صفحة جزء
ويخطو السياق خطوة أخرى في أسرار الخلق وآثار القدرة ومظاهر النعمة، يدخل بها إلى بيوت القوم وما يسر لهم فيها وحولها من سكن ومتاع وأكنان وظلال!

والله جعل لكم من بيوتكم سكنا، وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين. والله جعل لكم مما خلق ظلالا وجعل لكم من الجبال أكنانا وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم. كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون ..

والسكن والطمأنينة في البيوت نعمة لا يقدرها حق قدرها إلا المشردون الذين لا بيوت لهم ولا سكن ولا طمأنينة. وذكرها في السياق يجيء بعد الحديث عن الغيب. وظل السكن ليس غريبا عن ظل الغيب، فكلاهما فيه خفاء وستر. والتذكير بالسكن يمس المشاعر الغافلة عن قيمة هذه النعمة.

ونستطرد هنا إلى شيء عن نظرة الإسلام إلى البيت، بمناسبة هذا التعبير الموحي: والله جعل لكم من بيوتكم سكنا .. فهكذا يريد الإسلام البيت مكانا للسكينة النفسية والاطمئنان الشعوري. هكذا يريده مريحا تطمئن إليه النفس وتسكن وتأمن، سواء بكفايته المادية للسكنى والراحة، أو باطمئنان من فيه بعضهم [ ص: 2187 ] لبعض، وبسكن من فيه كل إلى الآخر. فليس البيت مكانا للنزاع والشقاق والخصام، إنما هو مبيت وسكن وأمن واطمئنان وسلام.

ومن ثم يضمن الإسلام للبيت حرمته، ليضمن له أمنه وسلامه واطمئنانه. فلا يدخله داخل إلا بعد الاستئذان، ولا يقتحمه أحد - بغير حق - باسم السلطان، ولا يتطلع أحد على من فيه لسبب من الأسباب، ولا يتجسس أحد على أهله في غفلة منهم أو غيبة، فيروع أمنهم، ويخل بالسكن الذي يريده الإسلام للبيوت، ويعبر عنه ذلك التعبير الجميل العميق!

ولأن المشهد مشهد بيوت وأكنان وسرابيل، فإن السياق يعرض من الأنعام جانبها الذي يتناسق مع مفردات المشهد: وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم، ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين . وهو هنا كذلك يستعرض من نعمة الأنعام ما يلبي الضرورات وما يلبي الأشواق، فيذكر المتاع، إلى جانب الأثاث. والمتاع ولو أنه يطلق على ما في الأرحال من فرش وأغطية وأدوات، إلا أنه يشي بالتمتع والارتياح.

ويرق التعبير في جو السكن والطمأنينة، وهو يشير إلى الظلال والأكنان في الجبال، وإلى السرابيل تقي في الحر وتقي في الحرب: والله جعل لكم مما خلق ظلالا، وجعل لكم من الجبال أكنانا، وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر، وسرابيل تقيكم بأسكم وللنفس في الظلال استرواح وسكن، ولها في الأكنان طمأنينة ووسن، ولها في السرابيل التي تقي الحر من الأردية والأغطية راحة وفي السرابيل التي تقي البأس من الدروع وغيرها وقاية.. وكلها بسبيل من طمأنينة البيوت وأمنها وراحتها وظلها.. ومن ثم يجيء التعقيب: كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون والإسلام استسلام وسكن وركون..

وهكذا تتناسق ظلال المشهد كله على طريقة القرآن في التصوير.

فإن أسلموا فبها. وإن تولوا وشردوا فما على الرسول إلا البلاغ. وليكونن إذا جاحدين منكرين، بعد ما عرفوا نعمة الله التي لا تقبل النكران!

فإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين. يعرفون نعمت الله ثم ينكرونها، وأكثرهم الكافرون ..

ثم يعرض ما ينتظر الكافرين عندما تأتي الساعة التي ذكرت في مطلع الحديث:

ويوم نبعث من كل أمة شهيدا، ثم لا يؤذن للذين كفروا ولا هم يستعتبون. وإذا رأى الذين ظلموا العذاب فلا يخفف عنهم ولا هم ينظرون. وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم قالوا: ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك. فألقوا إليهم القول: إنكم لكاذبون. وألقوا إلى الله يومئذ السلم، وضل عنهم ما كانوا يفترون. الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون ..

والمشهد يبدأ بموقف الشهداء من الأنبياء يدلون بما يعلمون مما وقع لهم في الدنيا مع أقوامهم من تبليغ وتكذيب، والذين كفروا واقفون لا يؤذن لهم في حجة ولا استشفاع ولا يطلب منهم أن يسترضوا ربهم بعمل أو قول، فقد فات أوان العتاب والاسترضاء، وجاء وقت الحساب والعقاب. وإذا رأى الذين ظلموا العذاب فلا يخفف عنهم ولا هم ينظرون .. ثم يقطع هذا الصمت رؤية الذين أشركوا لشركائهم في ساحة الحشر ممن كانوا يزعمون أنهم شركاء لله، وأنهم آلهة يعبدونهم مع الله أو من دون الله. فإذا هم يشيرون إليهم ويقولون!

ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك فاليوم يقرون: ربنا واليوم لا يقولون عن هؤلاء إنهم [ ص: 2188 ] شركاء لله. إنما يقولون: هؤلاء شركاؤنا .. ويفزع الشركاء ويرتجفون من هذا الاتهام الثقيل، فإذا هم يجبهون عبادهم بالكذب في تقرير وتوكيد: فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون ويتجهون إلى الله مستسلمين خاضعين وألقوا إلى الله يومئذ السلم .. وإذا المشركون لا يجدون من مفترياتهم شيئا يعتمدون عليه في موقفهم العصيب: وضل عنهم ما كانوا يفترون .. وينتهي الموقف بتقرير مضاعفة العذاب للذين كفروا وحملوا غيرهم على الكفر وصدوهم عن سبيل الله: الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون فالكفر فساد، والتكفير فساد، وقد ارتكبوا جريمة كفرهم، وجريمة صد غيرهم عن الهدى، فضوعف لهم العذاب جزاء وفاقا.

ذلك شأن عام مع جميع الأقوام. ثم يخصص السياق موقفا خاصا للرسول - صلى الله عليه وسلم - مع قومه:

ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم، وجئنا بك شهيدا على هؤلاء، ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء، وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين ..

وفي ظل المشهد المعروض للمشركين، والموقف العصيب الذي يكذب الشركاء فيه شركاءهم، ويستسلمون لله متبرئين من دعوى عبادهم الضالين، يبرز السياق شأن الرسول مع مشركي قريش يوم يبعث من كل أمة شهيد. فتجيء هذه اللمسة في وقتها وقوتها: وجئنا بك شهيدا على هؤلاء .. ثم يذكر أن في الكتاب الذي نزل على الرسول تبيانا لكل شيء فلا حجة بعده لمحتج، ولا عذر معه لمعتذر. وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين .. فمن شاء الهدى والرحمة فليسلم قبل أن يأتي اليوم المرهوب، فلا يؤذن للذين كفروا ولا هم يستعتبون..

وهكذا تجيء مشاهد القيامة في القرآن لأداء غرض في السياق، تتناسق مع جوه وتؤديه.

التالي السابق


الخدمات العلمية