ثم يمضي السياق مع ذرية
إبراهيم : مستطردا مع فرع إسحق فيذكر موسى وهارون:
واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا وكان رسولا نبيا. وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا. ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا ..
فيصف
موسى بأنه كان مخلصا استخلصه الله له ومحضه لدعوته. وكان رسولا نبيا. والرسول هو صاحب الدعوة من الأنبياء المأمور بإبلاغها للناس. والنبي لا يكلف إبلاغ الناس دعوة إنما هو في ذاته صاحب عقيدة يتلقاها من الله. وكان في بني إسرائيل أنبياء كثيرون وظيفتهم القيام على دعوة
موسى والحكم بالتوراة التي جاء بها من عند الله:
يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا. والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء ..
ويبين فضل
موسى بندائه من جانب الطور الأيمن (الأيمن بالنسبة
لموسى إذ ذاك) وتقريبه إلى الله لدرجة الكلام. الكلام القريب في صورة مناجاة. ونحن لا ندري كيف كان هذا الكلام، وكيف أدركه
موسى .. أكان صوتا تسمعه الأذن أم يتلقاه الكيان الإنساني كله. ولا نعلم كيف أعد الله كيان
موسى البشري لتلقي كلام الله الأزلي.. إنما نؤمن أنه كان. وهو على الله هين أن يصل مخلوقه به بطريقة من الطرق، وهو بشر على بشريته، وكلام الله علوي على علويته. ومن قبل كان الإنسان إنسانا بنفخة من روح الله..
ويذكر رحمة الله
بموسى في مساعدته بإرسال أخيه
هارون معه حين طلب إلى الله أن يعينه به
وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني إني أخاف أن يكذبون . وظل الرحمة هو الذي يظلل جو السورة كله.
ثم يعود السياق إلى الفرع الآخر من ذرية
إبراهيم . فيذكر
إسماعيل أبا العرب:
واذكر في الكتاب إسماعيل، إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا. وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة، وكان عند ربه مرضيا ..
وينوه من صفات إسماعيل بأنه كان صادق الوعد. وصدق الوعد صفة كل نبي وكل صالح، فلا بد أن هذه الصفة كانت بارزة في
إسماعيل بدرجة تستدعي إبرازها والتنويه بها بشكل خاص.
وهو رسول فلا بد إن كانت له دعوة في العرب الأوائل وهو جدهم الكبير. وقد كان في العرب موحدون أفراد قبيل الرسالة المحمدية، فالأرجح أنهم بقية الموحدين من أتباع
إسماعيل . ويذكر السياق من أركان العقيدة التي جاء بها الصلاة والزكاة وكان يأمر بهما أهله.. ثم يثبت له أنه كان عند ربه مرضيا.. والرضى سمة من سمات هذه السورة البارزة في جوها وهي شبيهة بسمة الرحمة، وبينهما قرابة!
وأخيرا يختم السياق هذه الإشارات بذكر إدريس:
واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقا نبيا. ورفعناه مكانا عليا .
ولا نملك نحن تحديد زمان إدريس. ولكن الأرجح أنه سابق على
إبراهيم وليس من أنبياء بني إسرائيل فلم يرد ذكره في كتبهم. والقرآن يصفه بأنه كان صديقا نبيا ويسجل له أن الله رفعه مكانا عليا. فأعلى قدره ورفع ذكره..
[ ص: 2314 ] وهناك رأي نذكره لمجرد الاستئناس به ولا نقرره أو ننفيه، يقول به بعض الباحثين في الآثار المصرية، وهو أن
إدريس تعريب لكلمة "أوزريس" المصرية القديمة. كما أن
يحيى تعريب لكلمة يوحنا. وكلمة
إليسع تعريب لكلمة إليشع.. وأنه هو الذي صيغت حوله أساطير كثيرة. فهم يعتقدون أنه صعد إلى السماء وصار له فيها عرش عظيم. وكل من وزنت أعماله بعد الموت فوجدت حسناته ترجح سيئاته فإنه يلحق
بأوزريس الذي جعلوه إلها لهم. وقد علمهم العلوم والمعارف قبل صعوده إلى السماء.
وعلى أية حال فنحن نكتفي بما جاء عنه في القرآن الكريم ونرجح أنه سابق على أنبياء بني إسرائيل.
يستعرض السياق أولئك الأنبياء، ليوازن بين هذا الرعيل من المؤمنين الأتقياء وبين الذين خلفوهم سواء من مشركي
العرب أو من مشركي بني إسرائيل.. فإذا المفارقة صارخة والمسافة شاسعة والهوة عميقة والفارق بعيد بين السلف والخلف:
أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم، وممن حملنا مع نوح، ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل، وممن هدينا واجتبينا. إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا. فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا ... .
والسياق يقف في هذا الاستعراض عند المعالم البارزة في صفحة النبوة في تاريخ البشرية
من ذرية آدم .
وممن حملنا مع نوح .
ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل . فآدم يشمل الجميع،
ونوح يشمل من بعده،
وإبراهيم يشمل فرعي النبوة الكبيرين:
ويعقوب يشمل شجرة بني إسرائيل.
وإسماعيل وإليه ينتسب العرب ومنهم خاتم النبيين.
أولئك النبيون ومعهم من هدى الله واجتبى من الصالحين من ذريتهم.. صفتهم البارزة:
إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا .. فهم أتقياء شديدو الحساسية بالله; ترتعش وجداناتهم حين تتلى عليهم آياته، فلا تسعفهم الكلمات للتعبير عما يخالج مشاعرهم من تأثر، فتفيض عيونهم بالدموع ويخرون سجدا وبكيا..
أولئك الأتقياء الحساسون الذين تفيض عيونهم بالدمع وتخشع قلوبهم لذكر الله.. خلف من بعدهم خلف، بعيدون عن الله.
أضاعوا الصلاة فتركوها وجحدوها
واتبعوا الشهوات واستغرقوا فيها. فما أشد المفارقة، وما أبعد الشبه بين أولئك وهؤلاء!
ومن ثم يتهدد السياق هؤلاء الذين خالفوا عن سيرة آبائهم الصالحين. يتهددهم بالضلال والهلاك:
فسوف يلقون غيا والغي الشرود والضلال، وعاقبة الشرود الضياع والهلاك.
ثم يفتح باب التوبة على مصراعيه تنسم منه نسمات الرحمة واللطف والنعمى:
إلا من تاب وآمن وعمل صالحا، فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئا. جنات عدن التي وعد الرحمن عباده بالغيب. إنه كان وعده مأتيا. لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما. ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا. تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا ..
فالتوبة التي تنشئ الإيمان والعمل الصالح، فتحقق مدلولها الإيجابي الواضح.. تنجي من ذلك المصير فلا يلقى أصحابها
غيا إنما يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئا. يدخلون الجنة للإقامة. الجنة التي وعد الرحمن عباده إياها فآمنوا بها بالغيب قبل أن يروها. ووعد الله واقع لا يضيع..
[ ص: 2315 ] ثم يرسم صورة للجنة ومن فيها..
لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما فلا فضول في الحديث ولا ضجة ولا جدال، إنما يسمع فيها صوت واحد يناسب هذا الجو الراضي. صوت السلام.. والرزق في هذه الجنة مكفول لا يحتاج إلى طلب ولا كد. ولا يشغل النفس بالقلق والخوف من التخلف أو النفاد:
ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا فما يليق الطلب ولا القلق في هذا الجو الراضي الناعم الأمين..
تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا .. فمن شاء الوراثة فالطريق معروف: التوبة والإيمان والعمل الصالح. أما وراثة النسب فلا تجدي. فقد ورث قوم نسب أولئك الأتقياء من النبيين وممن هدى الله واجتبى; ولكنهم أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات، فلم تنفعهم وراثة النسب
فسوف يلقون غيا ..