وبعد أن ينتهي السياق من حرمة العرض وحرمة النفس، يتحدث عن حرمة مال اليتيم، وحرمة العهد.
ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن، حتى يبلغ أشده وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا ..
والإسلام يحفظ على المسلم دمه وعرضه وماله، لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -
nindex.php?page=hadith&LINKID=843045 "كل المسلم على [ ص: 2226 ] المسلم حرام دمه وعرضه وماله" ولكنه
يشدد في مال اليتيم ويبرز النهي عن مجرد قربه إلا بالتي هي أحسن. ذلك أن اليتيم ضعيف عن تدبير ماله، ضعيف عن الذود عنه، والجماعة الإسلامية مكلفة برعاية اليتيم وماله حتى يبلغ أشده ويرشد ويستطيع أن يدبر ماله وأن يدفع عنه.
ومما يلاحظ في هذه الأوامر والنواهي أن الأمور التي يكلف بها كل فرد بصفته الفردية جاء الأمر أو النهي فيها بصيغة المفرد; أما الأمور التي تناط بالجماعة فقد جاء الأمر أو النهي فيها بصيغة الجمع، ففي الإحسان للوالدين وإيتاء ذي القربى والمسكين وابن السبيل، وعدم التبذير، والتوسط في الإنفاق بين البخل والسرف، وفي التثبت من الحق والنهي عن الخيلاء والكبر.. كان الأمر أو النهي بصيغة المفرد لما لها من صبغة فردية. وفي النهي عن قتل الأولاد وعن الزنا وعن قتل النفس، والأمر برعاية مال اليتيم والوفاء بالعهد، وإيفاء الكيل والميزان كان الأمر أو النهي بصيغة الجمع لما لها من صبغة جماعية.
ومن ثم جاء النهي عن قرب مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن في صيغة الجمع، لتكون الجماعة كلها مسؤولة عن اليتيم وماله، فهذا عهد عليها بوصفها جماعة.
ولأن رعاية مال اليتيم عهد على الجماعة ألحق به الأمر بالوفاء بالعهد إطلاقا.
وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا .. يسأل الله جل جلاله عن الوفاء به، ويحاسب من ينكث به وينقضه.
وقد أكد الإسلام على الوفاء بالعهد وشدد. لأن هذا الوفاء مناط الاستقامة والثقة والنظافة في ضمير الفرد وفي حياة الجماعة. وقد تكرر الحديث عن الوفاء بالعهد في صور شتى في القرآن والحديث; سواء في ذلك عهد الله وعهد الناس. عهد الفرد وعهد الجماعة وعهد الدولة. عهد الحاكم وعهد المحكوم. وبلغ الإسلام في واقعه التاريخي شأوا بعيدا في الوفاء بالعهود لم تبلغه البشرية إلا في ظل الإسلام .
ومن الوفاء بالعهد إلى إيفاء الكيل والميزان:
وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم. ذلك خير وأحسن تأويلا ..
والمناسبة بين الوفاء بالعهد وإيفاء الكيل والميزان ظاهرة في المعنى واللفظ، فالانتقال في السياق ملحوظ التناسق.
وإيفاء الكيل والاستقامة في الوزن، أمانة في التعامل، ونظافة في القلب، يستقيم بهما التعامل في الجماعة، وتتوافر بهما الثقة في النفوس، وتتم بهما البركة في الحياة.
ذلك خير وأحسن تأويلا .. خير في الدنيا وأحسن مآلا في الآخرة.
والرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول:
"لا يقدر رجل على حرام ثم يدعه، ليس به إلا مخافة الله، إلا أبدله الله به في عاجل الدنيا قبل الآخرة ما هو خير من ذلك".
والطمع في الكيل والوزن قذارة وصغار في النفس، وغش وخيانة في التعامل تتزعزع بهما الثقة، ويتبعها الكساد، وتقل بهما البركة في محيط الجماعة، فيرتد هذا على الأفراد وهم يحسبون أنهم كاسبون بالتطفيف.
[ ص: 2227 ] وهو كسب ظاهري ووقتي، لأن الكساد في الجماعة يعود على الأفراد بعد حين.
وهذه حقيقة أدركها بعيدو النظر في عالم التجارة فاتبعوها، ولم يكن الدافع الأخلاقي، أو الحافز الديني هو الباعث عليها; بل مجرد إدراكها في واقع السوق بالتجربة العملية.
والفارق بين من يلتزم إيفاء الكيل والميزان تجارة، ومن يلتزمه اعتقادا.. أن هذا يحقق أهداف ذاك; ويزيد عليه نظافة القلب والتطلع في نشاطه العملي إلى آفاق أعلى من الأرض، وأوسع في تصور الحياة وتذوقها.
وهكذا يحقق الإسلام دائما أهداف الحياة العملية وهو ماض في طريقه إلى آفاقه الوضيئة وآماده البعيدة، ومجالاته الرحيبة.
والعقيدة الإسلامية عقيدة الوضوح والاستقامة والنصاعة. فلا يقوم شيء فيها على الظن أو الوهم أو الشبهة:
ولا تقف ما ليس لك به علم. إن السمع والبصر والفؤاد.. كل أولئك كان عنه مسؤولا ...
وهذه الكلمات القليلة تقيم منهجا كاملا للقلب والعقل، يشمل المنهج العلمي الذي عرفته البشرية حديثا جدا، ويضيف إليه استقامة القلب ومراقبة الله، ميزة الإسلام على المناهج العقلية الجافة!
فالتثبت من كل خبر ومن كل ظاهرة ومن كل حركة قبل الحكم عليها هو دعوة القرآن الكريم، ومنهج الإسلام الدقيق. ومتى استقام القلب والعقل على هذا المنهج لم يبق مجال للوهم والخرافة في عالم العقيدة. ولم يبق مجال للظن والشبهة في عالم الحكم والقضاء والتعامل. ولم يبق مجال للأحكام السطحية والفروض الوهمية في عالم البحوث والتجارب والعلوم.
والأمانة العلمية التي يشيد بها الناس في العصر الحديث ليست سوى طرف من الأمانة العقلية القلبية التي يعلن القرآن تبعتها الكبرى، ويجعل الإنسان مسؤولا عن سمعه وبصره وفؤاده، أمام واهب السمع والبصر والفؤاد..
إنها أمانة الجوارح والحواس والعقل والقلب. أمانة يسأل عنها صاحبها، وتسأل عنها الجوارح والحواس والعقل والقلب جميعا. أمانة يرتعش الوجدان لدقتها وجسامتها كلما نطق اللسان بكلمة، وكلما روى الإنسان رواية، وكلما أصدر حكما على شخص أو أمر أو حادثة.
ولا تقف ما ليس لك به علم .. ولا تتبع ما لم تعلمه علم اليقين، وما لم تتثبت من صحته: من قول يقال ورواية تروى، من ظاهرة تفسر أو واقعة تعلل. ومن حكم شرعي أو قضية اعتقادية.
وفي الحديث:
nindex.php?page=hadith&LINKID=888185 "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث" . وفي سنن
nindex.php?page=showalam&ids=11998أبي داود :
nindex.php?page=hadith&LINKID=84501 "بئس مطية الرجل: زعموا" وفي الحديث الآخر:
nindex.php?page=hadith&LINKID=686298 "إن أفرى الفري أن يري الرجل عينيه ما لم تريا"..
وهكذا تتضافر الآيات والأحاديث على تقرير ذلك المنهج الكامل المتكامل الذي لا يأخذ العقل وحده بالتحرج في أحكامه، والتثبت في استقرائه; إنما يصل ذلك التحرج بالقلب في خواطره وتصوراته، وفي مشاعره وأحكامه، فلا يقول اللسان كلمة ولا يروي حادثة ولا ينقل رواية، ولا يحكم العقل حكما ولا يبرم الإنسان أمرا إلا وقد تثبت من كل جزئية ومن كل ملابسة ومن كل نتيجة، فلم يبق هنالك شك ولا شبهة في صحتها.
إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم حقا وصدقا..
[ ص: 2228 ] وتختم هذه الأوامر والنواهي المرتبطة بعقيدة التوحيد بالنهي عن الكبر الفارغ والخيلاء الكاذبة:
ولا تمش في الأرض مرحا. إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا ..
والإنسان حين يخلو قلبه من الشعور بالخالق القاهر فوق عباده تأخذه الخيلاء بما يبلغه من ثراء أو سلطان، أو قوة أو جمال. ولو تذكر أن ما به من نعمة فمن الله، وأنه ضعيف أمام حول الله، لطامن من كبريائه، وخفف من خيلائه، ومشى على الأرض هونا لا تيها ولا مرحا.
والقرآن يجبه المتطاول المختال المرح بضعفه وعجزه وضآلته:
إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا فالإنسان بجسمه ضئيل هزيل، لا يبلغ شيئا من الأجسام الضخمة التي خلقها الله. إنما هو قوي بقوة الله، عزيز بعزة الله، كريم بروحه الذي نفخه الله فيه، ليتصل به ويراقبه ولا ينساه.
ذلك التطامن والتواضع الذي يدعو إليه القرآن بترذيل المرح والخيلاء، أدب مع الله، وأدب مع الناس. أدب نفسي وأدب اجتماعي. وما يترك هذا الأدب إلى الخيلاء والعجب إلا فارغ صغير القلب صغير الاهتمامات. يكرهه الله لبطره ونسيان نعمته، ويكرهه الناس لانتفاشه وتعاليه.
وفي الحديث: "من تواضع لله رفعه فهو في نفسه حقير وعند الناس كبير. ومن استكبر وضعه الله، فهو في نفسه كبير وعند الناس حقير. حتى لهو أبغض إليهم من الكلب والخنزير".
وتنتهي تلك الأوامر والنواهي، والغالب فيها هو النهي عن ذميم الفعال والصفات بإعلان كراهية الله للسيئ منها:
كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها .
فيكون هذا تلخيصا وتذكيرا بمرجع الأمر والنهي، وهو كراهية الله للسيئ من تلك الأمور. ويسكت عن الحسن المأمور به، لأن النهي عن السيئ هو الغالب فيها كما ذكرنا.
ويختم الأوامر والنواهي كما بدأها بربطها بالله وعقيدة التوحيد والتحذير من الشرك. وبيان أنها بعض الحكمة التي يهدي إليها القرآن الذي أوحاه الله إلى الرسول:
ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا .
وهو ختام يشبه الابتداء. فتجيء محبوكة الطرفين، موصولة بالقاعدة الكبرى التي يقيم عليها الإسلام بناء الحياة، قاعدة توحيد الله وعبادته دون سواه..