صفحة جزء
وتبدأ الآيات بأمر المسلمين بقتال هؤلاء الذين قاتلوهم وما يزالون يقاتلونهم، وبقتال من يقاتلهم في أي وقت وفي أي مكان، ولكن دون اعتداء:

وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم، ولا تعتدوا، إن الله لا يحب المعتدين ..

وفي أول آية من آيات القتال نجد التحديد الحاسم لهدف القتال ، والراية التي تخاض تحتها المعركة في وضوح وجلاء:

وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ..

إنه القتال لله، لا لأي هدف آخر من الأهداف التي عرفتها البشرية في حروبها الطويلة. القتال في سبيل الله. لا في سبيل الأمجاد والاستعلاء في الأرض، ولا في سبيل المغانم والمكاسب; ولا في سبيل الأسواق والخامات; ولا في سبيل تسويد طبقة على طبقة أو جنس على جنس.. إنما هو القتال لتلك الأهداف المحددة التي من أجلها شرع الجهاد في الإسلام، القتال لإعلاء كلمة الله في الأرض، وإقرار منهجه في الحياة، وحماية المؤمنين به أن يفتنوا عن دينهم، أو أن يجرفهم الضلال والفساد، وما عدا هذه فهي حرب غير مشروعة في حكم الإسلام، وليس لمن يخوضها أجر عند الله ولا مقام.

ومع تحديد الهدف، تحديد المدى: [ ص: 188 ] ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ..

والعدوان يكون بتجاوز المحاربين المعتدين إلى غير المحاربين من الآمنين المسالمين الذين لا يشكلون خطرا على الدعوة الإسلامية ولا على الجماعة المسلمة، كالنساء والأطفال والشيوخ والعباد المنقطعين للعبادة من أهل كل ملة ودين.. كما يكون بتجاوز آداب القتال التي شرعها الإسلام ، ووضع بها حدا للشناعات التي عرفتها حروب الجاهليات الغابرة والحاضرة على السواء.. تلك الشناعات التي ينفر منها حس الإسلام، وتأباها تقوى الإسلام.

وهذه طائفة من أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - ووصايا أصحابه، تكشف عن طبيعة هذه الآداب، التي عرفتها البشرية أول مرة على يد الإسلام:

عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: وجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قتل النساء والصبيان" .. "أخرجه مالك والشيخان وأبو داود والترمذي .

وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه ..

"أخرجه الشيخان .

وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "إن وجدتم فلانا وفلانا "رجلين من قريش " فأحرقوهما بالنار" . فلما أردنا الخروج قال: "كنت أمرتكم أن تحرقوا فلانا وفلانا، وإن النار لا يعذب بها إلا الله تعالى فإن وجدتموهما فاقتلوهما" .. "أخرجه البخاري وأبو داود والترمذي ".

وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أعف الناس قتلة أهل الإيمان .. "أخرجه أبو داود .

وعن عبد الله بن يزيد الأنصاري - رضي الله عنه - قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن النهبى والمثلة .. "أخرجه البخاري .

وعن ابن يعلى قال: غزونا مع عبد الرحمن بن خالد بن الوليد ، فأتى بأربعة أعلاج من العدو، فأمر بهم فقتلوا صبرا بالنبل. فبلغ ذلك أبا أيوب الأنصاري - رضي الله عنه - فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن قتل الصبر. فوالذي نفسي بيده، لو كانت دجاجة ما صبرتها. فبلغ ذلك عبد الرحمن ، فأعتق أربع رقاب .. "أخرجه أبو داود ".

وعن الحارث بن مسلم بن الحارث عن أبيه - رضي الله عنه - قال: بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سرية; فلما بلغنا المغار استحثثت فرسي فسبقت أصحابي; فتلقاني أهل الحي بالرنين فقلت لهم: قولوا: لا إله إلا الله تحرزوا . فقالوها. فلامني أصحابي، وقالوا: حرمتنا الغنيمة فلما قدمنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبروه بالذي صنعت. فدعاني فحسن لي ما صنعت. ثم قال لي: "إن الله تعالى [ ص: 189 ] قد كتب لك بكل إنسان منهم كذا وكذا من الأجر .. "أخرجه أبو داود وعن بريدة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم - إذا أمر الأمير على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله تعالى، وبمن معه من المسلمين خيرا. ثم قال له: "اغزوا باسم الله، في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله. اغزوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا .. "أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي .

وروى مالك عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - أنه قال في وصيته لجنده: ستجدون قوما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله، فدعوهم وما حبسوا أنفسهم له، ولا تقتلن امرأة ولا صبيا ولا كبيرا هرما ..

فهذه هي الحرب التي يخوضها الإسلام; وهذه هي آدابه فيها; وهذه هي أهدافه منها.. وهي تنبثق من ذلك التوجيه القرآني الجليل:

وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم، ولا تعتدوا، إن الله لا يحب المعتدين ..

وقد كان المسلمون يعلمون أنهم لا ينصرون بعددهم - فعددهم قليل - ولا ينصرون بعدتهم وعتادهم - فما معهم منه أقل مما مع أعدائهم - إنما هم ينصرون بإيمانهم وطاعتهم وعون الله لهم. فإذا هم تخلوا عن توجيه الله لهم وتوجيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد تخلوا عن سبب النصر الوحيد الذي يرتكنون إليه. ومن ثم كانت تلك الآداب مرعية حتى مع أعدائهم الذين فتنوهم ومثلوا ببعضهم أشنع التمثيل.. ولما فار الغضب برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمر بحرق فلان وفلان "رجلين من قريش عاد فنهى عن حرقهما، لأنه لا يحرق بالنار إلا الله .

ثم يمعن السياق في توكيد القتال لهؤلاء الذين قاتلوا المسلمين وفتنوهم في دينهم ، وأخرجوهم من ديارهم، والمضي في القتال حتى يقتلوهم على أية حالة، وفي أي مكان وجدوهم. باستثناء المسجد الحرام . إلا أن يبدأ الكفار فيه بالقتال. وإلا أن يدخلوا في دين الله فتكف أيدي المسلمين عنهم، مهما كانوا قد آذوهم من قبل وقاتلوهم وفتنوهم:

واقتلوهم حيث ثقفتموهم، وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل. ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه. فإن قاتلوكم فاقتلوهم. كذلك جزاء الكافرين. فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم ..

إن الفتنة عن الدين اعتداء على أقدس ما في الحياة الإنسانية. ومن ثم فهي أشد من القتل. أشد من قتل النفس وإزهاق الروح وإعدام الحياة. ويستوي أن تكون هذه الفتنة بالتهديد والأذى الفعلي، أو بإقامة أوضاع فاسدة من شأنها أن تضل الناس وتفسدهم وتبعدهم عن منهج الله، وتزين لهم الكفر به أو الإعراض عنه. وأقرب الأمثلة على هذا هو النظام الشيوعي الذي يحرم تعليم الدين ويبيح تعليم الإلحاد، ويسن تشريعات تبيح المحرمات كالزنا والخمر، ويحسنها للناس بوسائل التوجيه بينما يقبح لهم اتباع الفضائل المشروعة في منهج الله. ويجعل من هذه الأوضاع فروضا حتمية لا يملك الناس التفلت منها.

وهذه النظرة الإسلامية لحرية العقيدة، وإعطاؤها هذه القيمة الكبرى في حياة البشرية.. هي التي تتفق مع طبيعة الإسلام، ونظرته إلى غاية الوجود الإنساني. فغاية الوجود الإنساني هي العبادة "ويدخل في نطاقها كل نشاط خير يتجه به صاحبه إلى الله". وأكرم ما في الإنسان حرية الاعتقاد . فالذي يسلبه هذه الحرية، ويفتنه عن دينه فتنة مباشرة أو بالواسطة، يجني عليه ما لا يجني عليه قاتل حياته. ومن ثم يدفعه بالقتل..

لذلك لم يقل: وقاتلوهم. إنما قال: "واقتلوهم". واقتلوهم حيث ثقفتموهم .. أي: حيث وجدتموهم. [ ص: 190 ] في أية حالة كانوا عليها; وبأية وسيلة تملكونها - مع مراعاة أدب الإسلام في عدم المثلة أو الحرق بالنار .

ولا قتال عند المسجد الحرام ، الذي كتب الله له الأمن، وجعل جواره آمنا استجابة لدعوة خليله إبراهيم "عليه السلام وجعله مثابة يثوب إليها الناس فينالون فيه الأمن والحرمة والسلام.. لا قتال عند المسجد الحرام إلا للكافرين الذين لا يرعون حرمته، فيبدؤون بقتال المسلمين عنده. وعند ذلك يقاتلهم المسلمون ولا يكفون عنهم حتى يقتلوهم.. فذلك هو الجزاء اللائق بالكافرين، الذين يفتنون الناس عن دينهم، ولا يرعون حرمة للمسجد الحرام ، الذي عاشوا في جواره آمنين.

فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم ..

والانتهاء الذي يستأهل غفران الله ورحمته ، هو الانتهاء عن الكفر، لا مجرد الانتهاء عن قتال المسلمين أو فتنتهم عن الدين. فالانتهاء عن قتال المسلمين وفتنتهم قصاراه أن يهادنهم المسلمون. ولكنه لا يؤهل لمغفرة الله ورحمته. فالتلويح بالمغفرة والرحمة هنا يقصد به إطماع الكفار في الإيمان، لينالوا المغفرة والرحمة بعد الكفر والعدوان.

وما أعظم الإسلام، وهو يلوح للكفار بالمغفرة والرحمة، ويسقط عنهم القصاص والدية بمجرد دخولهم في الصف المسلم، الذي قتلوا منه وفتنوا، وفعلوا بأهله الأفاعيل!!! وغاية القتال هي ضمانة ألا يفتن الناس عن دين الله، وألا يصرفوا عنه بالقوة أو ما يشبهها كقوة الوضع الذي يعيشون فيه بوجه عام، وتسلط عليهم فيه المغريات والمضلات والمفسدات. وذلك بأن يعز دين الله ويقوى جانبه، ويهابه أعداؤه، فلا يجرؤوا على التعرض للناس بالأذى والفتنة، ولا يخشى أحد يريد الإيمان أن تصده عنه قوة أو أن تلحق به الأذى والفتنة.. والجماعة المسلمة مكلفة إذن أن تظل تقاتل حتى تقضي على هذه القوى المعتدية الظالمة; وحتى تصبح الغلبة لدين الله والمنعة:

وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله. فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين ..

وإذا كان النص - عند نزوله - يواجه قوة المشركين في شبه الجزيرة ، وهي التي كانت تفتن الناس، وتمنع أن يكون الدين لله، فإن النص عام الدلالة، مستمر التوجيه. والجهاد ماض إلى يوم القيامة . ففي كل يوم تقوم قوة ظالمة تصد الناس عن الدين، وتحول بينهم وبين سماع الدعوة إلى الله، والاستجابة لها عند الاقتناع، والاحتفاظ بها في أمان. والجماعة المسلمة مكلفة في كل حين أن تحطم هذه القوة الظالمة; وتطلق الناس أحرارا من قهرها، يستمعون ويختارون ويهتدون إلى الله.

وهذا التكرار في الحديث عن منع الفتنة، بعد تفظيعها واعتبارها أشد من القتل .. هذا التكرار يوحي بأهمية الأمر في اعتبار الإسلام; وينشئ مبدأ عظيما يعني في حقيقته ميلادا جديدا للإنسان على يد الإسلام.

ميلادا تتقرر فيه قيمة الإنسان بقيمة عقيدته، وتوضع حياته في كفة وعقيدته في كفة، فترجح كفة العقيدة.

كذلك يتقرر في هذا المبدأ من هم أعداء "الإنسان" .. إنهم أولئك الذين يفتنون مؤمنا عن دينه، ويؤذون مسلما بسبب إسلامه. أولئك الذين يحرمون البشرية أكبر عنصر للخير ويحولون بينها وبين منهج الله..

وهؤلاء على الجماعة المسلمة أن تقاتلهم، وأن تقتلهم حيث وجدتهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله ..

وهذا المبدأ العظيم الذي سنه الإسلام في أوائل ما نزل من القرآن عن القتال ما يزال قائما. وما تزال العقيدة تواجه من يعتدون عليها وعلى أهلها في شتى الصور.. وما يزال الأذى والفتنة تلم بالمؤمنين أفرادا وجماعات وشعوبا كاملة في بعض الأحيان.. وكل من يتعرض للفتنة في دينه والأذى في عقيدته في أية صورة من الصور، [ ص: 191 ] وفي أي شكل من الأشكال، مفروض عليه أن يقاتل وأن يقتل; وأن يحقق المبدأ العظيم الذي سنه الإسلام، فكان ميلادا جديدا للإنسان..

فإذا انتهى الظالمون عن ظلمهم وكفوا عن الحيلولة بين الناس وربهم; فلا عدوان عليهم - أي لا مناجزة لهم - لأن الجهاد إنما يوجه إلى الظلم والظالمين:

فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين .

ويسمى دفع الظالمين ومناجزتهم عدوانا من باب المشاكلة اللفظية. وإلا فهو العدل والقسط ودفع العدوان عن المظلومين.

التالي السابق


الخدمات العلمية