ثم إشارة إلى قصة
زكريا ويحيى - عليهما السلام - واستجابة الله
لزكريا عند ما دعاه:
وزكريا إذ نادى ربه. رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين. فاستجبنا له، ووهبنا له يحيى، وأصلحنا له زوجه. إنهم كانوا يسارعون في الخيرات، ويدعوننا رغبا ورهبا، وكانوا لنا خاشعين ..
وقصة مولد
يحيى سبقت مفصلة في سورة
مريم وفي سورة آل عمران. وهي ترد هنا متناسقة مع السياق.
[ ص: 2395 ] فتبدأ بدعاء
زكريا :
رب لا تذرني فردا بلا عقب يقوم على الهيكل: وكان
زكريا قائما على هيكل العبادة في بني إسرائيل قبل مولد
عيسى - عليه السلام - ولا ينسى
زكريا أن الله هو وارث العقيدة ووارث المال:
وأنت خير الوارثين إنما هو يريد من ذريته من يحسن الخلافة بعده في أهله ودينه وماله. لأن الخلق ستار القدرة في الأرض.
وكانت الاستجابة سريعة ومباشرة:
فاستجبنا له، ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه وكانت عقيما لا تصلح للنسل.. ويختصر السياق تفصيلات هذا كله ليصل مباشرة إلى استجابة الله للدعاء.
إنهم كانوا يسارعون في الخيرات .. فسارع الله في استجابة الدعاء.
ويدعوننا رغبا ورهبا .. رغبة في الرضوان ورهبة للغضب. فقلوبهم وثيقة الصلة دائمة التطلع.
وكانوا لنا خاشعين .. لا متكبرين ولا متجبرين..
بهذه الصفات في
زكريا وزوجه وابنهما يحيى استحق الوالدان أن ينعم عليهما بالابن الصالح. فكانت أسرة مباركة تستحق رحمة الله ورضاه.
أخيرا يذكر
مريم بمناسبة ذكر ابنها عليه السلام:
والتي أحصنت فرجها، فنفخنا فيها من روحنا، وجعلناها وابنها آية للعالمين ..
ولا يذكر هنا اسم
مريم ، لأن المقصود في سلسلة الأنبياء هو ابنها - عليه السلام - وقد جاءت هي تبعا له في السياق. إنما يذكر صفتها المتعلقة بولدها:
والتي أحصنت فرجها . أحصنته فصانته من كل مباشرة. والإحصان يطلق عادة على الزواج بالتبعية، لأن الزواج يحصن من الوقوع في الفاحشة. أما هنا فيذكر في معناه الأصيل، وهو الحفظ والصون أصلا من كل مباشرة شرعية أو غير شرعية. وذلك تنزيها
لمريم عن كل ما رماها به اليهود مع يوسف النجار الذي كان معها في خدمة الهيكل. والذي تقول عنه الأناجيل المتداولة، إنه كان قد تزوجها ولكنه لم يدخل بها ولم يقربها.
لقد أحصنت فرجها
فنفخنا فيها من روحنا والنفخ هنا شائع لا يحدد موضعه كما في سورة التحريم - وقد سبق الحديث عن هذا الأمر في تفسير سورة
مريم - ومحافظة على أن نعيش في ظلال النص الذي بين أيدينا فإننا لا نفصل ولا نطول، فنمضي مع النص إلى غايته:
وجعلناها وابنها آية للعالمين ..
وهي آية غير مسبوقة ولا ملحوقة. آية فذة واحدة في تاريخ البشرية جميعا. ذلك أن المثل الواحد من هذا النوع يكفي لتتأمله البشرية في أجيالها جميعا; وتدرك يد القدرة الطليقة التي تخلق النواميس، ولكنها لا تحتبس داخل النواميس.
وفي نهاية الاستعراض الذي شمل نماذج من الرسل، ونماذج من الابتلاء، ونماذج من رحمة الله - يعقب بالغرض الشامل من هذا الاستعراض:
إن هذه أمتكم أمة واحدة، وأنا ربكم فاعبدون ..
إن هذه أمتكم. أمة الأنبياء. أمة واحدة. تدين بعقيدة واحدة. وتنهج نهجا واحدا. هو الاتجاه إلى الله دون سواه.
[ ص: 2396 ] أمة واحدة في الأرض، ورب واحد في السماء. لا إله غيره ولا معبود إلا إياه.
أمة واحدة وفق سنة واحدة، تشهد بالإرادة الواحدة في الأرض والسماء.
وهنا يلتقي هذا الاستعراض بالمحور الذي تدور عليه السورة كلها; وتشترك في تقرير عقيدة التوحيد، تشهد بها مع سنن الكون وناموس الوجود..