وإلى هنا كان الخطاب
لموسى - عليه السلام - وكان المشهد هو مشهد المناجاة في الفلاة. وهنا يطوي السياق المسافات والأبعاد والأزمان، فإذا
هارون مع
موسى . وإذا هما معا يكشفان لربهما عن خوفهما من مواجهة
فرعون ، ومن التسرع في أذاه، ومن طغيانه إذا دعواه:
قالا: ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى. قال: لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى. فأتياه فقولا: إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم. قد جئناك بآية من ربك. والسلام على من اتبع الهدى. إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى .
وهارون لم يكن مع
موسى قطعا في موقف المناجاة الطويل - الذي تفضل المنعم فيه على عبده، فأطال له فيه النجاء، وبسط له في القول، وأوسع له في السؤال والجواب - فردهما معا بقولهما:
إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى لم يكن في موقف المناجاة. إنما هو السياق القرآني يطوي الزمان والمكان، ويترك فجوات بين مشاهد القصص، تعلم من السياق ليصل مباشرة إلى المواقف الحية الموحية ذات الأثر في سير القصص وفي وجدان الناس.
ولقد اجتمع
موسى وهارون عليهما السلام إذن بعد انصراف
موسى من موقف المناجاة بجانب الطور. وأوحى الله إلى
هارون بمشاركة أخيه في دعوة
فرعون ثم هاهما ذان يتوجهان إلى ربهما بمخاوفهما:
قالا: ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى ..
والفرط هو التسرع بالأذى للوهلة الأولى، والطغيان أشمل من التسرع وأشمل من الأذى.
وفرعون الجبار يومئذ لا يتحرج من أحدهما أو كليهما.
[ ص: 2337 ] هنا يجيئهما الرد الحاسم الذي لا خوف بعده، ولا خشية معه:
قال: لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى ..
إنني معكما.. إنه القوي الجبار الكبير المتعال. إنه الله القاهر فوق عباده. إنه موجد الأكوان والحيوات والأفراد والأشياء بقولة: كن. ولا زيادة.. إنه معهما.. وكان هذا الإجمال يكفي. ولكنه يزيدهما طمأنينة، ولمسا بالحس للمعونة:
أسمع وأرى.. فما يكون فرعون وما يملك وما يصنع حين يفرط أو يطغى؟ والله معهما يسمع ويرى؟
ومع الطمأنينة الهداية إلى صورة الدعوة وطريق الجدال:
فأتياه فقولا: إنا رسولا ربك. فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم. قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى. إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى ..
إنه البدء بإيضاح قاعدة رسالتهما:
إنا رسولا ربك ليشعر منذ اللحظة الأولى بأن هناك إلها هو ربه. وهو رب الناس. فليس هو إلها خاصا
بموسى وهارون أو ببني إسرائيل، كما كان سائدا في خرافات الوثنية يومذاك أن لكل قوم إلها أو آلهة; ولكل قبيل إلها أو آلهة. أو كما كان سائدا في بعض العصور من أن
فرعون مصر إله يعبد فيها لأنه من نسل الآلهة.
ثم إيضاح لموضوع رسالتهما:
فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم .. ففي هذه الحدود كانت رسالتهما إلى
فرعون . لاستنقاذ بني إسرائيل، والعودة بهم إلى عقيدة التوحيد، وإلى الأرض المقدسة التي كتب الله لهم أن يسكنوها (إلى أن يفسدوا فيها، فيدمرهم تدميرا) .
ثم استشهاد على صدقهما في الرسالة:
قد جئناك بآية من ربك تدل على صدقنا في مجيئنا إليك بأمر ربك، في هذه المهمة التي حددناها.
ثم ترغيب واستمالة:
والسلام على من اتبع الهدى : فلعله منهم يتلقى السلام ويتبع الهدى.
ثم تهديد وتحذير غير مباشرين كي لا يثيرا كبرياءه وطغيانه:
إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى .. فلعله لا يكون ممن كذب وتولى!
هكذا ألقى الله الطمأنينة على
موسى وهارون . وهكذا رسم لهما الطريق. ودبر لهما الأمر. ليمضيا آمنين عارفين هاديين.
وهنا يسدل الستار ليرفع. فإذا هما أمام الطاغية في حوار وجدال.
لقد أتيا
فرعون - والسياق لا يذكر كيف وصلا إليه - أتياه وربهما معهما يسمع ويرى. فأية قوة وأي سلطان هذا الذي يتكلم به
موسى وهارون ، كائنا
فرعون ما كان; ولقد أبلغاه ما أمرهما ربهما بتبليغه. والمشهد هنا يبدأ بما دار بينه وبين
موسى - عليه السلام - من حوار:
قال: فمن ربكما يا موسى ! قال: ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ..
إنه لا يريد أن يعترف بأن رب
موسى وهارون هو ربه، كما قالا له:
إنا رسولا ربك فهو يسأل موجها الكلام إلى
موسى لما بدا له أنه هو صاحب الدعوى:
فمن ربكما يا موسى ؟ من ربكما الذي تتكلمان باسمه وتطلبان اطلاق بني إسرائيل؟
[ ص: 2338 ] فأما
موسى - عليه السلام - فيرد بالصفة المبدعة المنشئة المدبرة من صفات الله تعالى:
قال: ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى .. ربنا الذي وهب الوجود لكل موجود في الصورة التي أوجده بها وفطره عليها. ثم هدى كل شيء إلى وظيفته التي خلقه لها; وأمده بما يناسب هذه الوظيفة ويعينه عليها. وثم هنا ليست للتراخي الزمني. فكل شيء مخلوق ومعه الاهتداء الطبيعي الفطري للوظيفة التي خلق لها، وليس هناك افتراق زمني بين خلق المخلوق وخلق وظيفته. إنما هو التراخي في الرتبة بين خلق الشيء واهتدائه إلى وظيفته; فهداية كل شيء إلى وظيفته مرتبة أعلى من خلقه غفلا..
وهذا الوصف الذي يحكيه القرآن الكريم عن
موسى - عليه السلام - يلخص أكمل آثار الألوهية الخالقة المدبرة لهذا الوجود: هبة الوجود لكل موجود.. وهبة خلقه على الصورة التي خلق بها. وهبة هدايته للوظيفة التي خلق لها.. وحين يجول الإنسان ببصره وبصيرته - في حدود ما يطيق - في جنبات هذا الوجود الكبير تتجلى له آثار تلك القدرة المبدعة المدبرة في كل كائن صغير أو كبير. من الذرة المفردة إلى أضخم الأجسام، و من الخلية الواحدة إلى أرقى أشكال الحياة في الإنسان.
هذا الوجود الكبير المؤلف مما لا يحصى من الذرات والخلايا، والخلائق والأحياء; وكل ذرة فيه تنبض، وكل خلية فيه تحيا، وكل حي فيه يتحرك، وكل كائن فيه يتفاعل أو يتعامل مع الكائنات الأخرى.. وكلها تعمل منفردة ومجتمعة داخل إطار النواميس المودعة في فطرتها وتكوينها بلا تعارض ولا خلل ولا فتور في لحظة من اللحظات!
وكل كائن بمفرده كون وحده وعالم بذاته، تعمل في داخله ذراته وخلاياه وأعضاؤه وأجهزته وفق الفطرة التي فطرت عليها، داخل حدود الناموس العام، في توافق وانتظام.
وكل كائن بمفرده - ودعك من الكون الكبير - يقف علم الإنسان وجهده قاصرا محدودا في دراسة خواصه ووظائفه وأمراضه وعلاجه. دراستها مجرد دراسة لا خلقها ولا هدايتها إلى وظائفها، فذلك خارج كلية عن طوق الإنسان. وهو خلق من خلق الله.. وهبه وجوده، على الهيئة التي وجد بها؟ للوظيفة التي خلق لها، كأي شيء من هاته الأشياء!
إلا أنه للإله الواحد.. ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى..
وثنى
فرعون بسؤال آخر:
قال: فما بال القرون الأولى؟ .
ما شأن القرون التي مضت من الناس؟ أين ذهبت؟ ومن كان ربها؟ وما يكون شأنها وقد هلكت لا تعرف إلهها هذا؟
قال: علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى ..
بهذا أحال
موسى ذلك الغيب البعيد في الزمان، الخافي عن العيان، إلى ربه الذي لا يفوت علمه شيء ولا ينسى شيئا. فهو الذي يعلم شأن تلك القرون كله. في ماضيها وفي مستقبلها. والغيب لله والتصرف في شأن البشر لله.
