ثم يعرض السياق لدعوى المشركين من العرب أن لله ولدا. وهي إحدى مقولات الجاهلية السخيفة:
وقالوا: اتخذ الرحمن ولدا. سبحانه! بل عباد مكرمون، لا يسبقونه بالقول، وهم بأمره يعملون. يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم، ولا يشفعون إلا لمن ارتضى، وهم من خشيته مشفقون. ومن يقل منهم: [ ص: 2375 ] إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم. كذلك نجزي الظالمين
..
ودعوى البنوة لله - سبحانه - دعوى اتخذت لها عدة صور في الجاهليات المختلفة. فقد عرفت عند مشركي
العرب في صورة بنوة الملائكة لله. وعند مشركي اليهود في صورة بنوة
العزير لله. وعند مشركي النصارى في صورة بنوة
المسيح لله.. وكلها من انحرافات الجاهلية في شتى الصور والعصور.
والمفهوم أن الذي يعنيه السياق هنا هو دعوى العرب في بنوة الملائكة. وهو يرد عليهم ببيان طبيعة الملائكة.
فهم ليسوا بنات لله - كما يزعمون -
بل عباد مكرمون عند الله. لا يقترحون عليه شيئا تأدبا وطاعة وإجلالا. إنما يعملون بأمره لا يناقشون. وعلم الله بهم محيط. ولا يتقدمون بالشفاعة إلا لمن ارتضاه الله ورضي أن يقبل الشفاعة فيه. وهم بطبيعتهم خائفون لله مشفقون من خشيته - على قربهم وطهارتهم وطاعتهم التي لا استثناء فيها ولا انحراف عنها. وهم لا يدعون الألوهية قطعا. ولو ادعوها - جدلا - لكان جزاؤهم جزاء من يدعي الألوهية كائنا من كان، وهو جهنم. فذلك جزاء الظالمين الذين يدعون هذه الدعوى الظالمة لكل حق، ولكل أحد، ولكل شيء في هذا الوجود.
وكذلك تبدو دعوى المشركين في صورتها هذه واهية مستنكرة مستبعدة، لا يدعيها أحد. ولو ادعاها لذاق جزاءها الأليم!
وكذلك يلمس الوجدان بمشهد الملائكة طائعين لله، مشفقين من خشيته. بينما المشركون يتطاولون ويدعون!
وعند هذا الحد من عرض الأدلة الكونية الشاهدة بالوحدة; والأدلة النقلية النافية للتعدد; والأدلة الوجدانية التي تلمس القلوب.. يجول السياق بالقلب البشري في مجالي الكون الضخمة، ويد القدرة تدبره بحكمة، وهم معرضون عن آياتها المعروضة على الأنظار والقلوب:
أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما. وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون؟ وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم، وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون. وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر. كل في فلك يسبحون ..
إنها جولة في الكون المعروض للأنظار، والقلوب غافلة عن آياته الكبار، وفيها ما يحير اللب حين يتأمله بالبصيرة المفتوحة والقلب الواعي والحس اليقظ.
وتقريره أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقتا، مسألة جديرة بالتأمل، كلما تقدمت النظريات الفلكية في محاولة تفسير الظواهر الكونية، فحامت حول هذه الحقيقة التي أوردها القرآن الكريم منذ أكثر من ثلاث مائة وألف عام.
فالنظرية القائمة اليوم هي أن المجموعات النجمية - كالمجموعة الشمسية المؤلفة من الشمس وتوابعها ومنها الأرض والقمر.. كانت سديما. ثم انفصلت وأخذت أشكالها الكروية وأن الأرض كانت قطعة من الشمس ثم انفصلت عنها وبردت..
ولكن هذه ليست سوى نظرية فلكية. تقوم اليوم وقد تنقض غدا. وتقوم نظرية أخرى تصلح لتفسير الظواهر الكونية بفرض آخر يتحول إلى نظرية..
[ ص: 2376 ] ونحن - أصحاب هذه العقيدة - لا نحاول أن نحمل النص القرآني المستيقن على نظرية غير مستيقنة، تقبل اليوم وترفض غدا. لذلك لا نحاول في هذه الظلال أن نوفق بين النصوص القرآنية والنظريات التي تسمى علمية. وهي شيء آخر غير الحقائق العلمية الثابتة القابلة للتجربة كتمدد المعادن بالحرارة وتحول الماء بخارا وتجمده بالبرودة.. إلى آخر هذا النوع من الحقائق العلمية. وهي شيء آخر غير النظريات العلمية - كما بينا من قبل في الظلال - .
