وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي يذكر آلهتكم وهم بذكر الرحمن هم كافرون (36)
خلق الإنسان من عجل سأريكم آياتي فلا تستعجلون (37)
ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين (38)
لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم ولا هم ينصرون (39)
بل تأتيهم بغتة فتبهتهم فلا يستطيعون ردها ولا هم ينظرون (40)
ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون (41)
قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن بل هم عن ذكر ربهم معرضون (42)
أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا لا يستطيعون نصر أنفسهم ولا هم منا يصحبون (43)
بل متعنا هؤلاء وآباءهم حتى طال عليهم العمر أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها أفهم الغالبون (44)
[ ص: 2379 ] قل إنما أنذركم بالوحي ولا يسمع الصم الدعاء إذا ما ينذرون (45)
ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك ليقولن يا ويلنا إنا كنا ظالمين (46)
ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين (47)
بعد ذلك الشوط البعيد المديد في أرجاء الكون، وفي نواميس الوجود، وفي سنن الدعوات، وفي مصائر البشر، وفي مصارع الغابرين.. يرتد السياق إلى مثل ما بدأ به في مطلع السورة عن استقبال المشركين للرسول - صلى الله عليه وسلم - وما معه من الوحي; واستهزائهم به وإصرارهم على الشرك..
ثم يتحدث عن طبيعة الإنسان العجول، واستعجالهم بالعذاب. فيحذرهم ما يستعجلون به. وينذرهم عاقبة الاستهزاء بالرسول - صلى الله عليه وسلم - ويعرض لهم مشهدا من تقلص ظلال الغالبين المسيطرين في الدنيا. ومشهدا من عذاب المكذبين في الآخرة.
ويختم الشوط بدقة الحساب والجزاء في يوم القيامة. فيربط الحساب والجزاء بنواميس الكون وفطرة الإنسان وسنة الله في حياة البشر وفي الدعوات..
وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا. أهذا الذي يذكر آلهتكم وهم بذكر الرحمن هم كافرون .
إن هؤلاء الكفار يكفرون بالرحمن، خالق الكون ومدبره، ليستنكرون على الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يذكر آلهتهم الأصنام بالسوء، بينما هم يكفرون بالرحمن دون أن يتحرجوا أو يتلوموا.. وهو أمر عجيب جد عجيب!
وإنهم ليلقون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالهزء، يستكثرون عليه أن ينال من أصنامهم تلك:
أهذا الذي يذكر آلهتكم؟ ولا يستكثرون على أنفسهم - وهم عبيد من عبيد الله - أن يكفروا به، ويعرضوا عما أنزل لهم من قرآن.. وهي مفارقة عجيبة تكشف عن مدى الفساد الذي أصاب فطرتهم وتقديرهم للأمور!
ثم هم يستعجلون بما ينذرهم به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من عذاب; ويحذرهم من عاقبته. والإنسان بطبعه عجول:
خلق الإنسان من عجل. سأريكم آياتي فلا تستعجلون. ويقولون: متى هذا الوعد إن كنتم صادقين! ..
خلق الإنسان من عجل .. فالعجلة في طبعه وتكوينه. وهو يمد ببصره دائما إلى ما وراء اللحظة الحاضرة يريد ليتناوله بيده، ويريد ليحقق كل ما يخطر له بمجرد أن يخطر بباله، ويريد أن يستحضر كل ما يوعد به ولو كان في ذلك ضرره وإيذاؤه. ذلك إلا أن يتصل بالله فيثبت ويطمئن، ويكل الأمر لله فلا يتعجل قضاءه. والإيمان ثقة وصبر واطمئنان.
[ ص: 2380 ] وهؤلاء المشركون كانوا يستعجلون بالعذاب، ويسألون متى هذا الوعد. الوعد بعذاب الآخرة وعذاب الدنيا.. فها هو ذا القرآن يرسم لهم مشهدا من عذاب الآخرة، ويحذرهم ما أصاب المستهزئين قبلهم من عذاب الدنيا:
لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم ولا هم ينصرون. بل تأتيهم بغتة فتبهتهم، فلا يستطيعون ردها ولا هم ينظرون.. ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون .
لو يعلمون ما سيكون لكان لهم شأن غير شأنهم، ولكفوا عن استهزائهم واستعجالهم.. فلينظروا ماذا سيكون.
ها هم أولاء تنوشهم النار من كل جانب، فيحاولون في حركة مخبلة - يرسمها التعبير من وراء السطور - أن يكفوا النار عن وجوههم وعن ظهورهم، ولكنهم لا يستطيعون. وكأنما تلقفتهم النار من كل جانب، فلا هم يستطيعون ردها، ولا هم يؤخرون عنها، ولا هم يمهلون إلى أجل قريب.
وهذه المباغتة جزاء الاستعجال. فلقد كانوا يقولون:
متى هذا الوعد إن كنتم صادقين فكان الرد هو هذه البغتة التي تذهل العقول، وتشل الإرادة، وتعجزهم عن التفكير والعمل، وتحرمهم مهلة الإنظار والتأجيل.
ذلك عذاب الآخرة. فأما عذاب الدنيا فقد حل بالمستهزئين قبلهم. فإذا كانوا هم لم يقدر عليهم عذاب الاستئصال، فعذاب القتل والأسر والغلب غير ممنوع. وليحذروا الاستهزاء برسولهم. وإلا فمصير المستهزئين بالرسل معروف، جرت به السنة التي لا تتخلف وشهدت به مصارع المستهزئين.
أم إن لهم من يرعاهم بالليل والنهار غير الرحمن، ويمنعهم من العذاب في الدنيا أو الآخرة من دون الله؟
قل: من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن؟ بل هم عن ذكر ربهم معرضون. أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا؟ لا يستطيعون نصر أنفسهم، ولا هم منا يصحبون .
إن الله هو الحارس على كل نفس بالليل والنهار. وصفته هي الرحمة الكبرى، وليس من دونه راع ولا حام. فاسألهم: هل لهم حارس سواه؟
وهو سؤال للإنكار، وللتوبيخ على غفلتهم عن ذكر الله، وهو الذي يكلؤهم بالليل والنهار، ولا راعي لهم سواه:
بل هم عن ذكر ربهم معرضون .
ثم يعيد عليهم السؤال في صورة أخرى:
أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا؟ فتكون هي التي تحرسهم إذن وتحفظهم؟ كلا فهؤلاء الآلهة
لا يستطيعون نصر أنفسهم فهم من باب أولى لا يستطيعون نصر سواهم.
ولا هم منا يصحبون فيستمدوا القوة من صحبة القدرة لهم - كما استمدها
هارون وموسى وربهما يقول لهما:
إنني معكما أسمع وأرى ..
إن هذه الآلهة مجردة من القوة بذاتها; وليس لها مدد من الله تستمد منه القوة. فهي عاجزة عاجزة.
وبعد هذا الجدل التهكمي الذي يكشف عن سخف ما يعتقده المشركون وخوائه من المنطق والدليل.. يضرب السياق عن مجادلتهم; ويكشف عن علة لجاجتهم; ثم يلمس وجدانهم لمسة تهز القلوب، وهو يوجهها إلى تأمل يد القدرة، وهي تطوي رقعة الأرض تحت أقدام الغالبين، وتقص أطرافها فتردهم إلى حيز منها منزو صغير، بعد السعة والمنعة والسلطان!
[ ص: 2381 ] بل متعنا هؤلاء وآباءهم حتى طال عليهم العمر. أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها؟ أفهم الغالبون؟ ..
فهو المتاع الطويل الموروث الذي أفسد فطرتهم. والمتاع ترف. والترف يفسد القلب ويبلد الحس. وينتهي إلى ضعف الحساسية بالله، وانطماس البصيرة دون تأمل آياته. وهذا هو الابتلاء بالنعمة حين لا يستيقظ الإنسان لنفسه ويراقبها، ويصلها دائما بالله، فلا تنساه.
ومن ثم يلمس السياق وجدانهم بعرض المشهد الذي يقع كل يوم في جانب من جنبات الأرض حيث تطوى رقعة الدول المتغلبة وتنحسر وتتقلص. فإذا هي دويلات صغيرة وكانت إمبراطوريات. وإذا هي مغلوبة على أمرها وكانت غالبة. وإذا هي قليلة العدد وكانت كثيرة. قليلة الخيرات وكانت فائضة بالخيرات..
والتعبير يرسم يد القدرة وهي تطوي الرقعة وتنقص الأطراف وتزوي الأبعاد ... فإذا هو مشهد ساحر فيه الحركة اللطيفة، وفيه الرهبة المخيفة!
أفهم الغالبون ؟ فلا يجري عليهم ما يجري على الآخرين؟
وفي ظل هذا المشهد الذي ترتعش له القلوب يؤمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يلقي كلمة الإنذار:
قل: إنما أنذركم بالوحي ولا يسمع الصم الدعاء إذا ما ينذرون ..
فليحذروا أن يكونوا هم الصم الذين لا يسمعون! فتطوى رقعة الأرض تحت أقدامهم، وتقص يد القدرة أطرافهم، وتتحيفهم وما هم فيه من متاع!!
ويتابع السياق إيقاعه المؤثر في القلوب، فيصورهم لأنفسهم حين يمسهم العذاب:
ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك ليقولن: يا ويلنا إنا كنا ظالمين ..
والنفحة تطلق غالبا في الرحمة. ولكنها هنا تطلق في العذاب. كأنما ليقال: إن أخف مسة من عذاب ربك تطلقهم يجأرون بالاعتراف. ولكن حيث لا يجدي الاعتراف. فلقد سبق في سياق السورة مشهد القرى التي أخذها بأس الله، فنادى أهلها:
يا ويلنا إنا كنا ظالمين. فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين ..
وإذن فهو الاعتراف بعد فوات الأوان. ولخير منه أن يسمعوا نذير الوحي وفي الوقت متسع، قبل أن تمسهم نفحة من العذاب!
ويختم الشوط بالإيقاع الأخير من مشاهد يوم الحساب:
ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا. وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها. وكفى بنا حاسبين ..
والحبة من خردل تصور أصغر ما تراه العيون وأخفه في الميزان، وهي لا تترك يوم الحساب ولا تضيع. والميزان الدقيق يشيل بها أو يميل!
فلتنظر نفس ما قدمت لغد. وليصغ قلب إلى النذير. وليبادر الغافلون المعرضون المستهزءون قبل أن يحق النذير في الدنيا أو في الآخرة. فإنهم إن نجوا من عذاب الدنيا فهناك عذاب الآخرة الذي تعد موازينه،
[ ص: 2382 ] فلا تظلم نفس شيئا، ولا يهمل مثقال حبة من خردل.
وهكذا ترتبط موازين الآخرة الدقيقة، بنواميس الكون الدقيقة، بسنن الدعوات، وطبائع الحياة والناس. وتلتقي كلها متناسقة موحدة في يد الإرادة الواحدة مما يشهد لقضية التوحيد وهي محور السورة الأصيل.