب في وصفهم للرسول الأمين:
إنك لمجنون ..
جزاء على دعوته لهم بالقرآن المبين.
وهم يتمحكون فيطلبون الملائكة مصدقين:
لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين! .
وطلب نزول الملائكة يتكرر في هذه السورة وفي غيرها، مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومع غيره من الرسل قبله: وهو كما قلنا ظاهرة من ظواهر الجهل بقيمة هذا الكائن الإنساني الذي كرمه الله، فجعل النبوة في جنسه، ممثلة في أفراده المختارين.
والرد على ذلك التهكم وتلك الوقاحة وهذا الجهل هو ذكر القاعدة التي تشهد بها مصارع السالفين: أن الملائكة لا تنزل على الرسول إلا لهلاك المكذبين من قومه حين ينتهي الأجل المعلوم; وعندئذ فلا إمهال ولا تأجيل:
ما ننزل الملائكة إلا بالحق، وما كانوا إذا منظرين ..
فهل هو ما يريدون وما يتطلبون؟!