ثم يستطرد فيعرض على
فرعون آثار تدبير الله في الكون وآلائه على بني الإنسان. فيختار بعض هذه الآثار المحيطة
بفرعون ، المشهودة له في
مصر ذات التربة الخصبة والماء الموفور والزروع والأنعام:
[ ص: 2339 ] الذي جعل لكم الأرض مهدا، وسلك لكم فيها سبلا، وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى. كلوا وارعوا أنعامكم. إن في ذلك لآيات لأولي النهى ..
والأرض كلها مهد للبشر في كل مكان وزمان. مهد كمهد الطفل. وما البشر إلا أطفال هذه الأرض. يضمهم حضنها ويغذوهم درها! وهي ممهدة لهم كذلك للسير والحرث والزرع والحياة. جعلها الخالق المدبر كذلك يوم أعطى كل شيء خلقه. فأعطى هذه الأرض خلقها على الهيئة التي خلقت بها صالحة للحياة التي قدرها فيها; وأعطى البشر خلقهم كذلك على الهيئة التي خلقهم بها صالحين للحياة في هذه الأرض التي مهدها لهم وجعلها مهدهم.. المعنيان متقاربان متصلان.
وصورة المهد وصفة التمهيد لا تبدو في بقعة من الأرض كما تبدو في
مصر . ذلك الوادي الخصيب الأخضر السهل الممهد الذي لا يحوج أهله إلا إلى أيسر الكد في زرعه وجناه. وكأنما هو المهد الحاني على الطفل يضمه ويرعاه
والخالق المدبر الذي جعل الأرض مهدا، شق للبشر فيها طرقا وأنزل من السماء ماء. ومن ماء المطر تتكون الأنهار وتفيض - ومنها نهر النيل القريب من
فرعون - فيخرج النبات أزواجا من أجناس كثيرة.
ومصر أظهر نموذج لإخراج النبات لطعام الإنسان ورعي الحيوان.
وقد شاء الخالق المدبر أن يكون النبات أزواجا كسائر الأحياء. وهي ظاهرة مطردة في الأحياء كلها. والنبات في الغالب يحمل خلايا التذكير، وخلايا التأنيث في النبتة الواحدة وأحيانا يكون اللقاح في نبتة ذكر منفردة كما هو الحال في الفصائل الحيوانية. وبذلك يتم التناسق في نواميس الحياة ويطرد في كل الفصائل والأنواع..
إن في ذلك لآيات لأولي النهى .. وما من عقل مستقيم يتأمل هذا النظام العجيب ثم لا يطلع فيه على آيات تدل على الخالق المدبر الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى..
ويكمل السياق حكاية قول
موسى بقول مباشر من الله جل وعلا:
منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى. ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى .
من هذه الأرض التي جعلناها لكم مهدا وسلكنا لكم فيها سبلا وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا به أزواجا من نبات شتى، للأكل والمرعى.. من هذه الأرض خلقناكم، وفي هذه الأرض نعيدكم، ومنها نخرجكم بعد موتكم.
والإنسان مخلوق من مادة هذه الأرض. عناصر جسمه كلها من عناصرها إجمالا. ومن زرعها يأكل، ومن مائها يشرب، ومن هوائها يتنفس. وهو ابنها وهي له مهد. وإليها يعود جثة تطويها الأرض، ورفاتا يختلط بترابها، وغازا يختلط بهوائها. ومنها يبعث إلى الحياة الأخرى، كما خلق في النشأة الأولى.
وللتذكير بالأرض هنا مناسبة في مشهد الحوار مع
فرعون الطاغية المتكبر، الذي يتسامى إلى مقام الربوبية; وهو من هذه الأرض وإليها! وهو شيء من الأشياء التي خلقها الله في الأرض وهداها إلى وظيفتها..
ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى أريناه الآيات الكونية التي وجهه إليها
موسى - عليه السلام - فيما حوله، وآيتي العصا واليد يجملهما هنا لأنهما بعض آيات الله، وما في الكون منها أكبر وأبقى. لذلك لا يفصل السياق هنا عرض هاتين الآيتين على
فرعون ، فهذا مفهوم ضمنا، إنما يفصل رده على الآيات كلها فنفهم أنه يشير إليهما..
قال: أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى ؟ فلنأتينك بسحر مثله فاجعل بيننا وبينك موعدا [ ص: 2340 ] لا نخلفه نحن ولا أنت، مكانا سوى. قال: موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى
.. وهكذا لم يمض
فرعون في الجدل، لأن حجة
موسى - عليه السلام - فيه واضحة وسلطانه فيه قوي، وهو يستمد حجته من آيات الله في الكون، ومن آياته الخاصة معه.. إنما لجأ إلى اتهام
موسى بالسحر الذي يجعل العصا حية تسعى، ويحيل اليد بيضاء من غير سوء. وقد كان السحر أقرب خاطر إلى
فرعون لأنه منتشر في ذلك الوقت في
مصر ; وهاتان الآيتان أقرب في طبيعتهما إلى المعروف من السحر.. وهو تخييل لا حقيقة، وخداع للبصر والحواس، قد يصل إلى خداع الإحساس، فينشئ فيه آثارا محسوسة كآثار الحقيقة. كما يشاهد من رؤية الإنسان لأشياء لا وجود لها، أو في صورة غير صورتها. وما يشاهد من تأثر المسحور أحيانا تأثرات عصبية وجسدية كما لو كان الأثر الواقع عليه حقيقة.. وليس من هذا النوع آيتا
موسى . إنما هما من صنع القدرة المبدعة المحولة للأشياء حقا. تحويلا وقتيا أو دائما.
قال: أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى ؟ .
ويظهر أن استعباد بني إسرائيل كان إجراء سياسيا خوفا من تكاثرهم وغلبتهم. وفي سبيل الملك والحكم لا يتحرج الطغاة من ارتكاب أشد الجرائم وحشية وأشنعها بربرية وأبعدها عن كل معاني الإنسانية وعن الخلق والشرف والضمير. ومن ثم كان
فرعون يستأصل بني إسرائيل ويذلهم بقتل المواليد الذكور. واستبقاء الإناث; وتسخير الكبار في الشاق المهلك من الأعمال.. فلما قال له
موسى وهارون: أرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم. قال:
أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى ؟ لأن إطلاق بني إسرائيل تمهيد للاستيلاء على الحكم والأرض.
وإذا كان
موسى يطلب إطلاق بني إسرائيل لهذا الغرض، وكل ما يقدمه هو عمل من أعمال السحر، فما أسهل الرد عليه:
فلنأتينك بسحر مثله .. وهكذا يفهم الطغاة أن دعوى أصحاب العقائد إنما تخفي وراءها هدفا من أهداف هذه الأرض; وأنها ليست سوى ستار للملك والحكم.. ثم هم يرون مع أصحاب الدعوات آيات، إما خارقة كآيات
موسى ، وإما مؤثرة في الناس تأخذ طريقها إلى قلوبهم وإن لم تكن من الخوارق. فإذا الطغاة يقابلونها بما يماثلها ظاهريا.. سحر نأتي بسحر مثله! كلام نأتي بكلام من نوعه! صلاح نتظاهر بالصلاح! عمل طيب نرائي بعمل طيب! ولا يدركون أن للعقائد رصيدا من الإيمان، ورصيدا من عون الله; فهي تغلب بهذا وبذاك، لا بالظواهر والأشكال!
وهكذا طلب
فرعون إلى
موسى تحديد موعد للمباراة مع السحرة.. وترك له اختيار ذلك الموعد: للتحدي:
فاجعل بيننا وبينك موعدا وشدد عليه في عدم إخلاف الموعد زيادة في التحدي
لا نخلفه نحن ولا أنت .
وأن يكون الموعد في مكان مفتوح مكشوف:
مكانا سوى مبالغة في التحدي!
وقبل
موسى - عليه السلام - تحدي
فرعون له; واختار الموعد يوم عيد من الأعياد الجامعة، يأخذ فيه الناس في
مصر زينتهم، ويتجمعون في الميادين والأمكنة المكشوفة;
قال: موعدكم يوم الزينة . وطلب أن يجمع الناس ضحى، ليكون المكان مكشوفا والوقت ضاحيا. فقابل التحدي بمثله وزاد عليه اختيار الوقت في أوضح فترة من النهار وأشدها تجمعا في يوم العيد. لا في الصباح الباكر حيث لا يكون الجميع قد غادروا البيوت. ولا في الظهيرة فقد يعوقهم الحر، ولا في المساء حيث يمنعهم الظلام من التجمع أو من وضوح الرؤية..!!
وانتهى المشهد الأول من مشاهد اللقاء بين الإيمان والطغيان في الميدان..
[ ص: 2341 ] وهنا يسدل الستار ليرفع على مشهد المباراة: