وبعد، فإن قصة البشرية الكبرى - كما تعرض في هذا السياق القرآني - تستحق تعقيبات مفصلة لا نملك أن نستطرد فيها - في ظلال القرآن - فنكتفي أن نلم بها إلماما، على قدر المناسبة:
أن دلالتها واضحة على طبيعة تكوين هذا الخلق المسمى بالإنسان. فهو تكوين خاص متفرد، يزيد على مجرد التركيب العضوي الحيوي، الذي يشترك فيه مع بقية الأحياء. وأيا كانت نشأة الحياة، ونشأة الأحياء; فإن الخلق الإنساني يتفرد بخاصية أخرى هي التي ورد بها النص القرآني.. خاصية الروح الإلهي المودع فيه..
[ ص: 2143 ] وهي الخاصية التي تجعل من هذا الإنسان إنسانا، يتفرد بخصائصه عن كل الأحياء الأخرى. وهي قطعا ليست مجرد الحياة. فهو يشترك في "الحياة" مع سائر الأحياء. ولكنها خاصية الروح الزائد عن مجرد الحياة.
هذه الخاصية - كما يلهم النص القرآني - لم تجئ للإنسان بعد مراحل أو أطوار من نشأته - كما تزعم الدارونية - ولكنها جاءت مصاحبة لخلقه ونشأته. فلم يجئ على هذا الكائن الإنساني زمان كان فيه مجرد حي من الأحياء - بلا روح إنساني خاص - ثم دخلته هذه الروح، فصار بها هو هذا الإنسان!
ولقد اضطرت الدارونية الحديثة - على يد
جوليان هاكسلي - أن تعترف بشطر من هذه الحقيقة الكبيرة; وهي تقرر "تفرد الإنسان" من الناحية الحيوية والوظيفية. ومن ثم تفرده من الناحية العقلية، وما نشأ عن ذلك كله من تفرده من الناحية الحضارية..
ولكنها ظلت تزعم أن هذا الإنسان المتفرد متطور عن حيوان!
والتوفيق عسير بين ما انتهت إليه الداروينية الحديثة من تفرد الإنسان، وبين القاعدة التي تقوم عليها الداروينية - قاعدة التطور المطلق وتطور الإنسان عن الحيوان - ولكن الداروينيين ومن والاهم لا يزالون مصرين على ذلك الاندفاع - غير العلمي - الذي صبغوه بصبغة العلم، في دفعة الانسلاخ من كل مقررات الكنيسة! والذي شجع اليهود على نشره وتمكينه وتثبيته، وإضفاء الصبغة "العلمية" عليه لغرض في نفوسهم، ولغاية في مخططاتهم !
ولقد سبق أن تحدثنا عن هذه القضية، ونحن نواجه النصوص القرآنية المشابهة في سورة الأعراف في هذه الظلال; فنقتطف هذه الفقرات مما سبق تقريره هناك:
وعلى أية حال، فإن مجموع النصوص القرآنية في خلق
آدم عليه السلام، وفي نشأة الجنس البشري، ترجح أن إعطاء هذا الكائن خصائصه الإنسانية ووظائفه المستقلة، كان مصاحبا لخلقه. وأن الترقي "الإنساني" كان ترقيا في بروز هذه الخصائص، ونموها، وتدريبها، واكتسابها الخبرة العالية. ولم يكن ترقيا في "وجود" الإنسان.. من تطور الأنواع حتى انتهت إلى الإنسان.. كما تقول الداروينية.
ووجود أنواع مترقية من الحيوان تتبع ترتيبا زمنيا - بدلالة الحفريات التي تعتمد عليها نظرية النشوء والارتقاء - هو مجرد نظرية "ظنية" وليست "يقينية" لأن تقدير أعمار الصخور ذاته في طبقات الأرض ليس إلا ظنا! مجرد فرض كتقدير أعمار النجوم من إشعاعها. وليس ما يمنع من ظهور فروض أخرى تعدلها أو تغيرها!
على أنه - على فرض العلم اليقيني بأعمار الصخور - ليس هناك ما يمنع من وجود "أنواع" من الحيوان، في أزمان متوالية، بعضها أرقى من بعض، بفعل الظروف السائدة في الأرض ومدى ما تسمح به من وجود أنواع تلائم هذه الظروف السائدة في حياتها. ثم انقراض بعضها حين تتغير الظروف السائدة بحيث لا تسمح لها بالحياة (وظهور أنواع أخرى أكثر ملاءمة للظروف السائدة) .. ولكن هذا لا "يحتم" أن يكون بعضها "متطورا" من بعض.. وحفريات دارون وما بعدها لا تستطيع أن تثبت أكثر من هذا، لا تستطيع أن تثبت
[ ص: 2144 ] - في يقين مقطوع به - أن هذا النوع تطور تطورا عضويا من النوع الذي قبله من الناحية الزمنية - وفق شهادة الطبقة الصخرية التي يوجد فيها - ولكنها فقط تثبت أن هناك نوعا أرقى من النوع الذي قبله زمنيا.. وهذا يمكن تعليله بما قلنا من أن الظروف السائدة في الأرض كانت تسمح بوجود هذا النوع. فلما تغيرت صارت صالحة لنشأة نوع آخر، فنشأ. ومساعدة على انقراض النوع الذي كان عائشا من قبل في الظروف الأخرى، فانقرض.
وعندئذ تكون نشأة النوع الإنساني نشأة مستقلة، في الزمن الذي علم الله أن ظروف الأرض تسمح بالحياة والنمو والترقي لهذا النوع.. وهذا ما ترجحه مجموعة النصوص القرآنية في نشأة البشرية.
وتفرد الإنسان من الناحية البيولوجية والفسيولوجية والعقلية والروحية. هذا التفرد الذي اضطر الداروينيون المحدثون - وفيهم الملحدون بالله كلية - للاعتراف به، دليل مرجح (في مجال البحوث الإنسانية) على تفرد النشأة الإنسانية، وعدم تداخلها مع الأنواع الأخرى في تطور عضوي.
هذه النشأة المتفردة للإنسان، باحتوائها على هذه الخاصية المنشئة للوجود الإنساني المستقل.. خاصية النفخة من روح الله.. تجعل النظرة إلى هذا الإنسان و "مطالبه الأساسية" تختلف اختلافا أصيلا عن نظرة المذاهب المادية، بكل إفرازاتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وكل إفرازاتها في التصورات والقيم التي ينبغي أن تسود الحياة الإنسانية.
إن الزعم بأن الإنسان مجرد حيوان متطور عن حيوان! هي التي جعلت الإعلان الماركسي يذكر أن مطالب الإنسان الأساسية هي الطعام والشراب والمسكن والجنس! فهذه فعلا هي مطالب الحيوان الأساسية! ولا يكون الإنسان في وضع أحقر مما يكون وفق هذه النظرة! ومن ثم تهدر كل حقوقه المترتبة على تفرده عن الحيوان بخصائصه الإنسانية.. تهدر حقوقه في الاعتقاد الديني. وتهدر حقوقه في حرية التفكير والرأي. وتهدر حقوقه في اختيار نوع العمل، ومكان الإقامة. وتهدر حقوقه في نقد النظام السائد وأسسه الفكرية والمذهبية. بل تهدر حقوقه في نقد تصرفات "الحزب" ومن هم أقل من الحزب من الحكام المتسلطين في تلك الأنظمة البغيضة، التي تحشر الأناسي حشرا، وتسوقهم سوقا، لأن هؤلاء "الأناسي" وفق الفلسفة المادية ليسوا سوى نوع من الحيوان تطور عن حيوان! .. ثم يسمى ذلك النكد كله: "الاشتراكية العلمية" !
فأما النظرة الإسلامية إلى "الإنسان" - وهي تقوم على أساس تفرده بخصائصه الإنسانية إلى جانب ما يشارك فيه الحيوان من التكوين العضوي - فإنها منذ اللحظة الأولى تعتبر أن مطالب الإنسان الأساسية مختلفة وزائدة عن مطالب الحيوان الأساسية. فليس الطعام والشراب والمسكن والجنس هي كل مطالبه الأساسية. وليس ما وراءها من مطالب العقل والروح مطالب ثانوية! .. إن العقيدة وحرية التفكير والإرادة والاختيار هي مطالب أساسية كالطعام والشراب والمسكن والجنس.. بل هي أعلى منها في الاعتبار; لأنها هي المطالب الزائدة في الإنسان على الحيوان. أي المطالب المتعلقة بخصائصه التي تقرر إنسانيته! والتي بإهدارها تهدر آدميته!
ومن ثم لا يجوز أن تهدر في النظام الإسلامي حرية الاعتقاد والتفكير والاختيار في سبيل "الإنتاج" وتوفير الطعام والشراب والمسكن والجنس للآدميين! كما لا يجوز أن تهدر القيم الأخلاقية - كما يقررها الله للإنسان لا كما يقررها العرف والبيئة والاقتصاد - في سبيل توفير تلك المطالب الحيوانية..
إنهما نظرتان مختلفتان من الأساس في تقييم "الإنسان" و "مطالبه الأساسية".. ومن ثم لا يمكن الجمع بينهما في نظام واحد على الإطلاق! فإما الإسلام، وإما المذاهب المادية بكل ما تفرزه من إفرازات نكدة..
[ ص: 2145 ] بما فيها ما يسمونه هناك: "الاشتراكية العلمية" فإن هو إلا إفراز خبيث من إفرازات المادية الحقيرة المحتقرة للإنسان الذي كرمه الله.
والمعركة الخالدة بين الشيطان والإنسان في هذه الأرض ترتكز ابتداء إلى استدراج الشيطان للإنسان بعيدا عن منهج الله، والتزيين له فيما عداه. استدراجه إلى الخروج من عبادة الله - أي الدينونة له في كل ما شرع من عقيدة وتصور، وشعيرة ونسك، وشريعة ونظام - فأما الذين يدينون له وحده - أي يعبدونه وحده - فليس للشيطان عليهم من سلطان..
إن عبادي ليس لك عليهم سلطان ..
ومفرق الطريق بين الاتجاه إلى الجنة التي وعد بها المتقون، وبين الاتجاه إلى جهنم التي وعد بها الغاوون، هو الدينونة لله وحده - التي يعبر عنها في القرآن دائما بالعبادة - أو اتباع تزيين الشيطان بالخروج على هذه الدينونة.
والشيطان نفسه لم يكن ينكر وجود الله سبحانه، ولا صفاته.. أي إنه لم يكن يلحد في الله من ناحية العقيدة! إنما الذي فعله هو الخروج على الدينونة لله.. وهذا هو ما أورده جهنم هو ومن اتبعه من الغاوين.
إن الدينونة لله وحده هي مناط الإسلام. فلا قيمة لإسلام يدين أصحابه لغير الله في حكم من الأحكام. وسواء كان هذا الحكم خاصا بالاعتقاد والتصور. أو خاصا بالشعائر والمناسك. أو خاصا بالشرائع والقوانين. أو خاصا بالقيم والموازين ... فهو سواء.. الدينونة فيه لله هي الإسلام. والدينونة فيه لغير الله هي الجاهلية الذاهبة مع الشيطان.
ولا يمكن تجزئة هذه الدينونة، واختصاصها بالاعتقاد والشعائر دون النظام والشرائع. فالدينونة لله كل لا يتجزأ. وهي العبادة لله في معناها اللغوي وفي معناها الاصطلاحي على السواء.. وعليها تدور المعركة الخالدة بين الإنسان والشيطان!
وأخيرا نقف أمام اللفتة الصادقة العميقة في قوله تعالى عن المتقين:
إن المتقين في جنات وعيون. ادخلوها بسلام آمنين ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين. لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين ..
إن هذا الدين لا يحاول تغيير طبيعة البشر في هذه الأرض، ولا تحويلهم خلقا آخر. ومن ثم يعترف لهم بأنه كان في صدورهم غل في الدنيا; وبأن هذا من طبيعة بشريتهم التي لا يذهب بها الإيمان والإسلام من جذورها، ولكنه يعالجها فقط لتخف حدتها، ويتسامى بها لتنصرف إلى الحب في الله والكره في الله - وهل الإيمان إلا الحب والبغض؟ - ولكنهم في الجنة - وقد وصلت بشريتهم إلى منتهى رقيها وأدت كذلك دورها في الحياة الدنيا - ينزع أصل الإحساس بالغل من صدورهم ولا تكون إلا الأخوة الصافية الودود..
إنها درجة أهل الجنة.. فمن وجدها في نفسه غالبة في هذه الأرض، فليستبشر بأنه من أهلها، ما دام ذلك وهو مؤمن، فهذا هو الشرط الذي لا تقوم بغيره الأعمال..