إلهكم إله واحد وكل ما سبق في السورة من آيات الخلق وآيات النعمة وآيات العلم يؤدي إلى هذه الحقيقة الكبيرة البارزة الواضحة الآثار في نواميس الكون وتناسقها وتعاونها كما سلف الحديث.
فالذين لا يسلمون بهذه الحقيقة، ولا يؤمنون بالآخرة - وهي فرع عن الاعتقاد بوحدانية الخالق وحكمته وعدله - هؤلاء لا تنقصهم الآيات ولا تنقصهم البراهين، إنما تكمن العلة في كيانهم وفي طباعهم. إن قلوبهم منكرة جاحدة لا تقر بما ترى من الآيات، وهم مستكبرون لا يريدون التسليم بالبراهين والاستسلام لله والرسول. فالعلة أصيلة والداء كامن في الطباع والقلوب!.
والله الذي خلقهم يعلم ذلك منهم. فهو يعلم ما يسرون وما يعلنون. يعلمه دون شك ولا ريب ويكرهه فيهم.
إنه لا يحب المستكبرين فالقلب المستكبر لا يرجى له أن يقتنع أو يسلم. ومن ثم فهم مكروهون من الله لاستكبارهم الذي يعلمه من يعلم حقيقة أمرهم، ويعلم ما يسرون وما يعلنون.
وإذا قيل لهم: ماذا أنزل ربكم؟ قالوا: أساطير الأولين. ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم، ألا ساء ما يزرون .
هؤلاء المستكبرون ذوو القلوب المنكرة التي لا تقتنع ولا تستجيب إذا سئلوا:
ماذا أنزل ربكم؟ لم يجيبوا الجواب الطبيعي المباشر، فيتلوا شيئا من القرآن أو يلخصوا فحواه، فيكونوا أمناء في النقل، ولو لم يعتقدوه. إنما هم يعدلون عن الجواب الأمين فيقولون:
أساطير الأولين والأساطير هي الحكايات الوهمية الحافلة بالخرافة.. وهكذا يصفون هذا القرآن الذي يعالج النفوس والعقول، ويعالج أوضاع الحياة وسلوك الناس وعلاقات المجتمع وأحوال البشر في الماضي والحاضر والمستقبل. هكذا يصفونه لما يحويه من قصص الأولين. وهكذا يؤدي بهم ذلك الإنكار والاستهتار إلى حمل ذنوبهم وشطر من ذنوب الذين يضلونهم بهذا القول، ويصدونهم عن القرآن والإيمان، وهم جاهلون به لا يعلمون حقيقته.. ويصور التعبير هذه الذنوب أحمالا ذات ثقل - وساءت أحمالا وأثقالا! - فهي توقر النفوس كما توقر الأحمال الظهور، وهي تثقل القلوب، كما تثقل الأحمال العواتق، وهي تتعب وتشقي كما تتعب الأثقال حامليها بل هي أدهى وأنكى!
روى
nindex.php?page=showalam&ids=11970ابن أبي حاتم عن
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي قال: "اجتمعت
قريش ، فقالوا: إن
محمدا رجل حلو اللسان، إذا كلمه الرجل ذهب بعقله، فانظروا ناسا من أشرافكم المعدودين المعروفة أنسابهم، فابعثوهم في كل طريق من طرق
مكة على رأس ليلة أو ليلتين، فمن جاء يريده فردوه عنه. فخرج ناس في كل طريق، فكان إذا أقبل الرجل وافدا لقومه ينظر ما يقول
محمد ، ووصل إليهم، قال أحدهم: أنا فلان ابن فلان. فيعرفه نسبه، ويقول له: أنا أخبرك عن
محمد . إنه رجل كذاب لم يتبعه على أمره إلا السفهاء والعبيد ومن لا خير فيهم،
[ ص: 2168 ] وأما شيوخ قومه وخيارهم فمفارقون له. فيرجع الوافد. فذلك قوله تعالى:
وإذا قيل لهم: ماذا أنزل ربكم؟ قالوا: أساطير الأولين . فإن كان الوافد ممن عزم الله له الرشاد، فقالوا له مثل ذلك قال: بئس الوافد لقومي إن كنت جئت حتى إذا بلغت مسيرة يوم رجعت قبل أن ألقى هذا الرجل، وأنظر ما يقول وآتي قومي ببيان أمره. فيدخل
مكة ، فيلقى المؤمنين فيسألهم ماذا يقول
محمد ؟ فيقولون: خيرا ...".
فقد كانت حرب دعاية منظمة يديرها قريش على الدعوة، ويديرها أمثال
قريش في كل زمان ومكان من المستكبرين الذين لا يريدون الخضوع للحق والبرهان، لأن استكبارهم يمنعهم من الخضوع للحق والبرهان. فهؤلاء المستكبرون من
قريش ليسوا أول من ينكر، وليسوا أول من يمكر. والسياق يعرض عليهم نهاية الماكرين من قبلهم، ومصيرهم يوم القيامة، بل مصيرهم منذ مفارقة أرواحهم لأجسادهم حتى يلقوا في الآخرة جزاءهم. يعرض عليهم هذا كله في مشاهد مصورة على طريقة القرآن المأثورة:
قد مكر الذين من قبلهم. فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم، وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون. ثم يوم القيامة يخزيهم، ويقول: أين شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم؟ قال الذين أوتوا العلم: إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين، الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم، فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء. بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون. فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها، فلبئس مثوى المتكبرين .
قد مكر الذين من قبلهم والتعبير يصور هذا المكر في صورة بناء ذي قواعد وأركان وسقف، إشارة إلى دقته وإحكامه ومتانته وضخامته. ولكن هذا كله لم يقف أمام قوة الله وتدبيره:
فأتى الله بنيانهم من القواعد، فخر عليهم السقف من فوقهم وهو مشهد للتدمير الكامل الشامل، يطبق عليهم من فوقهم ومن تحت أرجلهم، فالقواعد التي تحمل البناء تحطم وتهدم من أساسها، والسقف يخر عليهم من فوقهم فيطبق عليهم ويدفنهم
وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون فإذا البناء الذي بنوه وأحكموه واعتمدوا على الاحتماء فيه، إذا هو مقبرتهم التي تحتويهم، ومهلكتهم التي تأخذهم من فوقهم ومن أسفل منهم. وهو الذي اتخذوه للحماية، ولم يفكروا أن يأتيهم الخطر من جهته!
إنه مشهد كامل للدمار والهلاك، وللسخرية من مكر الماكرين وتدبير المدبرين الذين يقفون لدعوة الله، ويحسبون مكرهم لا يرد، وتدبيرهم لا يخيب، والله من ورائهم محيط!.
وهو مشهد مكرر في الزمان قبل
قريش وبعدها. ودعوة الله ماضية في طريقها مهما يمكر الماكرون، ومهما يدبر المدبرون. وبين الحين والحين يتلفت الناس فيذكرون ذلك المشهد المؤثر الذي رسمه القرآن الكريم:
فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم، وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون .
هذا في الدنيا، وفي واقع الأرض:
ثم يوم القيامة يخزيهم، ويقول: أين شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم؟ .
ويرتسم مشهد من مشاهد القيامة، يقف فيه هؤلاء المستكبرون الماكرون موقف الخزي; وقد انتهى عهد الاستكبار والمكر، وجاءوا إلى صاحب الخلق والأمر، يسألهم سؤال التبكيت والتأنيب:
أين شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم؟ أين شركائي الذين كنتم تخاصمون من أجلهم الرسول والمؤمنين، وتجادلون فيهم المقرين الموحدين؟.
ويسكت القوم من خزي، لتنطلق ألسنة الذين أوتوا العلم من الملائكة والرسل والمؤمنين، وقد أذن الله لهم أن يكونوا في هذا اليوم متكلمين ظاهرين:
قال الذين أوتوا العلم: إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين ..
[ ص: 2169 ] إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين ..
الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم فيعود السياق بهم خطوة قبل خطوة القيامة. يعود بهم إلى ساعة الاحتضار، والملائكة تتوفاهم ظالمين لأنفسهم بما حرموها من الإيمان واليقين، وبما أوردوها موارد الهلاك، وبما قادوها في النهاية إلى النار والعذاب.
ويرسم مشهدهم في ساعة الاحتضار، وهم قريبو عهد بالأرض، وما لهم فيها من كذب ومكر وكيد:
فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء! ألقوا السلم. هؤلاء المستكبرون. فإذا هم مستسلمون لا يهمون بنزاع أو خصام، إنما يلقون السلم ويعرضون الاستسلام! ثم يكذبون - ولعله طرف من مكرهم في الدنيا - فيقولون مستسلمين:
ما كنا نعمل من سوء ! وهو مشهد مخز وموقف مهين لأولئك المستكبرين!
ويجيئهم الجواب: بلى من العليم بما كان منهم
إن الله عليم بما كنتم تعملون فلا سبيل إلى الكذب والمغالطة والتمويه.
ويجيئهم الجزاء جزاء المتكبرين:
فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها، فلبئس مثوى المتكبرين !
وعلى الجانب الأخر.. الذين اتقوا.. يقابلون المنكرين المستكبرين في المبدإ والمصير:
وقيل للذين اتقوا: ماذا أنزل ربكم؟ قالوا: خيرا. للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة، ولدار الآخرة خير، ولنعم دار المتقين. جنات عدن يدخلونها تجري من تحتها الأنهار، لهم فيها ما يشاءون، كذلك يجزي الله المتقين. الذين تتوفاهم الملائكة طيبين، يقولون: سلام عليكم، ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون ..
إن المتقين يدركون أن الخير هو قوام هذه الدعوة، وقوام ما أنزل ربهم من أمر ونهي وتوجيه وتشريع. فيلخصون الأمر كله في كلمة:
قالوا: خيرا ثم يفصلون هذا الخير حسبما علموا مما أنزل الله:
للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة حياة حسنة ومتعة حسنة، ومكانة حسنة.
ولدار الآخرة خير من هذه الدار الدنيا
ولنعم دار المتقين .. ثم يفصل ما أجمل. عن هذه الدار. فإذا هي
جنات عدن للإقامة
تجري من تحتها الأنهار رخاء.
لهم فيها ما يشاءون فلا حرمان ولا كد، ولا حدود للرزق كما هي الحياة الدنيا..
كذلك يجزي الله المتقين .
ثم يعود السياق خطوة بالمتقين كما عاد من قبلهم خطوة بالمستكبرين. فإذا هم في مشهد الاحتضار وهو مشهد هين لين كريم:
الذين تتوفاهم الملائكة طيبين طيبة نفوسهم بلقاء الله، معافين من الكرب وعذاب الموت.
يقولون: سلام عليكم طمأنة لقلوبهم وترحيبا بقدومهم
ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون تعجيلا لهم بالبشرى، وهم على عتاب الآخرة، جزاء وفاقا على ما كانوا يعملون.
وفي ظل هذا المشهد بشقيه. مشهد الاحتضار ومشهد البعث. يعقب السياق بسؤال عن المشركين من قريش: ماذا ينتظرون؟ أينتظرون الملائكة فتتوفاهم؟ أم ينتظرون أمر الله فيبعثهم. وهذا ما ينتظرهم عند الوفاة، وما ينتظرهم يوم يبعثهم الله! أوليس في مصير المكذبين قبلهم، وقد شهدوه ممثلا في ذينك المشهدين عبرة وغناء:
هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك؟ كذلك فعل الذين من قبلهم، وما ظلمهم الله، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون. فأصابهم سيئات ما عملوا، وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون ..
[ ص: 2170 ] وعجيب أمر الناس. فإنهم يرون ما حل بمن قبلهم ممن يسلكون طريقهم، ثم يظلون سادرين في الطريق غير متصورين أن ما أصاب غيرهم يمكن أن يصيبهم، وغير مدركين أن سنة الله تمضي وفق ناموس مرسوم، وأن المقدمات تعطي دائما نتائجها، وأن الأعمال تلقى دائما جزاءها، وأن سنة الله لن تحابيهم ولن تتوقف إزاءهم، ولن تحيد عن طريقهم.
وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون فقد أتاهم الله حرية التدبر والتفكر والاختيار، وعرض عليهم آياته في الآفاق وفي أنفسهم، وحذرهم العاقبة، ووكلهم إلى عملهم وإلى سنته الجارية. فما ظلمهم في مصيرهم المحتوم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون.
وما قسا عليهم في عقوبة، إنما قست عليهم سيئات أعمالهم، لأنهم أصيبوا بها أي بنتائجها الطبيعية وجرائرها:
فأصابهم سيئات ما عملوا، وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون .. ولهذا التعبير وأمثاله دلالة، فإنهم لا يعاقبون بشيء خارج عن ثمرة أعمالهم الذاتية. وإنهم ليصابون بجرائر سلوكهم التلقائية. وهم ينتكسون إلى أدنى من رتبة البشرية بما يعملون، فيجازون بما هو أدنى من رتبة البشرية في دركات المقام المهين، والعذاب الأليم.