ولقد كانت الشبهة التي عرضت للأقوام من قبل أن يأتيهم
محمد - صلى الله عليه وسلم - ومن بعد ما جاءهم، والتي صدتهم عن الإيمان بالرسل وما معهم من الهدى، أنهم استبعدوا أن يكون الرسول بشرا; ولا يكون ملكا:
وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا: أبعث الله بشرا رسولا؟ وقد نشأ هذا الوهم من عدم إدراك الناس لقيمة بشريتهم وكرامتها على الله، فاستكثروا على بشر أن يكون رسولا من عند الله. كذلك نشأ هذا الوهم من عدم إدراكهم لطبيعة الكون وطبيعة الملائكة، وأنهم ليسوا مهيئين للاستقرار في الأرض وهم في صورتهم الملائكية حتى يميزهم الناس ويستيقنوا أنهم ملائكة.
قل: لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا .
فلو قدر الله أن الملائكة تعيش في الأرض لصاغهم في صورة آدمية، لأنها الصورة التي تتفق مع نواميس الخلق وطبيعة الأرض، كما قال في آية أخرى:
ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا والله قادر على كل شيء، ولكنه خلق نواميس وبرأ مخلوقاته وفق هذه النواميس بقدرته واختياره، وقدر أن تمضي النواميس في طريقها لا تتبدل ولا تتحول، لتحقق حكمته في الخلق والتكوين - غير أن القوم لا يدركون!
وما دامت هذه سنة الله في خلقه، فهو يأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن ينهي معهم الجدل، وأن يكل أمره وأمرهم إلى الله يشهده عليهم، ويدع له التصرف في أمرهم، وهو الخبير البصير بالعباد جميعا:
قل: كفى بالله شهيدا بيني وبينكم، إنه كان بعباده خبيرا بصيرا ..
وهو قول يحمل رائحة التهديد. أما عاقبته فيرسمها في مشهد من مشاهد القيامة مخيف:
ومن يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا. ذلك جزاؤهم بأنهم كفروا بآياتنا، وقالوا: أإذا كنا عظاما ورفاتا أإنا لمبعوثون خلقا جديدا؟ أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم؟ وجعل لهم أجلا لا ريب فيه، فأبى الظالمون إلا كفورا ..
ولقد جعل الله للهدى وللضلال سننا، وترك الناس لهذه السنن يسيرون وفقها، ويتعرضون لعواقبها. ومن هذه السنن أن الإنسان مهيأ للهدى وللضلال، وفق ما يحاوله لنفسه من السير في طريق الهدى أو طريق الضلال. فالذي يستحق هداية الله بمحاولته واتجاهه يهديه الله; وهذا هو المهتدي حقا، لأنه اتبع هدى الله. والذين يستحقون الضلال بالإعراض عن دلائل الهدى وآياته لا يعصمهم أحد من عذاب الله:
فلن تجد لهم أولياء من دونه ويحشرهم يوم القيامة في صورة مهينة مزعجة:
على وجوههم يتكفأون
عميا وبكما وصما مطموسين محرومين من جوارحهم التي تهديهم في هذا الزحام. جزاء ما عطلوا هذه الجوارح في الدنيا عن إدراك دلائل الهدى. و
مأواهم جهنم في النهاية، لا تبرد ولا تفتر
كلما خبت زدناهم سعيرا .
وهي نهاية مفزعة وجزاء مخيف. ولكنهم يستحقونه بكفرهم بآيات الله:
ذلك جزاؤهم بأنهم كفروا بآياتنا واستنكروا البعث واستبعدوا وقوعه:
وقالوا: أإذا كنا عظاما ورفاتا أإنا لمبعوثون خلقا جديدا؟ [ ص: 2252 ] والسياق يعرض هذا المشهد كأنه هو الحاضر الآن، وكأنما الدنيا التي كانوا فيها قد انطوت صفحتها وصارت ماضيا بعيدا.. وذلك على طريقة القرآن في تجسيم المشاهد وعرضها واقعة حية، تفعل فعلها في القلوب والمشاعر قبل فوات الأوان.
ثم يعود ليجادلهم بالمنطق الواقعي الذي يرونه فيغفلونه.
أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم؟ فأية غرابة في البعث; والله خالق هذا الكون الهائل قادر على أن يخلق مثلهم، فهو قادر إذا على أن يعيدهم أحياء.
وجعل لهم أجلا لا ريب فيه أنظرهم إليه، وأجلهم إلى موعده
فأبى الظالمون إلا كفورا فكان جزاؤهم عادلا بعد منطق الدلالات ومنطق المشاهدات، ووضوح الآيات.
على أن أولئك الذين يقترحون على الرسول - صلى الله عليه وسلم - تلك المقترحات المتعنتة، من بيوت الزخرف، وجنات النخيل والأعناب، والينابيع المتفجرة ... بخلاء أشحاء حتى لو أن رحمة الله قد وكلت إليهم خزائنها لأمسكوا وبخلوا خوفا من نفادها، ورحمة الله لا تنفد ولا تغيض:
قل: لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا .
وهي صورة بالغة للشح، فإن رحمة الله وسعت كل شيء، ولا يخشى نفادها ولا نقصها. ولكن نفوسهم لشحيحة تمنع هذه الرحمة وتبخل بها لو أنهم كانوا هم خزنتها!
وعلى أية حال فإن كثرة الخوارق لا تنشئ الإيمان في القلوب الجاحدة. وها هو ذا
موسى قد أوتي تسع آيات بينات ثم كذب بها فرعون وملؤه، فحل بهم الهلاك جميعا.
ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات، فاسأل بني إسرائيل إذ جاءهم، فقال له فرعون: إني لأظنك يا موسى مسحورا. قال: لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر، وإني لأظنك يا فرعون مثبورا. فأراد أن يستفزهم من الأرض فأغرقناه ومن معه جميعا. وقلنا من بعده لبني إسرائيل: اسكنوا الأرض فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا ..
وهذا المثل من قصة
موسى وبني إسرائيل يذكر لتناسقه مع سياق السورة وذكر
المسجد الأقصى في أولها وطرف من قصة بني إسرائيل
وموسى . وكذلك يعقب عليه بذكر الآخرة والمجيء
بفرعون وقومه لمناسبة مشهد القيامة القريب في سياق السورة ومصير المكذبين بالبعث الذي صوره هذا المشهد.
والآيات التسع المشار إليها هنا هي اليد البيضاء والعصا وما أخذ الله به
فرعون وقومه من السنين ونقص الثمرات والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم..
فاسأل بني إسرائيل إذ جاءهم فهم شهداء على ما كان بين
موسى وفرعون :
فقال له فرعون: إني لأظنك يا موسى مسحورا .. فكلمة الحق وتوحيد الله والدعوة إلى ترك الظلم والطغيان والإيذاء لا تصدر في عرف الطاغية إلا من مسحور لا يدري ما يقول! فما يستطيع الطغاة من أمثال
فرعون أن يتصوروا هذه المعاني ولا أن يرفع أحد رأسه ليتحدث عنها وهو يملك قواه العقلية!
فأما
موسى فهو قوي بالحق الذي أرسل به مشرقا منيرا مطمئن إلى نصرة الله له وأخذه للطغاة:
[ ص: 2253 ] قال: لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض. بصائر. وإني لأظنك يا فرعون مثبورا هالكا مدمرا، جزاء تكذيبك بآيات الله وأنت تعلم أن لا أحد غيره يملك هذه الخوارق. وإنها لواضحة مكشوفة منيرة للبصائر، حتى لكأنها البصائر تكشف الحقائق وتجلوها.
عندئذ يلجأ الطاغية إلى قوته المادية، ويعزم أن يزيلهم من الأرض ويبيدهم،
فأراد أن يستفزهم من الأرض فكذلك يفكر الطغاة في الرد على كلمة الحق.
وعندئذ تحق على الطاغية كلمة الله، وتجري سنته بإهلاك الظالمين وتوريث المستضعفين الصابرين:
فأغرقناه ومن معه جميعا. وقلنا من بعده لبني إسرائيل: اسكنوا الأرض. فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا ..
وهكذا كانت عاقبة التكذيب بالآيات. وهكذا أورث الله الأرض للذين كانوا يستضعفون، موكولين فيها إلى أعمالهم وسلوكهم - وقد عرفنا كيف كان مصيرهم في أول السورة - أما هنا فهو يكلهم هم وأعداءهم إلى جزاء الآخرة،
فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا .