"كاف. ها. يا. عين. صاد" ..
هذه
الأحرف المتقطعة التي تبدأ بها بعض السور، والتي اخترنا في تفسيرها أنها نماذج من الحروف التي يتألف منها هذا القرآن، فيجيء نسقا جديدا لا يستطيعه البشر مع أنهم يملكون الحروف ويعرفون الكلمات، ولكنهم يعجزون أن يصوغوا منها مثل ما تصوغه القدرة المبدعة لهذا القرآن.
وبعدها تبدأ القصة الأولى.قصة
زكريا ويحيى ، والرحمة قوامها، والرحمة تظللها، ومن ثم يتقدمها ذكر الرحمة:
ذكر رحمت ربك عبده زكريا ..
تبدأ القصة بمشهد الدعاء. دعاء
زكريا لربه في ضراعة وفي خفية:
إذ نادى ربه نداء خفيا. قال: رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا، ولم أكن بدعائك رب [ ص: 2302 ] شقيا. وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا، فهب لي من لدنك وليا، يرثني ويرث من آل يعقوب، واجعله رب رضيا
.إنه يناجي ربه بعيدا عن عيون الناس، بعيدا عن أسماعهم، في عزلة يخلص فيها لربه، ويكشف له عما يثقل كاهله ويكرب صدره ويناديه في قرب واتصال: "رب.." بلا واسطة حتى ولا حرف النداء. وإن ربه ليسمع ويرى من غير دعاء ولا نداء ولكن المكروب يستريح إلى البث، ويحتاج إلى الشكوى، والله الرحيم بعباده يعرف ذلك من فطرة البشر، فيستحب لهم أن يدعوه وأن يبثوه ما تضيق به صدورهم.
وقال ربكم: ادعوني أستجب لكم ليريحوا أعصابهم من العبء المرهق، ولتطمئن قلوبهم إلى أنهم قد عهدوا بأعبائهم إلى من هو أقوى وأقدر; وليستشعروا صلتهم بالجناب الذي لا يضام من يلجأ إليه، ولا يخيب من يتوكل عليه.
وزكريا يشكو إلى ربه وهن العظم، وحين يهن العظم يكون الجسم كله قد وهن؛ فالعظم هو أصلب ما فيه، وهو قوامه الذي يقوم به ويتجمع عليه، ويشكو إليه اشتعال الرأس شيبا، والتعبير المصور يجعل الشيب كأنه نار تشتعل ويجعل الرأس كله كأنما تشمله هذه النار المشتعلة، فلا يبقى في الرأس المشتعل سواد.
ووهن العظم واشتعال الرأس شيبا كلاهما كناية عن الشيخوخة وضعفها الذي يعانيه
زكريا ويشكوه إلى ربه وهو يعرض عليه حاله ورجاءه.
ثم يعقب عليه بقوله:
ولم أكن بدعائك رب شقيا معترفا بأن الله قد عوده أن يستجيب إليه إذا دعاه، فلم يشق مع دعائه لربه، وهو في فتوته وقوته. فما أحوجه الآن في هرمه وكبرته أن يستجيب الله له ويتم نعمته عليه.
فإذا صور حاله، وقدم رجاءه، ذكر ما يخشاه، وعرض ما يطلبه، إنه يخشى من بعده، يخشاهم ألا يقوموا على تراثه بما يرضاه، وتراثه هو دعوته التي يقوم عليها - وهو أحد أنبياء بني إسرائيل البارزين - وأهله الذين يرعاهم، ومنهم مريم التي كان قيما عليها وهي تخدم المحراب الذي يتولاه - وماله الذي يحسن تدبيره وإنفاقه في وجهه، وهو يخشى الموالي من ورائه على هذا التراث كله، ويخشى ألا يسيروا فيه سيرته، قيل لأنه يعهدهم غير صالحين للقيام على ذلك التراث.
وكانت امرأتي عاقرا .. لم تعقب فلم يكن له من ذريته من يملك تربيته وإعداده لوراثته وخلافته.
ذلك ما يخشاه. فأما ما يطلبه فهو الولي الصالح، الذي يحسن الوراثة، ويحسن القيام على تراثه وتراث النبوة من آبائه وأجداده:
فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب .
ولا ينسى
زكريا ، النبي الصالح، أن يصور أمله في ذلك الوريث الذي يرجوه في كبرته:
واجعله رب رضيا لا جبارا ولا غليظا، ولا متبطرا ولا طموعا.ولفظة: "رضي" تلقي هذه الظلال، فالرضي الذي يرضى ويرضي، وينشر ظلال الرضى فيما حوله ومن حوله.
ذلك دعاء
زكريا لربه في ضراعة وخفية. والألفاظ والمعاني والظلال والإيقاع الرخي، كلها تشارك في تصوير مشهد الدعاء.
ثم ترتسم لحظة الاستجابة في رعاية وعطف ورضى.. فالرب ينادي عبده من الملإ الأعلى:
يا زكريا ..
ويعجل له البشرى:
إنا نبشرك بغلام ويغمره بالعطف فيختار له اسم الغلام الذي بشره به:
اسمه يحيى .
وهو اسم فذ غير مسبوق:
لم نجعل له من قبل سميا ..
[ ص: 2303 ] إنه فيض الكرم الإلهي يغدقه على عبده الذي دعاه في ضراعة، وناجاه في خفية، وكشف له عما يخشى، وتوجه إليه فيما يرجو.والذي دفعه إلى دعاء ربه خوفه الموالي من بعده على تراث العقيدة وعلى تدبير المال والقيام على الأهل بما يرضي الله.وعلم الله ذلك من نيته فأغدق عليه وأرضاه.
وكأنما أفاق
زكريا من غمرة الرغبة وحرارة الرجاء، على هذه الاستجابة القريبة للدعاء؛ فإذا هو يواجه الواقع، إنه رجل شيخ بلغ من الكبر عتيا، وهن عظمه واشتعل شيبه، وامرأته عاقر لم تلد له في فتوته وصباه: فكيف يا ترى سيكون له غلام؟ إنه ليريد أن يطمئن، ويعرف الوسيلة التي يرزقه الله بها هذا الغلام:
قال: رب أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا؟ .
إنه يواجه الواقع، ويواجه معه وعد الله.وإنه ليثق بالوعد، ولكنه يريد أن يعرف كيف يكون تحقيقه مع ذلك الواقع الذي يواجهه ليطمئن قلبه، وهي حالة نفسية طبيعية، في مثل موقف
زكريا النبي الصالح، الإنسان! الذي لا يملك أن يغفل الواقع، فيشتاق أن يعرف كيف يغيره الله!.
هنا يأتيه الجواب عن سؤاله: أن هذا هين على الله سهل، ويذكره بمثل قريب في نفسه: في خلقته هو وإيجاده بعد أن لم يكن، وهو مثل لكل حي، ولكل شيء في هذا الوجود:
قال: كذلك قال ربك: هو علي هين. وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا .
وليس في الخلق هين وصعب على الله.ووسيلة الخلق للصغير والكبير، وللحقير والجليل واحدة: كن. فيكون.
والله هو الذي جعل العاقر لا تلد، وجعل الشيخ الفاني لا ينسل; وهو قادر على إصلاح العاقر وإزالة سبب العقم، وتجديد قوة الإخصاب في الرجل، وهو أهون في اعتبار الناس من إنشاء الحياة ابتداء، وإن كان كل شيء هينا على القدرة: إعادة أو إنشاء.
ومع ذلك فإن لهفة
زكريا على الطمأنينة تدفع به أن يطلب آية وعلامة على تحقق البشرى فعلا. فأعطاه الله آية تناسب الجو النفسي الذي كان فيه الدعاء وكانت فيه الاستجابة، ويؤدي بها حق الشكر لله الذي وهبه على الكبر غلاما.وذلك أن ينقطع عن دنيا الناس ويحيا مع الله ثلاث ليال ينطلق لسانه إذا سبح ربه، ويحتبس إذا كلم الناس، وهو سوي معافى في جوارحه لم يصب لسانه عوج ولا آفة.
قال: آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا ..
وكان ذلك:
فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا ..
ذلك ليعيشوا في مثل الجو الذي يعيش فيه، وليشكروا الله معه على ما أنعم عليه وعليهم من بعده.
ويترك السياق
زكريا في صمته وتسبيحه، ويسدل عليه الستار في هذا المشهد ويطوي صفحته ليفتح الصفحة الجديدة على
يحيى ; يناديه ربه من الملإ الأعلى:
يا يحيى خذ الكتاب بقوة ... .
لقد ولد يحيى وترعرع وصار صبيا، في الفجوة التي تركها السياق بين المشهدين، على طريقة القرآن في عرضه الفني للقصص، ليبرز أهم الحلقات والمشاهد، وأشدها حيوية وحركة.
[ ص: 2304 ] وهو يبدأ بهذا النداء العلوي ليحيى قبل أن يتحدث عنه بكلمة؛ لأن مشهد النداء مشهد رائع عظيم، يدل على مكانة
يحيى ، وعلى استجابة الله
لزكريا ، في أن يجعل له من ذريته وليا، يحسن الخلافة بعده في العقيدة وفي العشيرة، فها هو ذا أول موقف ليحيى هو موقف انتدابه ليحمل الأمانة الكبرى.
يا يحيى خذ الكتاب بقوة .. والكتاب هو التوراة كتاب بني إسرائيل من بعد
موسى ، وعليه كان يقوم أنبياؤهم يعلمون به ويحكمون.وقد ورث يحيى أباه
زكريا ، ونودي ليحمل العبء وينهض بالأمانة في قوة وعزم، لا يضعف ولا يتهاون ولا يتراجع عن تكاليف الوراثة.
وبعد النداء يكشف السياق عما زود به يحيى لينهض بالتبعة الكبرى:
وآتيناه الحكم صبيا، وحنانا من لدنا وزكاة، وكان تقيا ..
فهذه هي المؤهلات التي زوده الله بها وأعده وأعانه على احتمال ما كلفه إياه عند ما ناداه..
آتاه الحكمة صبيا. فكان فذا في زاده، كما كان فذا في اسمه وفي ميلاده. فالحكمة تأتي متأخرة. ولكن
يحيى قد زود بها صبيا.
وآتاه الحنان هبة لدنية لا يتكلفه ولا يتعلمه; إنما هو مطبوع عليه ومطبوع به. والحنان صفة ضرورية للنبي المكلف رعاية القلوب والنفوس، وتآلفها واجتذابها إلى الخير في رفق.
وآتاه الطهارة والعفة ونظافة القلب والطبع; يواجه بها أدران القلوب ودنس النفوس، فيطهرها ويزكيها.
وكان تقيا موصولا بالله، متحرجا معه، مراقبا له، يخشاه ويستشعر رقابته عليه في سره ونجواه.
ذلك هو الزاد الذي آتاه الله يحيى في صباه، ليخلف أباه كما توجه إلى ربه وناداه نداء خفيا. فاستجاب له ربه ووهب له غلاما زكيا..
وهنا يسدل الستار على
يحيى كما أسدل من قبل على
زكريا . وقد رسم الخط الرئيسي في حياته، وفي منهجه، وفي اتجاهه. وبرزت العبرة من القصة في دعاء
زكريا واستجابة ربه له، وفي نداء
يحيى وما زوده الله به. ولم يعد في تفصيلات القصة بعد ذلك ما يزيد شيئا في عبرتها ومغزاها..
والآن فإلى قصة أعجب من قصة ميلاد
يحيى . إنها قصة ميلاد
عيسى . وقد تدرج السياق من القصة الأولى ووجه العجب فيها هو ولادة العاقر من بعلها الشيخ، إلى الثانية ووجه العجب فيها هو ولادة العذراء من غير بعل! وهي أعجب وأغرب.
وإذا نحن تجاوزنا حادث خلق الإنسان أصلا وإنشائه على هذه الصورة، فإن حادث ولادة
عيسى ابن مريم يكون أعجب ما شهدته البشرية في تاريخها كله، ويكون حادثا فذا لا نظير له من قبله ولا من بعده.
والبشرية لم تشهد خلق نفسها وهو الحادث العجيب الضخم في تاريخها! لم تشهد خلق الإنسان الأول من غير أب وأم، وقد مضت القرون بعد ذلك الحادث; فشاءت الحكمة الإلهية أن تبرز العجيبة الثانية في مولد
عيسى من غير أب، على غير السنة التي جرت منذ وجد الإنسان على هذه الأرض، ليشهدها البشر; ثم تظل في سجل الحياة الإنسانية بارزة فذة تتلفت إليها الأجيال، إن عز عليها أن تتلفت إلى العجيبة الأولى التي لم يشهدها إنسان!
لقد جرت بسنة الله التي وضعها لامتداد الحياة بالتناسل من ذكر وأنثى في جميع الفصائل والأنواع بلا
[ ص: 2305 ] استثناء، حتى المخلوقات التي لا يوجد فيها ذكر وأنثى متميزان تتجمع في الفرد الواحد منها خلايا التذكير والتأنيث.. جرت هذه السنة أحقابا طويلة حتى استقر في تصور البشر أن هذه الطريقة الوحيدة، ونسوا الحادث الأول. حادث وجود الإنسان لأنه خارج عن القياس. فأراد الله أن يضرب لهم مثل
عيسى ابن مريم - عليه السلام - ليذكرهم بحرية القدرة وطلاقة الإرادة، وأنها لا تحتبس داخل النواميس التي تختارها. ولم يتكرر حادث
عيسى لأن الأصل هو أن تجري السنة التي وضعها الله، وأن ينفذ الناموس الذي اختاره. وهذه الحادثة الواحدة تكفي لتبقى أمام أنظار البشرية معلما بارزا على حرية المشيئة، وعدم احتباسها داخل حدود النواميس
ولنجعله آية للناس .
ونظرا لغرابة الحادث وضخامته فقد عز على فرق من الناس أن تتصوره على طبيعته وأن تدرك الحكمة في إبرازه، فجعلت تضفي على
عيسى ابن مريم - عليه السلام - صفات ألوهية، وتصوغ حول مولده الخرافات والأساطير، وتعكس الحكمة من خلقه على هذا النحو العجيب، - وهي إثبات القدرة الإلهية التي لا تتقيد - تعكسها فتشوه عقيدة التوحيد.
والقرآن في هذه السورة يقص كيف وقعت هذه العجيبة، ويبرز دلالتها الحقيقية، وينفي تلك الخرافات والأساطير.
والسياق يخرج القصة في مشاهد مثيرة حافلة بالعواطف والانفعالات، التي تهز من يقرؤها هزا كأنما هو يشهدها: