واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه، ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا، ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا، واتبع هواه وكان أمره فرطا. وقل: الحق من ربكم. فمن شاء فليؤمن. ومن شاء فليكفر ..
يروى أنها نزلت في أشراف
قريش ، حين طلبوا إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يطرد فقراء المؤمنين من أمثال
nindex.php?page=showalam&ids=115بلال nindex.php?page=showalam&ids=52وصهيب nindex.php?page=showalam&ids=56وعمار nindex.php?page=showalam&ids=211وخباب nindex.php?page=showalam&ids=10وابن مسعود إذا كان يطمع في إيمان رؤوس
قريش . أو أن يجعل لهم مجلسا غير مجلس هؤلاء النفر، لأن عليهم جبابا تفوح منها رائحة العرق، فتؤذي السادة من كبراء
قريش !
ويروى أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - طمع في إيمانهم فحدثته نفسه فيما طلبوا إليه. فأنزل الله عز وجل:
واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي ... أنزلها تعلن عن القيم الحقيقية، وتقيم الميزان الذي لا يخطئ. وبعد ذلك
فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر فالإسلام لا يتملق أحدا، ولا يزن الناس بموازين الجاهلية الأولى، ولا أية جاهلية تقيم للناس ميزانا غير ميزانه.
واصبر نفسك .. لا تمل ولا تستعجل
مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه .. فالله غايتهم، يتجهون إليه بالغداة والعشي، لا يتحولون عنه، ولا يبتغون إلا رضاه. وما يبتغونه أجل وأعلى من كل ما يبتغيه طلاب الحياة.
اصبر نفسك مع هؤلاء. صاحبهم وجالسهم وعلمهم. ففيهم الخير، وعلى مثلهم تقوم الدعوات. فالدعوات لا تقوم على من يعتنقونها لأنها غالبة; ومن يعتنقونها ليقودوا بها الأتباع; ومن يعتنقونها ليحققوا بها الأطماع، وليتجروا بها في سوق الدعوات تشترى منهم وتباع! إنما تقوم الدعوات بهذه القلوب التي تتجه إلى الله خالصة له، لا تبغي جاها ولا متاعا ولا انتفاعا، إنما تبتغي وجهه وترجو رضاه.
ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا .. ولا يتحول اهتمامك عنهم إلى مظاهر الحياة التي يستمتع بها أصحاب الزينة. فهذه زينة الحياة "الدنيا" لا ترتفع إلى ذلك الأفق العالي الذي يتطلع إليه من يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه.
ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا، واتبع هواه، وكان أمره فرطا .. لا تطعهم فيما يطلبون من تمييز بينهم وبين الفقراء. فلو ذكروا الله لطامنوا من كبريائهم، وخففوا من غلوائهم، وخفضوا من تلك الهامات المتشامخة، واستشعروا جلال الله الذي تتساوى في ظله الرؤوس; وأحسوا رابطة العقيدة التي يصبح بها الناس إخوة. ولكنهم إنما يتبعون أهواءهم. أهواء الجاهلية. ويحكمون مقاييسها في العباد. فهم وأقوالهم سفه ضائع لا يستحق إلا الإغفال جزاء ما غفلوا عن ذكر الله.
لقد جاء الإسلام ليسوي بين الرؤوس أمام الله. فلا تفاضل بينها بمال ولا نسب ولا جاه. فهذه قيم زائفة،
[ ص: 2269 ] وقيم زائلة. إنما التفاضل بمكانها عند الله. ومكانها عند الله يوزن بقدر اتجاهها إليه وتجردها له. وما عدا هذا فهو الهوى والسفه والبطلان.
ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا .. أغفلنا قلبه حين اتجه إلى ذاته، وإلى ماله، وإلى أبنائه، وإلى متاعه ولذائذه وشهواته، فلم يعد في قلبه متسع لله. والقلب الذي يشتغل بهذه الشواغل، ويجعلها غاية حياته لا جرم يغفل عن ذكر الله، فيزيده الله غفلة، ويملي له فيما هو فيه، حتى تفلت الأيام من بين يديه، ويلقى ما أعده الله لأمثاله الذين يظلمون أنفسهم، ويظلمون غيرهم:
وقل: الحق من ربكم، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ..
