وبعد فإن القوم ليسوا أول من انحرف، وليسوا أول من جدف، فقد كان قبلهم منحرفون ومجدفون، أغواهم الشيطان، وزين لهم ما انحرفوا إليه من تصورات وأعمال، فصار وليهم الذي يشرف عليهم ويصرفهم;
[ ص: 2180 ] وإنما أرسل الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - ليستنقذهم، وليبين لهم الحق من الباطل، ويفصل فيما وقع بينهم من خلاف في عقائدهم وكتبهم، وليكون هدى ورحمة لمن يؤمنون.
تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك، فزين لهم الشيطان أعمالهم، فهو وليهم اليوم، ولهم عذاب أليم. وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه، وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ..
فوظيفة الكتاب الأخير والرسالة الأخيرة هي الفصل فيما شجر من خلاف بين أصحاب الكتب السابقة وطوائفهم. إذ الأصل هو التوحيد، وكل ما طرأ على التوحيد من شبهات وكل ما شابه من شرك في صورة من الصور، ومن تشبيه وتمثيل.. كله باطل جاء القرآن الكريم ليجلوه وينفيه. وليكون هدى ورحمة لمن استعدت قلوبهم للإيمان وتفتحت لتلقيه.
وعند هذا الحد يأخذ السياق في استعراض آيات الألوهية الواحدة فيما خلق الله في الكون، وفيما أودع الإنسان من صفات واستعدادات، وفيما وهبه من نعم وآلاء، مما لا يقدر عليه أحد إلا الله.
وقد ذكر في الآية السابقة إنزال الكتاب - وهو خير ما أنزل الله للناس وفيه حياة الروح - فهو يتبعه بإنزال الماء من السماء، وفيه حياة الأجسام:
والله أنزل من السماء ماء، فأحيا به الأرض بعد موتها. إن في ذلك لآية لقوم يسمعون ..
والماء حياة كل حي. والنص يجعله حياة للأرض كلها على وجه الشمول لكل ما عليها ومن عليها. والذي يحول الموت إلى حياة هو الذي يستحق أن يكون إلاها:
إن في ذلك لآية لقوم يسمعون فيتدبرون ما يسمعون. فهذه القضية - قضية آيات الألوهية ودلائلها من الحياة بعد الموت - ذكرها القرآن كثيرا ووجه الأنظار إليها كثيرا، ففيها آية لمن يسمع ويعقل ويتدبر ما يقال.
وعبرة أخرى في الأنعام تشير إلى عجيب صنع الخالق، وتدل على الألوهية بهذا الصنع العجيب:
وإن لكم في الأنعام لعبرة، نسقيكم مما في بطونه - من بين فرث ودم - لبنا خالصا سائغا للشاربين فهذا اللبن الذي تدره ضروع الأنعام مم هو؟ إنه مستخلص من بين فرث ودم. والفرث: ما يتبقى في الكرش بعد الهضم، وامتصاص الأمعاء للعصارة التي تتحول إلى دم، هذا الدم الذي يذهب إلى كل خلية في الجسم، فإذا صار إلى غدد اللبن في الضرع تحول إلى لبن ببديع صنع الله العجيب، الذي لا يدري أحد كيف يكون.
وعملية تحول الخلاصات الغذائية في الجسم إلى دم، وتغذية كل خلية بالمواد التي تحتاج إليها من مواد هذا الدم، عملية عجيبة فائقة العجب، وهي تتم في الجسم في كل ثانية، كما تتم عمليات الاحتراق. وفي كل لحظة تتم في هذا الجهاز الغريب عمليات هدم وبناء مستمرة لا تكف حتى تفارق الروح الجسد.. ولا يملك إنسان سوي الشعور أن يقف أمام هذه العمليات العجيبة لا تهتف كل ذرة فيه بتسبيح الخالق المبدع لهذا الجهاز الإنساني، الذي لا يقاس إليه أعقد جهاز من صنع البشر، ولا إلى خلية واحدة من خلاياه التي لا تحصى.
ووراء الوصف العام لعمليات الامتصاص والتحول والاحتراق تفصيلات تدير العقل، وعمل الخلية الواحدة في الجسم في هذه العملية عجب لا ينقضي التأمل فيه.
وقد بقي هذا كله سرا إلى عهد قريب. وهذه الحقيقة العلمية التي يذكرها القرآن هنا عن خروج اللبن من
[ ص: 2181 ] بين فرث ودم لم تكن معروفة لبشر، وما كان بشر في ذلك العهد ليتصورها فضلا على أن يقررها بهذه الدقة العلمية الكاملة. وما يملك إنسان يحترم عقله أن يماري في هذا أو يجادل. ووجود حقيقة واحدة من نوع هذه الحقيقة يكفي وحده لإثبات الوحي من الله بهذا القرآن. فالبشرية كلها كانت تجهل يوم ذاك هذه الحقيقة.
والقرآن - يعبر هذه الحقائق العلمية البحتة - يحمل أدلة الوحي من الله في خصائصه الأخرى لمن يدرك هذه الخصائص ويقدرها; ولكن ورود حقيقة واحدة على هذا النحو الدقيق يفحم المجادلين المتعنتين.
ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا. إن في ذلك لآية لقوم يعقلون ..
هذه الثمرات المنبثقة عن الحياة التي بثها الماء النازل من السماء. تتخذون منه سكرا (والسكر الخمر ولم تكن حرمت بعد)
ورزقا حسنا . والنص يلمح إلى أن الرزق الحسن غير الخمر وأن الخمر ليست رزقا حسنا، وفي هذا توطئة لما جاء بعد من تحريمها، وإنما كان يصف الواقع في ذلك الوقت من اتخاذهم الخمر من ثمرات النخيل والأعناب، وليس فيه نص بحلها، بل فيه توطئه لتحريمها
إن في ذلك لآية لقوم يعقلون .. فيدركون أن من يصنع هذا الرزق هو الذي يستحق العبودية له وهو الله..
وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا، ومن الشجر ومما يعرشون، ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا، يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس. إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون ..
والنحل تعمل بإلهام من الفطرة التي أودعها إياها الخالق، فهو لون من الوحي تعمل بمقتضاه. وهي تعمل بدقة عجيبة يعجز عن مثلها العقل المفكر، سواء في بناء خلاياها، أو في تقسيم العمل بينها، أو في طريقة إفرازها للعسل المصفى.
وهي تتخذ بيوتها - حسب فطرتها - في الجبال والشجر وما يعرشون - أي ما يرفعون من الكروم وغيرها - وقد ذلل الله لها سبل الحياة بما أودع في فطرتها وفي طبيعة الكون حولها من توافق. والنص على أن العسل فيه شفاء للناس قد شرحه بعض المختصين في الطب. شرحا فنيا . وهو ثابت بمجرد نص القرآن عليه. وهكذا يجب أن يعتقد المسلم استنادا إلى الحق الكلي الثابت في كتاب الله كما أثر عن رسول الله.
روى
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري nindex.php?page=showalam&ids=17080ومسلم عن
nindex.php?page=showalam&ids=44أبي سعيد الخدري ،
nindex.php?page=hadith&LINKID=655252أن رجلا جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن أخي استطلق بطنه، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "اسقه عسلا" فسقاه عسلا. ثم جاء فقال: يا رسول الله سقيته عسلا فما زاده إلا استطلاقا. قال: "اذهب فاسقه عسلا" فذهب فسقاه عسلا ثم جاء فقال: يا رسول الله ما زاده ذلك إلا استطلاقا. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "صدق الله وكذب بطن أخيك اذهب فاسقه عسلا" فذهب فسقاه عسلا فبرئ.
ويروعنا في هذا الأثر يقين الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمام ما بدا واقعا عمليا من استطلاق بطن الرجل كلما سقاه أخوه. وقد انتهى هذا اليقين بتصديق الواقع له في النهاية. وهكذا يجب أن يكون يقين المسلم بكل قضية وبكل حقيقة وردت في كتاب الله. مهما بدا في ظاهر الأمر أن ما يسمى الواقع يخالفها. فهي أصدق من ذلك الواقع الظاهري، الذي ينثني في النهاية ليصدقها..
[ ص: 2182 ] ونقف هنا أمام ظاهرة التناسق في عرض هذه النعم: إنزال الماء من السماء. وإخراج اللبن من بين فرث ودم. واستخراج السكر والرزق الحسن من ثمرات النخيل والأعناب. والعسل من بطون النحل.. إنها كلها أشربة تخرج من أجسام مخالفة لها في شكلها. ولما كان الجو جو أشربة فقد عرض من الأنعام لبنها وحده في هذا المجال تنسيقا لمفردات المشهد كله. وسنرى في الدرس التالي أنه عرض من الأنعام جلودها وأصوافها وأوبارها لأن الجو هناك كان جو أكنان وبيوت وسرابيل، فناسب أن يعرض من الأنعام جانبها الذي يتناسق مع مفردات المشهد.. وذلك أفق من آفاق التناسق الفني في القرآن.