إن القرآن ليس كتاب نظريات علمية ولم يجئ ليكون علما تجريبيا كذلك. إنما هو منهج للحياة كلها. منهج لتقويم العقل ليعمل وينطلق في حدوده. ولتقويم المجتمع ليسمح للعقل بالعمل والانطلاق. دون أن يدخل في جزئيات وتفصيليات علمية بحتة. فهذا متروك للعقل بعد تقويمه وإطلاق سراحه.
وقد يشير القرآن أحيانا إلى حقائق كونية كهذه الحقيقة التي يقررها هنا:
أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما ونحن نستيقن هذه الحقيقة لمجرد ورودها في القرآن. وإن كنا لا نعرف منه كيف كان فتق السماوات والأرض. أو فتق السماوات عن الأرض. ونتقبل النظريات الفلكية التي لا تخالف هذه الحقيقة المجملة التي قررها القرآن. ولكننا لا نجري بالنص القرآني وراء أية نظرية فلكية، ولا نطلب تصديقا للقرآن في نظريات البشر. وهو حقيقة مستيقنة! وقصارى ما يقال: إن النظرية الفلكية القائمة اليوم لا تعارض المفهوم الإجمالي لهذا النص القرآني السابق عليها بأجيال!
فأما شطر الآية الثاني:
وجعلنا من الماء كل شيء حي فيقرر كذلك حقيقة خطيرة. يعد العلماء كشفها وتقريرها أمرا عظيما. ويمجدون "دارون" لاهتدائه إليها! وتقريره أن الماء هو مهد الحياة الأول.
وهي حقيقة تثير الانتباه حقا. وإن كان ورودها في القرآن الكريم لا يثير العجب في نفوسنا، ولا يزيدنا يقينا بصدق هذا القرآن. فنحن نستمد الاعتقاد بصدقه المطلق في كل ما يقرره من إيماننا بأنه من عند الله. لا من موافقة النظريات أو الكشوف العلمية له. وأقصى ما يقال هنا كذلك: إن نظرية النشوء والارتقاء لدارون وجماعته لا تعارض مفهوم النص القرآني في هذه النقطة بالذات.
ومنذ أكثر من ثلاثة عشر قرنا كان القرآن الكريم يوجه أنظار الكفار إلى عجائب صنع الله في الكون، ويستنكر ألا يؤمنوا بها وهم يرونها مبثوثة في الوجود:
أفلا يؤمنون؟ وكل ما حولهم في الكون يقود إلى الإيمان بالخالق المدبر الحكيم؟
ثم يمضي في عرض مشاهد الكون الهائلة:
وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم ..
فيقرر أن هذه الجبال الرواسي تحفظ توازن الأرض فلا تميد بهم ولا تضطرب. وحفظ التوازن يتحقق في صور شتى. فقد يكون توازنا بين الضغط الخارجي على الأرض والضغط الداخلي في جوفها، وهو يختلف من بقعة إلى بقعة: وقد يكون بروز الجبال في موضع معادلا لانخفاض الأرض في موضع آخر.. وعلى أية حال فهذا النص يثبت أن للجبال علاقة بتوازن الأرض واستقرارها. فلنترك للبحوث العلمية كشف الطريقة التي يتم بها هذا التوازن فذلك مجالها الأصيل. ولنكتف من النص القرآني الصادق باللمسة الوجدانية والتأمل الموحي، وبتتبع يد القدرة المبدعة المدبرة لهذا الكون الكبير:
وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون ..
وذكر الفجاج في الجبال وهي الفجوات بين حواجزها العالية، وتتخذ سبلا وطرقا.. ذكر هذه الفجاج
[ ص: 2377 ] هنا مع الإشارة إلى الاهتداء يصور الحقيقة الواقعة أولا، ثم يشير من طرف خفي إلى شأن آخر في عالم العقيدة. فلعلهم يهتدون إلى سبيل يقودهم إلى الإيمان، كما يهتدون في فجاج الجبال!
وجعلنا السماء سقفا محفوظا ..
والسماء كل ما علا. ونحن نرى فوقنا ما يشبه السقف. والقرآن يقرر أن السماء سقف محفوظ. محفوظ من الخلل بالنظام الكوني الدقيق. ومحفوظ من الدنس باعتباره رمزا للعلو الذي تتنزل منه آيات الله..
وهم عن آياتها معرضون ..
وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون .
والليل والنهار ظاهرتان كونيتان. والشمس والقمر جرمان هائلان لهما علاقة وثيقة بحياة الإنسان في الأرض. وبالحياة كلها.. والتأمل في توالي الليل والنهار، وفي حركة الشمس والقمر. بهذه الدقة التي لا تختل مرة; وبهذا الاطراد الذي لا يكف لحظة.. جدير بأن يهدي القلب إلى وحدة الناموس، ووحدة الإرادة، ووحدة الخالق المدبر القدير.