بهذه العزة، وبهذه الصراحة، وبهذه الصرامة، فالحق لا ينثني ولا ينحني، إنما يسير في طريقه قيما لا عوج فيه، قويا لا ضعف فيه، صريحا لا مداورة فيه. فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. ومن لم يعجبه الحق فليذهب، ومن لم يجعل هواه تبعا لما جاء من عند الله فلا مجاملة على حساب العقيدة; ومن لم يحن هامته ويطامن من كبريائه أمام جلال الله فلا حاجة بالعقيدة إليه.
إن العقيدة ليست ملكا لأحد حتى يجامل فيها. إنما هي ملك لله، والله غني عن العالمين. والعقيدة لا تعتز ولا تنتصر بمن لا يريدونها لذاتها خالصة، ولا يأخذونها كما هي بلا تحوير. والذي يترفع عن المؤمنين الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه لا يرجى منه خير للإسلام ولا المسلمين.
ثم يعرض ما أعد للكافرين، وما أعد للمؤمنين في مشهد من مشاهد القيامة:
إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه. بئس الشراب وساءت مرتفقا. إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا. أولئك لهم جنات عدن تجري من تحتهم الأنهار، يحلون فيها من أساور من ذهب ويلبسون ثيابا خضرا من سندس وإستبرق، متكئين فيها على الأرائك. نعم الثواب وحسنت مرتفقا .
إنا أعتدنا للظالمين نارا .. أعددناها وأحضرناها.. فهي لا تحتاج إلى جهد لإيقادها، ولا تستغرق زمنا لإعدادها! ومع أن خلق أي شيء لا يقتضي إلا كلمة الإرادة: كن. فيكون. إلا أن التعبير هنا بلفظ
أعتدنا يلقي ظل السرعة والتهيؤ والاستعداد، والأخذ المباشر إلى النار المعدة المهيأة للاستقبال!
وهي نار ذات سرادق يحيط بالظالمين، فلا سبيل إلى الهرب، ولا أمل في النجاة والإفلات. ولا مطمع في منفذ تهب منه نسمة، أو يكون فيه استرواح!
فإن استغاثوا من الحريق والظمإ أغيثوا.. أغيثوا بماء كدردي الزيت المغلي في قول، وكالصديد الساخن في قول! يشوي الوجوه بالقرب منها فكيف بالحلوق والبطون التي تتجرعه
بئس الشراب الذي يغاث به الملهوفون من الحريق! ويا لسوء النار وسرادقها مكانا للارتفاق والاتكاء. وفي ذكر الارتفاق في سرادق النار تهكم مرير. فما هم هنالك للارتفاق، إنما هم للاشتواء! ولكنها مقابلة مع ارتفاق الذين آمنوا وعملوا الصالحات هنالك في الجنان.. وشتان شتان!
وبينما هؤلاء كذلك إذا الذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنات عدن. للإقامة. تجري من تحتهم الأنهار بالري وبهجة المنظر واعتدال النسيم. وهم هنالك للارتفاق حقا
متكئين فيها على الأرائك وهم رافلون في
[ ص: 2270 ] ألوان من الحرير. من سندس ناعم خفيف ومن إستبرق مخمل كثيف. تزيد عليها أساور من ذهب للزينة والمتاع:
نعم الثواب وحسنت مرتفقا !
ومن شاء فليختر. ومن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. ومن شاء فليجالس فقراء المؤمنين، وجبابهم تفوح منها رائحة العرق أو فلينفر. فمن لم ترضه رائحة العرق من تلك الجباب، التي تضم القلوب الزكية بذكر الله، فليرتفق في سرادق النار، وليهنأ بدردي الزيت أو القيح يغاث به من النار..